تذنیب : حول نزاع سلطان العلماء مع سابقیه
قد أشرنا فی الجهة الثالثة إلیٰ أنّ فی باب المطلق والمقیّد، نزاعاً بین المشهور إلیٰ عصر سلطان العلماء، وبینهم المشهور بین المتأخّرین، وأیضاً نزاعاً
[[page 410]]بین المتأخّرین، فهناک نزاعان، والذی هو مورد النظر هنا هو النزاع الأوّل.
والذی یظهر لی: أنّ الإطلاق المأخوذ فی الموضوع له والمنسوب إلی المشهور، لیس هو الإطلاق المتمسّک به فی الفقه والاُصول، وقد ذکرنا أنّ اتصاف الکلام بالإطلاق، لیس من قبیل اتصاف الکلام بالصدق والکذب، فإنّهما من أوصاف الکلام بما هو کلام، والإطلاق من أوصاف الکلمة إلاّ أنّ المنسوب إلی الشهرة القدیمة: هو أنّ الکلمة بالوضع ذات إطلاق مقسمیّ، کألفاظ الأجناس، أو قسمیّ کأعلام الأجناس.
وقد أنکر علیهم المتأخّرون؛ بأنّ الألفاظ لیست موضوعة إلاّ للمعانی المهملة المجرّدة من جمیع اللحاظات الزائدة علیٰ ذوات الطبائع؛ بحکم التبادر والوجدان، فلا معنیٰ للتمسّک بالإطلاق؛ لما أنّ الکلمة لیست ذات معنی إطلاقیّ، بل الإطلاق أمر یطرؤها لأجل الاُمور الاُخر، کمقدّمات الحکمة، أو بعض الدوالّ الاُخر، وأمّا الألفاظ الموضوعة للمعانی الکلّیة الاسمیّة، فکلّها مجرّدة من هذین الإطلاقین.
أقول : إن أراد المشهور من صفة «الإطلاق» الاستغناء عن مقدّمات الإطلاق فی الاستدلال به فی المحاورات العرفیّة وفی القوانین الإلهیّة، فهو أمر غیر صحیح.
وإن أراد المشهور المتأخّر من «وضع الألفاظ للمعانی المهملة» أنّ الألفاظ فی دلالتها علیٰ معانیها مهملة وقاصرة، ولاتکون قابلة للصدق والحمل علیٰ کلّ الأفراد والمصادیق، فهو أیضاً باطل وغیر جیّد بالضرورة.
ثمّ إن أراد المشهور من «الإطلاق» هو أنّ الأجناس فیمقام الوضع موضوعة لذات المعانی؛ علیٰ وجه لا قصور فی دلالتها علیها، فیکون الموضوع له ذا إطلاق
[[page 411]]ذاتیّ خارج المحمول، وهو الإطلاق المقسمیّ، فهو حقّ صِرْف لا غبار علیه.
وإن أراد المتأخّرون من «الإهمال» أنّ التمسّک بإطلاق الکلام، غیر جائز بمجرّد کون الکلمة فی مقام الوضع ذات إطلاق ذاتیّ فی مرحلة الوضع؛ لأجل الإطلاق الذاتیّ للطبیعة علی الوجه المحرّر فیما سبق، فهو أیضاً متین جدّاً.
ولعمری، إنّ مقالة المشهور کانت تدور حول ذلک، وتکون النسبة المذکورة إلیهم فی غیر محلّها، وبذلک ینحلّ النزاع، وتصیر المقالة واحدة.
ولو فرضنا أنّ المشهور کانوا یتمسّکون بإطلاق الکلام من غیر انتظار الأمر الآخر، فهو فی غیر مقامه؛ ضرورة أنّ جعل الطبیعة موضوع الحکم ـ سواء کان فی الإخباریّات أو الإنشائیّات ـ یتصوّر علیٰ وجهین، ویمکن أن یکون بلحاظین؛ أحدهما: کونها تمام الموضوع للحکم من غیر دخالة شیء آخر، وثانیهما: کونها جزء الموضوع، وعلیٰ هذا إذا کان الأمر بحسب مقام الإثبات والحکم، ذا حالتین، لابدّ من إحراز الحالة الاُولیٰ حتّیٰ یکون للکلام إطلاق بهذا المعنیٰ، وللکلمة إطلاق أیضاً بهذا المعنیٰ، کما لایخفیٰ.
