المقام الأوّل فی أنّها هل لها معنی واحد، أو معانٍ متعدّدة؟
وعلی الأوّل : هل معناها الواحد هو الطلب، أو البعث البسیط؛ من غیر تلوّنه بلون خاصّ، أو هو الطلب الوجوبیّ، أو البعث الوجوبیّ، أو الندبیّ، فیصیر المحتملات ستّة.
وعلی الثانی : فهل هی حقیقة فی التعدّد بالوضع التعیینیّ، أو بالوضع التعیّنی؛ لکثرة الاستعمال مجازاً؟
وتلک المعانی المتعدّدة کثیرة، منها: الطلب بقسمیه، والإغراء، والتحذیر، والاستهزاء، والتعجیز، والإرشاد، وغیر ذلک من المذکورات فی الکتب المفصّلة.
کما أنّ الأقوال فی المسألة مختلفة :
أمّا وحدة المعنیٰ، وتعدّد المستعمل فیه مجازاً، فهو ساقط، کما مرّ فی
[[page 77]]المجازات.
وأمّا توهّم تعدّد المعنیٰ فهو فی غایة الوهن؛ لما فیه ـ مضافاً إلی البعد ـ من عدم شهادة شیء علیه، وتخیّل أنّ کثرة الاستعمالات فی المختلفات من المواقف، دلیل تعدّد الوضع، فی غیر محلّه؛ لأنّ الخلط بین الدواعی استلزم ذلک، کما أفاده الأصحاب رحمهم الله.
فالهیئة فی قوله تعالیٰ: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَکُمْ» مثلها فی قوله تعالیٰ: «أَقِیمُوْا الصَّلٰوةَ» إلاّ أنّ الداعی فی الاُولیٰ إفادة العجز بلازم الاستعمال، وفی الثانیة إفادة الاستهزاء به، وفی الثالثة کذلک؛ أی إفادة نفس البعث إلی المتعلّق مثلاً، وهکذا فی التمنّی والترجّی.
بل الأمر کذلک فی سائر الهیئات المستعملة فی المختلفات، کالاستفهام؛ فإنّ أداته لیست موضوعة للمتعدّد؛ حتّیٰ یصیر له معنی استفهامیّاً حقیقیّاً، ومعنی إنکاریّاً وهکذا، بل الخصوصیّات مستفادة من اللواحق الخارجة عن حدود الموضوع له.
وقد یشکل : بأنّه لابدّ من الالتزام بالتعدّد؛ لأنّ کلّ استعمال لایخلو من داعٍ، فهو أمر لاحق بالهیئة، وغیر داخل فی الموضوع له، ففیما یستعمل فی العجز والاستهزاء والتهدید والإنذار، یکون المستعمل فیه واحداً، والدواعی مختلفة، ویرید المستعمِل إبراز داعیه بذلک، وإظهارَ مقصوده بمثله؛ من غیر الاستعمال المجازیّ، أو
[[page 78]]لزوم تعدّد الموضوع له ، فلابدّ من کونه کذلک أیضاً ؛ فی الهیئات المستعملة فی الکتاب تکلیفاً للعباد، فیکون الداعی فی الأمر بالصلاة والصوم، إبرازَ شیء زائد علیٰ أصل البعث والطلب؛ وهو اللزوم والثبوت والوجوب والتحتّم، مع أنّه غیر قابل للتصدیق، ولیس أمراً وراء ذلک یمکن أن یعدّ داعیاً فی هذه الاستعمالات، فیتعیّن تعدّد الموضوع له.
وبعبارة اُخریٰ : ما أفاده «الکفایة» بقوله: «إنّ الصیغة لم تستعمل فی واحد منها إلاّ فی إنشاء الطلب، ولکنّ الداعی إلیٰ ذلک کما یکون تارة: هو البعث والتحریک نحو المطلوب الواقعیّ، یکون اُخریٰ: أحد هذه الاُمور، کما لایخفیٰ» انتهیٰ، فی غایة الإشکال ؛ لأنّ البعث والتحریک هو تمام مفاد الهیئة، ولیس داعیاً زائداً علیٰ أصل الموضوع له. مع أنّک عرفت لزوم أمر آخر وراء الموضوع له والمستعمل فیه، یعدّ هو الداعی، کما فی سائر الاستعمالات.
وما أفاده بقوله: «قصاری...» ـ وهو کون الموضوع له هو إنشاء الطلب المقیّد بداعی البعث والتحریک، فیکون مجازاً فی سائر الاستعمالات ـ غیر سدید عندنا؛ من إنکار الاستعمالات المجازیّة ؛ بمعنی الاستعمال فی غیر الموضوع له.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الهیئة للبعث والتحریک الاعتباریّ إلی المادّة، وإذا لم یکن قرینة علیٰ إحدی الدواعی، فهی تفید مطلوبیّة المادّة حقیقةً.
إن قلت : ماهو الداعی هو جعل المادّة والمتعلّق علیٰ ذمّة المکلّفین، وتکون متکفّلة لإفادة الجهة الوضعیّة فی هذا البعث والتحریک الإنشائیّ؛ فی خصوص التکالیف الإلهیّة، فالداعی فی «صلّ» وأمثاله، جعل الصلاة فی الذمّة ودَیْناً.
