المقام الثانی : فی حجیّة العامّ بعد التخصیص
هل العامّ بعد التخصیص یبقیٰ علیٰ حجّیته، أم لا؟ ویلزم علی الثانی سقوط جمیع العمومات فیالکتاب والسنّة؛ لما اشتهر: «من أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ».
[[page 221]]ومن هنا یظهر : أنّ نسبة عدم الحجیّة إلی القائلین بالمجازیّة، فی غیر محلّها؛ ضرورة أنّ المنسوب إلی المشهور إلی القرن الحادی عشر، مجازیّة العامّ بعد التخصیص، ومع ذلک کان من القدیم إلی العصر المزبور، یتمسّک بجمیع العمومات بلا وقفة وانتظار فی کثیر من الفروع، بل الفقه ینقلب عمّا هو علیه.
ومن هنا یظهر : أنّ القول بالحجیّة لایدور مدار الحقیقة والمجاز، کما اُشیر إلیه فی أوّل البحث. هذا مع إمکان اختیار عدم الحجّیة وإن قلنا بالحقیقة وعدم لزوم المجازیّة؛ وذلک لاُمور نشیر إلیها علیٰ إجمالها :
فمنها : أنّ من الاُصول العقلائیّة اللاّزم جریانها فی المحاورات حتّیٰ یصحّ الاحتجاج وتتمّ الحجّة، هی أصالة التطابق، ولو ورد دلیل علیٰ عدم الإرادة الجدّیة بالنسبة إلیٰ طائفة من العامّ، یصحّ أن یشکّ فی حصول الجدّ وتحقّقه بالنسبة إلی الطائفة الاُخریٰ؛ لوجود ما یصلح للقرینیّة علیٰ ذلک، وهو خروج طائفة منها قطعاً، وعدم التطابق بینها؛ أی بین الحکم الإنشائیّ والفعلیّ، وبین الإرادة الاستعمالیّة والجدّیة.
مثلاً : إذا ورد «أوْفُوا بِالْعُقُودِ» ثمّ ورد «لاتفِ بعقد الهبة» ثمّ شکّ فی أنّ عقد الجعالة واجب الوفاء، أم لا، یشکل حجّیة العامّ بالنسبة إلیه؛ لأنّه من الشّک المستقرّ المستند إلیٰ ما یصلح للقرینیّة علیٰ عدم جریان أصالة التطابق التی هی من الاُصول العقلائیّة، فمجرّد کونه عامّاً غیر کافٍ، فلا تخلط.
ومنها : أنّ فی العمومات لایستعمل العامّ استعمالات کثیرة، بخلاف الحکم،
[[page 222]]فإنّه یتکثّر فی الاعتبار؛ علیٰ وجه تحرّر فی بحوث الترتّب، ویأتی فی مباحث البراءة والاشتغال.
فإذا کان هناک استعمال واحد، فإن کان هو المراد جدّاً فهو، وإلاّ فلو کان بعض المستعمل فیه مراداً جدّیاً، لایمکن فی ظرف الشکّ استکشاف الجدّ حسب الألفاظ المستعملة.
وتوهّم الحکایات الکثیرة أو الاستعمالات المتعدّدة، غیر صحیح، بل هناک حکایة واحدة عن العموم الاستغراقیّ بوجه الإجمال، واستعمال فارد بالضرورة، ولذلک فی القضایا الإخباریّة یکون له الصدق الواحد والکذب الواحد.
ومنها : أنّ کاشفیّة الألفاظ عن الإرادة الجدّیة کاشفیّة نوعیّة، وتکون حجّة لتلک الکاشفیّة، والعامّ قبل التخصیص لا قصور فی کشفه عن الإرادة الجدّیة، وأمّا بعده فلا معنیٰ لکاشفیّته بعد اتضاح عدم کشفه فی مورد التخصیص؛ لما لایتکثّر کشفه، بل هو ذو کشف وحدانیّ، فتبصّر.
أقول : کلّ هذه الوجوه من التسویلات فی مقابل البدیهة الناطق بها کافّة الناس والعقلاء، وبالنسبة إلی القوانین العرفیّة والشرعیّة؛ ضرورة تمسّکهم وبنائهم العملیّ علی الاعتناء والاحتجاج بالعمومات المخصّصة، ولا یعتنون باحتمال المخصّص الآخر، أو احتمال عدم إرادة مورد الشکّ من الأوّل، أو غیر ذلک، وهذا ممّا لا غبار علیه، ولا ثمرة فیه.
ومع ذلک کلّه لاتخلو من المناقشات تلک الوجوه الإجمالیّة، مثلاً یتوجّه إلی الوجه الأوّل: أنّ الاتکاء المزبور یصحّ فیما لم یعلم من عادة المقنّن تدریج البیان
[[page 223]]وتقسیط المخصّصات علی الأزمنة لمصالح عنده، فلایکون مثل ذلک من الاتکاء علیٰ ما یصلح للقرینیّة.
ومن هنا یظهر ما فی الوجه الثانی: وهو أنّ قضیّة العموم الاستغراقیّ، تعدّد الأحکام الجدّیة وإن کان الاستعمال والحکایة واحداً، وإذا قامت القرینة علیٰ عدم الجدّ بالنسبة إلیٰ طائفة من الأفراد، لایبقیٰ وجه لصرف النظر عن مورد الشکّ.
وبعبارة اُخریٰ : أصالة التطابق بین الجدّ والاستعمال ترجع إلی التطابق بین الحکم الإنشائیّ والفعلیّ، والحکم الإنشائیّ متعدّد، وهکذا الفعلیّ، فما قامت علیه القرینة الخاصّة خارج عن الأصل المزبور، دون الباقی؛ لتعدّد الحکم انحلالاً حکمیّاً واعتباریّاً.
وأمّا حدیث الکاشفیّة فهو أیضاً مورد المناقشة، فإنّ ماهو الکاشف عن الحکم الأعمّ من الإنشائیّ والجدّی، هی الألفاظ المستعملة، وماهو الکاشف عن الأحکام الفعلیّة والجدّیة هی أصالة التطابق التی هی مصبّها الأحکام الانحلالیّة الکثیرة، وعندئذٍ لا منع من ورود التخصیص وقیام القرینة علیٰ طائفة منها، وبقاء الباقی تحت العامّ والاحتجاج.
والذی یسهّل الخطب ما اُشیر إلیه أوّلاً: وهو أنّ بناء العقلاء فی جمیع المحاورات علی التمسّک بالعمومات، مع أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ، ولو تمّ ما توهّم من سقوط الحجّیة، یلزم النظام الجدید والفقه الحدیث.
[[page 224]]