وجوه اُخر علی وجوب الفحص
إذا تحصّل ذلک فلیعلم : أنّه ربّما یستند فی هذه المسألة إلیٰ اُمور اُخر لابأس بالإشارة الإجمالیّة إلیها، وهی کثیرة:
الأوّل : الإجماع، ودعویٰ أنّه لیس بحجّة فی هذه المسألة، فی غیرمحلّها.
نعم، قد عرفت فیما مضیٰ: أنّ هذه المسألة ما کانت معنونة فی العصر الأوّل، بل هی من المسائل المستحدثة فی القرن الرابع؛ حسبما حکاه سیّدنا الاُستاذ البروجردیّ قدس سره وعلیه فلا صغریٰ للادعاء المذکور. مع أنّه ربّما یحتمل کون مستنده عقول المجمعین، لا الروایة الخاصّة أو رأی المعصوم علیه السلام فتأمّل.
الثانی : الأخبار الخاصّة الناطقة بوجوب التعلّم القائلة بأنّه «یؤتیٰ بالعبد یوم القیامة فیقال له: هلاّ عملت؟! فإن قال: لم أعلم، یقال له: هلاّ تعلّمت حتّیٰ تعمل؟!
[[page 291]]وبالجملة : وقع الحثّ الکثیر فیها علی التعلّم والتفقّه فی الدین، فعلیٰ هذا یجب علی العبید الفحص عن جمیع الأحکام بخصوصیّاتها وحدودها، ولا عذر لهم فی ترک العمل بها عن جهل.
ولذا ففی «نهایة الاُصول» و«المقالات» : «والأخبار الواردة بلسان «هلاّ تعلّمت؟!» جاریة بالمناط حتّیٰ فی باب الاُصول اللفظیّة» انتهیٰ.
ولم یستدلّ بها الآخرون، ولعلّ ذلک لأنّ من ینکر وجوب الفحص یدّعی العلم الفعلیّ والحجّة الفعلیّة بمجرّد إصابة العامّ، ولا معنیٰ حینئذٍ لإیجاب التعلیم علیه کما لایخفیٰ.
الثالث : کما إذا علمنا بأنّ العامّ الکذائیّ مخصَّص لابدّ من الفحص عن مخصِّصه، کذلک الأمر إذا حصل الوثوق والاطمئنان بذلک لابدّ منه؛ لوحدتهما بحسب الحکم فی نظر العقلاء. ولا شبهة فی أنّا بعدما اطلعنا علیٰ أنّ العمومات مخصّصة کثیراً حتّیٰ اشتهر: «إنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» فلابدّ وأن یحصل ذلک، فإنّ من موجبات الوثوق العقلائیّ والاطمئنان والعلم العادیّ الغلبةَ، وکیف الغلبة، وأیّة الغلبة.
وفیه : أنّ الأمر وإن کان کذلک، ولکن قضیّة ذلک کفایة الفحص عن المخصّص الواحد مع احتمال التخصیصات الکثیرة علی العامّ الفارد، وما اشتهر صحیح، ولکن بالنسبة إلیٰ أصل التخصیص، لا مقداره. مع أنّ الفحص لازم بالنسبة
[[page 292]]إلی احتمال المخصّص ولو کان ضعیفاً.
الرابع : لأحد دعویٰ عدم حجّیة أصالة الظهور مع الظنّ الحاصل من الغلبة بالخلاف، ولا شبهة فی وجوده قبل الفحص.
وفیه : مضافاً إلیٰ ممنوعیّة مبناه، یلزم جواز العمل قبل الفحص مع الاحتمال إذا لم یکن ظنّ بالخلاف فی مورد، کما إذا فحص عن المخصّص فأصابه، ثمّ احتمل المخصّص الثانی، أو الثالث، أو الرابع، أو الخامس، فإنّه بعد ذلک لایکون ظنّ بالخلاف، ومع ذلک یجب الفحص.
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ من یدّعی هذا الوجه أو الوجه السابق یلتزم بذلک، فلیتدبّـر.
الخامس : أنّ وجوب الفحص مقتضی العلم الإجمالیّ بوجود المخصّصات والمقیّدات المنتشرة، وبوجود القرائن الصارفة أو المعیّنة، بل هو مقتضی العلم بتقطیع الأخبار والروایات فی «الوسائل» وغیرها الموجب لاحتمال وجود القرائن المتّصلة الموجبة لصرف الظهور أحیاناً، أو لتعیین إحدی المحتملات.
نعم، مع کون المؤلّف بانیاً علی عدم التقطیع ـ کما هو کذلک فی مثل کتاب «جامع الأحادیث» لسیّدنا الاُستاذ البروجردیّ قدس سره ـ لایجب الفحص عن القرائن المتّـصلـة.
وبالجملة : فمقتضیٰ تنجیز العلم الإجمالیّ، لزوم الفحص عنها بالضرورة.
إن قلت : مجرّد العلم الإجمالیّ لایکفی؛ لاحتمال کون المسألة من موارد القلیل فی الکثیر الذی لاتنجیز للعلم هناک، کما اعترف به المشهور.
