المقام الرابع
فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
المعروف بین أکثر المخالفین أو الأشاعرة فقط، جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه. والمشهور بین المتأخّرین عدم جوازه.
واختار السیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه جوازه فی الخطابات الکلّیة القانونیّة فی الجملة.
وقبل الإشارة إلیٰ ماهو التحقیق فی المسألة، لابدّ من الإشارة إلیٰ مقدّمة نافعة: وهی أنّ القوم توهّموا أنّ النزاع فی مسألة علمیّة نافعة فی الفقه، وتکون ـ کسائر المسائل الاُصولیّة ـ قابلة للاستنباط بها فی المسائل الفرعیّة. وخاضوا فی المراد من عنوان البحث، ومن القیود الواقعة فی محطّ النزاع؛ علی احتمالات ثلاثة
[[page 237]]فی کلمة «یجوز» واحتمالات أربعة فی «الشرط» واحتمالین فی «الانتفاء» فبضرب بعضها ببعض تحصل احتمالات أکثر من عشرین مثلاً. وهکذا.
غافلین عن أنّ هذه المسألة، جواب عن الشبهة الواقع فیها الناس کلّهم، ولابدّ لکلّ أحد من دفعها وحلّها، وتلک الشبهة: هی أنّ الله تبارک وتعالیٰ یکون عالماً بالمکلّفین وحالاتهم، ویکون هو الأمر والمقنّن، وهو الناهی، فإذا کان الأمر کذلک، فهل یمکن ترشّح الإرادة الجدّیة والأمر الحقیقیّ من العالم بالوقائع؛ وهو عصیان العبید وطغیانهم، فلا یأتمرون، ولا ینتهون، وعند ذلک کیف یعقل صدور الأمر والنهی منه جلّ وعلا؟! من غیر اختصاص بالأمر، بل النهی مثله فی الجواز وعدمه.
فالمراد انتفاء شرط الأمر؛ وهو احتمال الانبعاث ، أو القطع به، أو انتفاء ما یؤدّی إلی انتفاء هذا الشرط؛ وهو العجز عن المأمور به.
وأمّا توهّم : أنّ انتفاء الشرط بعد الإقرار بالشرطیّة، یستلزم انتفاء الأمر، کما فی «الفصول» و «الکفایة» ففی غیر محلّه؛ ضرورة أنّ من الممکن الالتزام بأنّ الأوامر الامتحانیّة والإعذاریّة، أمر یورث استحقاق العقوبة، کما مرّ منّا تصدیقه، فلاتخلط.
وأمّا جعل هذه المسألة من متفرّعات بحث الطلب والإرادة، فهو فی غیر محلّه، ولقد علمت منّا الأدلّة الناهضة علیٰ تعدّد الطلب والإرادة، وما کان فیها هذه المسألة؛ فإنّها لاتنتهی إلی الالتزام بالتعدّد؛ ضرورة أنّ تلک المسألة حول وحدة
[[page 238]]الطلب والإرادة، وهذه المسألة راجعة إلی الأمر، وهو مقام الإنشاء والجعل. ولو کانت من متفرّعات تلک المسألة، کان علی الأشاعرة إنکار إمکان الأمر مع العلم بانتفاء شرطه، دون الطلب، حتّیٰ یثبت بذلک تعدّد الأمر؛ وهو الإرادة المظهرة مع الطلب، فما تریٰ فی کتب أصحابنا الاُصولیّـین، أیضاً لا یخلو من تأسّف.
فبالجملة : البحث فی المقام، یکون حول تصویر إصدار الأمر والنهی من العالم بانتفاء شرط تنفیذهما، وشرط نافعیّتهما، وعدم کونهما لغواً، وهذا مشکل وإعضال لابدّ من حلّه، فإرجاع البحث إلی أنّ الأمر مع العلم بانتفاء شرط وجوده، کما فی «الفصول» و «الکفایة» بعد الاعتراف بالشرطیّة، أو إرجاع البحث إلیٰ فقد شرط المأمور به والمکلّف به، کما فی کلام جمع آخرین، غیر سدید، بل البحث یرجع إلیٰ أنّ فقد شرط الأمر مع العلم بفقدانه، هل یستلزم امتناع صدور الإرادة والجدّ من المولی العالم الحکیم، أم لا ؟
فهذه المسألة سیقت لرفع شبهة عقلیّة، وراجعة إلیٰ مقام الإثبات؛ وهو فرض علم الآمر بعدم تأثیر الأمر ولغویّته، فکیف یمکن عقاب عصاة الناس، مع عدم إمکان توجیه الخطاب الجدّی إلیهم؟! من غیر فرق بین الکفّار ومن بحکمهم، ومن غیر فرق بین کون الحکم الصادر من العالم بانتفاء الشرط أصلاً تکلیفیّاً، أو وضعیّاً؛ فإنّ جعل الأحکام الوضعیّة، بلحاظ الثمرات المترتّبة علیها، فإذا کان عالماً بانتفاء الثمرة ـ وهی التکالیف المستتبعة لها ـ لایعقل صدور الجدّ منه إلیٰ جعلها،
[[page 239]]فلیتدبّر جیّداً.