إن قلت : نعم، الأمر کذلک، إلاّ أنّه بعد دلالة اللفظ علی المعنی الساری، وبعد کون المعنیٰ هو الطبیعة المطلقة بالإطلاق الذاتیّ، فإن اُخذ معها قید فالموضوع مرکّب، والدلیل مقیّد فی مرحلة الجعل والإنشاء، وإن لم یؤخذ معها قید فالکلام یتمسّک به وبإطلاقه؛ لصدق ألفاظه علیٰ جمیع معانیه من غیر قصور.
وبعبارة اُخریٰ : لا بأس بذکر القید مع هذه الطبیعة المطلقة، وأمّا بدون ذکر القید فی مرحلة الإثبات، فیتمسّک بالکلام من غیر الحاجة إلیٰ أمر آخر، ومن غیر
[[page 412]]تصویر الإهمال فی مرحلة الإثبات، کما لامعنیٰ له فی مرحلة الثبوت.
فالفرق بین المقالتین ینشأ من هنا : وهو أنّ المتأخّرین تخیّلوا الحالة الثالثة؛ وهی حالة الإهمال فی مرحلة الإثبات، والقدماء ینکرون علیهم تلک الحالة، ولاینکرون علیهم إمکان ورود القید علی الموضوع المأخوذ فی الدلیل، کما هو الواقع بالضرورة.
وبعبارة اُخریٰ : هم یقولون بأنّ مقدّمات الإطلاق إمّا غیر محتاج إلیها رأساً، أو حاصلة دائماً ومطلقاً، نظیر ما ذکرناه فی النکرة فی سیاق النفی، فإنّها لاتدلّ علی العموم کدلالة «کلّ» وأمثالها، ولکنّها لاتحتاج إلیٰ مقدّمات الإطلاق؛ لأنّ سیاق الکلام یکون علیٰ وجه تکون هی حاصلة دائماً.
قلت : یتوجّه إلیه نقض بأنّ کثیراً مانجد عدم جواز التمسّک بإطلاق الدلیل، من غیر کون الموضوع مقیّداً، مثلاً لایجوز التمسّک بإطلاق قوله تعالیٰ: «اُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأنْعَامِ» لتحلیل البهیمة التی تکون مال الغیر، ولایجوز التمسّک بإطلاق الدلیل المتکفّل لأصل التشریع، فیعلم من هنا وجود الحالة الثالثة؛ وهی حالة الإهمال.
وحلّه : أنّ إطلاق الموضوع له وإطلاق الوضع، ینفع إذا شکّ مثلاً فی صدق اللفظ فی موردٍ، ولایصحّ ما یظهر من مشهور المتأخّرین ـ کما اُشیر إلیه ـ من أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المهملة؛ إذا رجع إلی الإهمال فی مرحلة الوضع.
وأمّا إذا شکّ فی حدود الحکم فی القضیّة الإنشائیّة أو الإخباریّة، فلابدّ من إثبات الإطلاق الآخر، ولایعقل کفایة الإطلاق المزبور عن الإطلاق الأخیر؛ لما أنّ
[[page 413]]مفاد الکلمة بحسب الوضع، یأبیٰ أن یکون جزء الموضوع أو تمام الموضوع فی القضیّة، فکونها جزء الموضوع أو تمام الموضوع، أمر یعرض علیها من ناحیة فعل المتکلّم وأغراضه، فعندئذٍ لابدّ من إحراز ذلک، وهذا یستلزم کون الکلام ذا حالة ثالثة؛ وهی الإهمال أحیاناً.
ومن هنا یظهر الاحتیاج إلی المقدّمات العقلیّة لإثبات أنّ المأخوذ فی الدلیل تمام الموضوع للحکم، لا جزؤه.
ویظهر عدم تمامیّة القیاس بین الجمل کلّها، وبین النکرة فی سیاق النفی أو النهی، فإنّ سیاق الکلام ربّما یدلّ علی أنّ المتکلّم، لیس فی مقام إفادة الحکم علی الإجمال والإهمال، أو یفید أنّه فی مقام إفادة الحکم من جمیع النواهی، دون ناحیة خاصّة.
ویظهر من ذی قبل توضیح المقدّمات العقلیّة المثبتة للإطلاق إن شاء الله تعالیٰ.
وظهر ممّا ذکرناه فساد ما فی الحواشی للعلاّمة الإیروانیّ من إنکار الحاجة إلیها، فراجع.
[[page 414]]