[[page 293]]قلت : نعم، إلاّ أنّ ما نحن فیه من الکثیر فی القلیل الذی لا خلاف فی منجّزیة العلم فیه.
هذا مع أنّ الشبهة هنا من قبیل المحصورة علیٰ جمیع التقادیر فی تعریفها، فیتنجّز الواقع بذلک العلم عندنا.
هذا مع أنّ نسبة المعلوم بالإجمال إلی الأخبار والأحادیث الموجودة بین أیدینا، نسبة التسعة إلی العشرة، فلا إشکال فی تنجیزه.
نعم، إذا کانت النسبة مجهولة فالتنجیز غیر معلوم، وهو یساوق عدم التنجیز؛ بناءً علیٰ ما اشتهر عندهم ، وأمّا بناءً علیٰ ماهو الأقویٰ فلا فرق بین المحصورة وغیر المحصورة، فتأمّل جیّداً.
نعم، لنا إشکال فی تنجیز هذا العلم من ناحیة الخروج عن محلّ الابتلاء؛ فإنّ الابتلاء بحسب العمل بمفاد العمومات من أوّل کتاب الطهارة إلیٰ آخر الدیّات، ممنوع جدّاً، بل لایوجد أحد یبتلیٰ به، وأمّا بحسب الإفتاء علیٰ طبقها وطبق سائر الظواهر، فهو وإن أمکن، ولکنّه لیس کلّ أحد کذلک، وقلّما یوجد المجتهد المطلق، ولاسیّما من راجع لیستخرج، وخصوصاً فی هذه العصور کما تریٰ.
إن قلت : هذا لیس من الخروج عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ جمیع العمومات بالنسبة إلیه فی عَرْض واحد، وماهو المضرّ بالتنجیز هو الخروج عن محلّه؛ بحیث لاتصل إلیه یده لیرتکبه، ویستقبح تحریم الإفتاء بغیر ما أنزل الله بالنسبة إلیه.
قلت : قد تقرّر منّا فی محلّه؛ أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لایضرّ بتنجیز
[[page 294]]العلم، ولا عدم الخروج شرط تنجیزه، وفاقاً للسیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه إلاّ أنّ السیرة وبناء العقلاء علیٰ عدم الاعتناء بالمعلوم بالإجمال بمجرّد کون الطرف خارجاً عن محلّ الابتلاء فعلاً.
مثلاً : إذا وقعت قطرة دم، وشکّ فی أنّها وقعت فی الثوب أو علی الأرض، فبناء الأصحاب والعرف علیٰ عدم الاعتناء، مع أنّ الأرض لیست خارجة عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلیٰ جواز السجدة، ولکن لمکان عدم الابتلاء فعلاً بمثله لایعتنیٰ بالعلم المزبور، وهکذا فی أشباهه ونظائره.
وفیما نحن فیه ما هو مورد الابتلاء فعلاً للفقیه المراجع، کتابُ الطهارة ومسائلها، ولایتّفق فی طول تصدّیه لمقام الإفتاء أن یرجع إلیه أحد فی هذه الأعصار؛ ویسأل عن مسائل کتاب القِصاص وهکذا، فهو فی حین السؤال الأوّل تکون المسائل الاُخر خارجة عن محلّ ابتلائه والإفتاء بها، فلایکون العلم المزبور منجّزاً. وهذا هو المقصود من «الخروج عن محلّ الابتلاء» فلاحظ وتدبّر جیّداً.
ولأحد أن یقول : إنّ قیام السیرة فی الموارد الخاصّة، لایوجب الخروج عن القاعدة إلاّ بإلغاء الخصوصیّة، وهو غیر واضح، وعلیه فیکون العلم الإجمالیّ منجّزاً ولو کان من القلیل فی الکثیر، أو کان خارجاً عن محلّ الابتلاء.
إن قلت : لیس وجوب الفحص تکلیفاً شرعیّاً ولا العلم بالمخصّصات والمقیّدات موجباً للتکلیف الشرعی حتّیٰ یتنجّز به.
قلت : لایعتبر فی تنجیزه ذلک، بل لو رجع إلیٰ مقام العمل وإلی التکالیف الإلهیّة، فهو أیضاً ینجّز الواقع، فالعلم الإجمالیّ المزبور یرجع إلی العلم الإجمالیّ
[[page 295]]بعدم جواز الإفتاء علیٰ طبقها، أو إلی العلم الإجمالیّ بعدم جواز العمل، فتدبّر.
وبعبارة اُخریٰ : ماهو المنجّز واقعاً هو العلم بحرمة الإفتاء بغیر ما أنزل الله ، فإذا علمنا بأنّ العامّ الواقع فی کتاب الطهارة أو العامّ فی کتاب الدیّات مخصّص، فقد علمنا بحرمة الإفتاء علیٰ طبق أحد العامّین إجمالاً، فإذا کان العامّ الثانی والإفتاء علیٰ طبقه خارجاً عن محلّ الابتلاء، یلزم الإشکال ، وینحلّ بما مرّ.
[[page 296]]