ثمّ إنّ انتفاء الشرط تارة : یکون لأجل عصیان المأمور، وخبث سریرته، وأنّه یعاند الآمر ویستهزئ به.
واُخریٰ : یکون لأجل عجزه وجهله. والکلّ شریک فی امتناع توجیه الخطاب الجدّی إلیهم المستتبع للعقاب.
فتحصّل : أنّ المراد لیس انتفاء شرط الأمر مع الإقرار بشرطیّته؛ فإنّه یناقض نفس العنوان، بل المراد أنّ ما توهّمه المشهور من الشرطیّة لصدور الأمر ـ وهو احتمال الانبعاث، أو القطع بالانبعاث ـ شرط عامّ، أو یمکن تحقّق الأمر بدونه، واختار الثانی جماعة وأیّ دلیل أدلّ علی الشیء من وقوعه؟! فإنّ عصاة الناس یعاقبون علی الفروع والتکالیف، وهی لاتصیر تکلیفاً إلاّ بالأمر الجدّی لا الامتحانیّ، ولا الإعذاری.
وبعدما عرفت ذلک یعلم : أنّ مجرّد اشتراک لفظة «الأمر» أورث اختیار هذا البحث فی الأوامر، وإلاّ فهو أجنبیّ عن المسألة الاُصولیّة.
نعم، ماهو البحث المنتج: هو أنّ احتمال الانبعاث أو القطع به، من شرائط تحقّق الأمر، أم لا، وإذا کان هو من الشرائط، فلایمکن وجوده بدونه، وإذا لم یکن من الشرائط فیمکن، وحیث إنّ التحقیق ـ علیٰ ما مرّ ـ أنّ الأوامر الامتحانیّة والإعذاریة تکون أمراً واقعاً وحقیقة، وأنّ المیزان المصحّح للعقوبة لیس کون الأمر بداعی الانبعاث، بل ماهو المصحّح أعمّ من ذلک، فلا منع من تحقّقه بدون الشرط المزبور.
هذا کلّه تمام الکلام فی إمکان تصویر الأمر مع فقد الشرط المراد فی العنوان.
[[page 240]]وأمّا حلّ الشبهة المشار إلیها، فهو من طریقین:
الطریق الأوّل : ما مرّ منّا فی مباحث الطلب والإرادة: من أنّ استحقاق العقوبة، لا یتوقّف علی الأمر بداعی الانبعاث، ولا علیٰ غیره من الأوامر الامتحانیّة أو الإعذاریة؛ فإنّ عدم ترشّح الإرادة الجدّیة من قبل المولیٰ تارة: یکون لأجل عدم المقتضی فی المتعلّق، أو لوجود المانع.
واُخریٰ : یکون لأجل علمه بعدم قیام المکلّف بالوظیفة، فإنّه عند ذلک یستحقّ العقوبة عند العقلاء بالضرورة؛ لأنّ المکلّف عارف بغرض المولیٰ قهراً، فلابدّ من القیام علیٰ طبقه، فلایلزم من امتناع أمر الآمر عند فقد شرطه، عدم استحقاقه العقوبة.
الطریق الثانی: ما سلکه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : من أنّ الخطابات القانونیّة لاتنحلّ إلیٰ خطابات عدیدة، حتّیٰ یلزم مراعاة شرط الخطاب الشخصیّ فی تلک الخطابات طرّاً، وذلک الشرط هو احتمال الانبعاث، والمکلّف العاصی والعاجز والجاهل، غیر مخاطبین بالخطاب الجدّی قطعاً، بل الخطابات القانونیّة لا تنحلّ إلی الکثیر؛ فیکون الخطاب واحداً، والمخاطب کثیراً.
فإن کان جمیع المخاطبین فاقدین لقابلیّة التأثیر، فهو خطاب لغو؛ غیر ممکن ترشّح الجدّ علیٰ طبقه.
وإن کانوا مختلفین کما هو المتعارف، فإرادة الجدّ مترشّحة علی العنوان الکلّی المنطبق، ولایکون لأحد عذر عند العلم والقدرة، فیکون الحکم بالنسبة إلی العصاة جدّیاً مع فقد شرطه، فترتفع الشبهة، وتصیر النتیجة إمکان أمر الآمر مع العلم
[[page 241]]بانتفاء شرطه فی بعض المواقف، فلیتدبّر.
[[page 242]]