الرابع : حول جواز التمسّک بالإطلاق فی الشبهة المصداقیّة
هل یجوز التمسّک بالإطلاق فی الشبهة المصداقیّة للمقیّد، أم لا؟
الذی یظهر من الأکثر؛ أنّ هذه المسألة کأصل المسألة بلا تفاوت بین المطلق والعامّ، ولاسیّما علی القول: بأنّ مقدّمات الإطلاق تنوب مناب أداة العموم.
وقد أشرنا فیما سلف إلیٰ ما أفاده العلاّمة الأراکیّ قدس سره فقال فی موضع من «المقالات»: «إنّ مرکز بحثهم فی المقام إنّما هو فی فرض التخصیص، وإلاّ ففی باب تقیید المطلقات لم یتوهّم أحد جواز التمسّک بالإطلاق عند الشکّ فی المقیّد، فبعد فرض تقیید الرقبة بالإیمان لم یتوهّم أحد التشبّث بإطلاق الرقبة عند الشکّ فی إیمانها، کما لم یتوهّم أحد التمسّک بإطلاق الصلاة عند الشکّ فی الطهارة أو القبلة أو
[[page 267]]غیرها من القیود» انتهیٰ محلّ الحاجة.
أقول أوّلاً : لیس معنی التقیید هو تعنون المطلق فی مرحلة الإثبات، فیکون موضوع الدلیل مصبّاً للاستظهار الخاصّ، فإنّه لعب بالقانون علی الوجه غیر الجائز، بل التقیید فی المثال الأوّل ـ الراجع إلیٰ متعلّق المتعلّق ـ کالتخصیص، فقول المولیٰ: «أعتق الرقبة» یفید بحسب الإنشاء أنّ الرقبة تمام الموضوع، وإذا ورد منفصلاً: «لاتعتق الکافرة» یکون هو القرینة علیٰ عدم الجدّ بالنسبة إلیٰ تمام مضمون المطلق، کما فی العامّ. واستکشاف أنّ الموضوع مضیّق ثبوتاً أمر یشترک فیه العامّ والمطلق أیضاً.
وعلیٰ هذا، فما یقتضی التمسّک بالعامّ یقتضی التمسّک بالمطلق، وقضیّة شموله ـ کما قیل ـ استکشاف أنّ مورد الشبهة لیس بکافر.
إن قلت : العامّ یتعرّض لحکم الفرد دون المطلق.
قلت : نعم، إلاّ أنّ مقتضیٰ شمول الإطلاق ـ أی مقتضی اقتضاء الإطلاق ـ کون المشکوک مورد الجدّ والتطابق بین الإرادتین.
وبالجملة تحصّل : عدم الفرق بین بابی العامّ والإطلاق من هذه الناحیة.
ولعمری، إنّ صاحب «المقالات» نظراً إلیٰ أنّ مفهوم التقیید هو کشف القید فی مصبّ الإطلاق، وتقیید المطلق بالقید الوارد، توهّم التفکیک المزبور، مع أنّ مفاد التخصیص أیضاً لیس إلاّ جعل الحکم فی العامّ مخصوصاً بطائفة، ولیس هذا أیضاً إلاّ إیراد القید فی محطّ العموم.
وثانیاً : قد عرفت أنّ من التخصیص ماهو واقعیّ، کالموت العارض علیٰ أفراد العلماء، فتکون الأفراد خارجة بالتخصیص أبداً، کخروج العقد الجائز عن
[[page 268]]عموم «أوْفُوا بِالْعُقُودِ» ومن التخصیص ماهو بمنزلة نتیجة التقیید، کإخراج الفسّاق من العلماء، فلا منع من کون التخصیص موجباً لتقیید مصبّ العامّ، فیکون قوله: «أکرم کلّ عالم» بعد التخصیص بمنزلة قوله: «أکرم کلّ عالم عادل» کما إذا ورد من الابتداء.
وثالثاً : لاینبغی الخلط بین باب متعلّقات الأحکام، وباب موضوعاتها، فإنّ فی الصورة الاُولی لایجوز التمسّک بالعامّ ـ لو فرض عامّ ـ ولا بالمطلق عند الشکّ والشبهة؛ لأنّه من الشکّ فی السقوط بعد العلم بالثبوت، وفی الصورة الثانیة یجوز؛ لأنّه من الشکّ فی الثبوت والتعلّق، لانحلال العامّ إلی الأحکام الکثیرة.
مثلاً : إذا ورد «أقِمِ الصَّلٰوةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلَیٰ غَسَقِ الَّلیْلِ» فقضیّة إطلاقه الوجوب، وبعدمـا ورد: «لا تصـلّ فی...» الموجب لإفادة الشرطیّة فی صحّة الصلاة مثلاً، لا یجوز التمسّک بالإطلاق المزبور عند الشکّ فی الثوب واللباس، لأنّه یرجع إلی الشکّ فی أنّ المأتیّ به، واجد للمأمور به المستفاد من الدلیلین، أم لا.
وبعبارة اُخریٰ : استفادة حدود المأمور به من الأدلّة المختلفة، لاتقضی رجوع العناوین إلیٰ عنوان واحد، بل لایعقل ذلک؛ لأنّ الحکم الإنشائیّ الثابت لطبیعة الصلاة، لایتجافیٰ عن محلّه أبداً، فالمقیِّد ودلیل القید من القرینة علی أنّ الطبیعة المطلقة فی کلّ مورد صدقت، لیست مورد الجدّ والإرادة الحتمیّة، ولا معنیٰ للزیادة علیٰ ذلک، کما هو الواضح.
[[page 269]]ودعویٰ : أنّ الشکّ المزبور یرتفع علی الأعمّی خصوصاً بإطلاق دلیل الطبیعة، غیر مسموعة؛ لأنّ للمأمور به قیوداً لابدّ من إحرازها.
وممّا یؤیّد عدم انحلال إطلاق دلیل الجزء فی إطلاق دلیل الطبیعة؛ المعارضة التی أوقعوها بینهما فی موارد کثیرة محرّرة فی بحوث الاشتغال، ولو کان دلیل القید راجعاً إلیٰ دلیل الطبیعة وساقطاً برأسه، فلا معنی لتوهّم المعارضة، وعلیٰ هذا فلاینقلب الموضوع فی مرحلة الإثبات والإنشاء فی جمیع المواقف، ویکون الموضوع بحسب الجدّ واللبّ مضیّقاً بالضرورة فی جمیع الموارد.
[[page 270]]