قلت : هذا غیر معقول للزوم التسلسل؛ ضرورة أنّ مجرّد اشتغال الذمّة، غیر
[[page 79]]کافٍ لانبعاث المکلّف والقیام نحوه، فلابدّ من إیجاب إفراغ الذمّة والأمر به، وإذا کان مفاد الأمر الثانی أیضاً جعل شیء فی الذمّة یتسلسل، فلاتغفل.
فتحصّل : أنّ القول بوحدة الموضوع له، لیس واضحاً سبیله؛ سواء کان المستعمل فیه أیضاً واحداً، فلایکون مجازاً أصلاً، أو کان متعدّداً ومجازاً.
إن قلت : لابدّ من الالتزام بتعدّد المستعمل فیه، فیکشف منه تعدّد الموضوع له؛ لأنّ الأصل کون الاستعمال علیٰ نعت الحقیقة، وذلک لأنّ الإنشاء هو إبراز المعتبر النفسانیّ والوجود الذهنیّ؛ بحیث یکون ما به الإنشاء بعد الإنشاء، مصداقاً لذلک المعتبر حقیقة.
مثلاً : استعمال الهیئة فی الاستهزاء والتعجیز ونحوهما، لیس إلاّ إبراز ما فی القلب والنفس من السخریة والاستهزاء وما شاکلهما، فالصیغة فی کلّ مورد منهما، تبرز معنی یختلف عن الثانی ویغایره، فیکون المعنی المستعمل فیه متعدّداً.
قلت : هذا من الآراء الفاسدة التی أشرنا فی الصحیح والأعمّ وفی غیر موضع إلی مفاسده؛ ضرورة أنّ الاُمور النفسانیّة ـ بقید النفسانیّة ـ غیر قابلة للإبراز والإظهار، وما هو القابل هو المعانی الاعتباریّة مع قطع النظر عن التقیّد المزبور، فیکون الإنشاء هوالإیجاد الاعتباریّالمستلزم للوجود الاعتباریّ فیمحیط الاعتبار.
فالمستعمل فیه أمر، وما هو السبب لبروز الدواعی أمر آخر؛ فإنّ المستعمل فیه هو المعنی الإیجادیّ؛ بعثاً کان، أو طلباً، أو غیرهما، وهو الموضوع له، وهذا الاستعمال بعد تحقّقه، کاشف ومبرز لما هو الداعی إلیه، والمقصود الأصلیّ منه، والمراد الجدّی، فلاتخلط.
وأمّا توهّم : أنّ قضیّة هذا التقریر تعدّد المستعمل فیه، دون الموضوع له؛ لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقیقة، فهو أفسد؛ لما اُشیر إلیه من أنّ جمیع الاستعمالات
[[page 80]]المجازیّة، حقائق لغویّة، ومجازات عقلیّة. هذا کلّه بناءً علی التعدّد.
وأمّا بناءً علی الوحدة، فاحتمال کون الموضوع له الطلب الندبیّ أو البعث الندبیّ، فی غایة الوهن؛ لعدم الشاهد علیه، والاستعمال الکثیر فی الندب، لایقتضی کونه هو الموضوع له، وغیره مجازاً، کما هو الظاهر.
وکذا احتمال کونه الطلب الوجوبیّ، أو البعث الوجوبیّ؛ بمعنیٰ أنّ الموضوع له مرکّب ومقیّد، کما عرفت من «الکفایة» احتماله، بل تقویته.
ولکنّ المستفاد منه هو القضیّة الحینیّة، وهی غیر معقولة فی المقام؛ لرجوعها إلی القضیّة المشروطة. اللهمّ إلاّ أن ترجع إلیٰ تعهّد الواضع ممنوعیّة الاستعمال إلاّ فی مقام الداعی إلی البعث والتحریک، وهذا أیضاً غیر صحیح جدّاً.
وأمّا کون القید هو الوجوب، فهو وإن ساعده أحیاناً بعض الانصرافات، ولکنّ المتبادر والمنصرف إلیه فی مجموع الهیئات، عدم کون الوجوب بمفهومه الاسمیّ داخلاً، ولاسیّما علی القول: بأنّ مفادها معانٍ حرفیّة، واستفادة الوجوب عند البعث والتحریک والطلب والاستعمال بأمر آخر، کمالایخفیٰ.
فبقی احتمالان آخران :
أحدهما : ماهو المشهور؛ من أنّها موضوعة لإنشاء الطلب.
وثانیهما: أنّها موضوعة للبعث نحو المادّة والمتعلّق؛ من غیر کون مفهوم الطلب الاسمیّ وارداً فی الموضوع له، أو البعث الاسمیّ، لأنّها تفید المعنی الجزئیّ. وتفسیر مفاد الصیغة: بالطلب والبعث والإغراء، غیر مستلزم لکونها داخلة فی
[[page 81]]الموضوع له بالمفاهیم الاستقلالیّة.
والذی هو الأقرب فعلاً إلی النفس ـ بعد المراجعة إلی الموارد المختلفة من استعمالات الصیغ، خصوصاً فیما تستعمل بالنسبة إلی الحیوانات، ولاسیّما عند مراجعة الأبکمین فی إفادة المقاصد، وخصوصاً إذا راجعنا حالات البشر قبل التأریخ؛ وأنّ الألفاظ قامت مقام الحرکات الصادرة من الأعضاء والید فی الإفادة والاستفادة ـ أنّ الهیئات قائمة مقام الإشارات من الآخرین، وإذا کان ربّ الکلب یأمر المتعلّم نحو الصید بالید والهیئات الاستعمالیّة، فلایتبادر منه إلاّ أنّها موضوعة للتحریک الاعتباریّ والبعث والإغراء نحو المادّة فی عالم الوضع واللغات. وسائر المفاهیم ـ من الطلب وغیره ـ مستفادة من ذلک؛ للملازمة العقلائیّة بین هذه الحرکات والصیغ، وتلک المعانی، فافهم.
إن قلت : کیف یمکن ترشّح الإرادة إلی البعث جدّاً فی سائر الاستعمالات، کالتعجیز، والاستهزاء؟! والاستعمال الأعم خارج عن الموضوع له بالضرورة، وإلاّ یلزم کون البعث المتوجّه إلی الجدار والدار، من البعث حقیقة، فاحتمال کون المخاطب ینبعث من هذا التحریک الاعتباریّ والبعث بالصیغة، شرط فی صدق الموضوع له وتحقّقه.
فما فی «الکفایة» وغیره: من أنّه فی جمیع هذه الاستعمالات إنشاء الطلب، غیر قابل للتصدیق، وهکذا ما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه .
[[page 82]]قلت : لامنع من الالتزام بأنّه لإنشاء الطلب الأعمّ من الجدّ والهزل، وللبعث والإغراء الأعمّ من الواقعیّ والصوریّ.
اللهمّ إلاّ أن یقال : کیف یمکن الالتزام بأنّه صوریّ وهزل، مع أنّ الاستعمال متقوّم بالجدّ، أو أنّ الاستهزاء متقوّم به أیضاً؟!
والذی هو التحقیق فی المقام : ما ذکرناه فی الأوامر الامتحانیّة والأعذاریّة؛ من أنّ ترشّح الإرادة الجدّیة، لیس منوطاً بکون المصلحة فی المأمور به، بل ربّما یتّفق الصلاح فی الجعل، ویؤدّی إلیٰ ترشّح الإرادة الجدّیة، کما مرّ تفصیله فی الطلب والإرادة، فعلیه یترشّح الإرادة الجدّیة إلی البعث والزجر؛ لما فیه المقصود والمطلب: وهو السخریة والتعجیز.
فتحصّل إلیٰ هنا : أنّ ماهو المتفاهم من الهیئة ـ بعد المراجعة إلی قیامها مقام الإشارات ـ هو التحریک والبعث والإغراء، لا بمفهومها الإنشائیّ، بل بمصداقها الشائع الصناعیّ.
إن قلت : بناءً علیه یلزم کون الموضوع له خاصّاً، مع أنّ مقتضیٰ ما تحرّر عموم الموضوع له فی الهیئات.
قلت : نعم، ولکنّه فیما لم یکن دلیل یقتضیه.
إن قلت : قضیّة بعض الشبهات السابقة فی الوضع، امتناع عموم الوضع، وخصوص الموضوع له.
قلت : نعم، ولکنّه قد مضیٰ إمکان ذلک بالاستعمال؛ وإلغاء الاختصاص بدالّ
[[page 83]]آخر، وأنّ الواضع کما یمکن له وضع الخاصّ، والموضوع له العامّ بالاستعمال، وإلغاء الخصوصیّة، یمکن له العکس؛ بإلغاء الاختصاص، ففی مقام وضع أسماء الإشارة مثلاً، یتوصّل بالاستعمال الخارجیّ إلی الموضوع له، وبإفادة عدم اختصاص هذه اللفظة بهذه الشخصیّة والهویّة، یتوصّل إلیٰ تجویز استعمالها فی سائر المسانخات مع المستعمل فیه والمشابهات معه، فافهم واغتنم.
ثمّ إنّک قد عرفت فیما مضیٰ : أنّ الوضع فی جمیع الهیئات نوعیّ، وهکذا فی الموادّ؛ لما عرفت: من أنّ المناط فی الوضع الشخصیّ، کون الهیئة والمادّة معاً موضوعة بوضع واحد، کما فی الجوامد.
وأیضاً قد مضیٰ : أنّه وضع فعلیّ، لا تهیّـئی؛ لأنّ معنی الوضع التهیّئی، عدم دلالة الموضوع علیٰ شیء إلاّ مع الانضمام، والمادّة والهیئة الموضوعتان وإن دلّتا علیٰ معنی مخصوص، ولکنّ المادّة بلا هیئة معلومة أو موضوعة، تدلّ علی المعنی التصوّری، ولا دالّ معها علیٰ خصوصیّتها، وهکذا فی جانب الهیئة، فلاتخلط.
[[page 84]]