تحصیل وتحقیق
لا شبهة فی أنّ مادّة «علم» وهیئة «لا یعلم» تتعدّیٰ إلی المفعولین، ویکون المراد من «العلم» العلم التصدیقیّ، لا التصوّری، فلابدّ علیٰ هذا من کون الجملة محذوفة؛ أی «رفع ما لا یعلمون أنّه حرام» أو «أنّه خمر».
ولا معنیٰ لما اشتهر من حذف ضمیر الصلة؛ لأنّ التعدیة بالمفعول الواحد، توجب کون العلم تصوّریاً، وهو غیر منظور هنا بالضرورة، ولذلک ذکرنا: أنّ الجملة الواقعة عقیب مادّة «العلم» لا تأوّل بالمصدر؛ للزوم نقض الغرض، وما اشتهر من تأویل الجملة الواقعة عقیب مادّة «علم» إلی المصدر والمعنی غیر التصدیقیّ، غیر صحیح، فإذا قیل: «اعلم أنّ المکلف کذا» یکون المقصود العلم التصدیقیّ؛ ولو کان بناء العرب علیٰ قراءة «أنّ» بفتح الهمزة، إلاّ أنّها فی الحقیقة جملة غیر قابلة للتأویل.
فعلیٰ هذا، قولهم هنا: «بأنّ المحذوف ضمیر عائد إلی الموصول، وهو رفع ما لا یعلمونه» غلط، بل المحذوف جملة، وهو قولهم: «لا یعلمون أنّه کذا» وحیث لم یذکر فإمّا یصیر مجملاً، وهو غیر جائز؛ لأنّ المتکلّم لیس بصدد إفادة الإجمال، فعلیه یدلّ الحذف علی العموم، وتصیر «ما» کنایة عن الموضوع فی الشبهة الحکمیّة والموضوعیّة، ویسقط نزاع القوم من أساسه، ویصیر الحدیث للأعمّ.
مع أنّ المراد من لفظة «ما» هو الموضوع فی مقابل المحمول، کما فی سائر الفقرات، فیجمع حینئذٍ بین جمیع الجهات الموجبة لتشتّت الأفکار واختلاف
[[page 49]]الأعلام؛ لأنّ ما لا یعلمون أنّه خمر مرفوع، وما لا یعلمون أنّه حرام مرفوع، فالرفع یستند إلیٰ «ما» الذی هو الموضوع مطلقاً، وهو المفعول الأوّل، ولا یعقل أن یکون «ما» کنایة عن الحکم إلاّ علی التخیّل المزبور الباطل بالضرورة.
وبالجملة: کما لا معنیٰ لقولک: «إنّی أعلم الحرمة» إلاّ بمعنیٰ أنّی أتصوّر الحرمة، کذلک لا معنی لقولک : «لا یعلم زید الحرمة» بل هو یرجع إلیٰ أنّه لا یعلم أنّ کذا شیء حرام، وحیث إنّه لیس فی الکلام ما یدلّ علیٰ خصوص مجهولیّة الحرمة، فیلزم القول بالأعمّیة، أو الإجمال، ولا سبیل إلی الثانی، فیتعیّن الأوّل.
وهم ودفع
لأحدٍ أن یقول: إنّ المحذوف هو المفعولان؛ لأنّ مادّة «علم» تتعدّیٰ إلیهما، فیکون المعنیٰ رفع ما لا یعلمون التتن حراماً، ویکون التتن رافعاً لإبهام لفظة «ما» فالمفعول الأوّل مبیّن الموصول، فیختصّ الحدیث بالشبهة الحکمیّة.
ویندفع: بأنّ تقدیر التتن وشربه بلا وجه؛ لجواز أن یکون الأمر کذلک: «رفع ما لا یعلمونه خمراً» أو «لا یعلمونه حراماً» ولا برهان علیٰ لزوم رفع الإبهام بعد کون الإبهام موجباً للأعمّیة، وقد أتیٰ به المتکلّم مبهماً، فعلیه یکون الکلام هکذا: «رفع ما لا یعلمونه حراماً» أو «واجباً» أو «موجباً للعقاب والمؤاخذة» أو «الضیق» والحذف دلیل العموم، وسیمرّ علیک احتمال لزوم الأخذ بالقدر المتیقّن.
ومن هنا تتّضح لأهل البصیرة أبواب التحقیق والبحث، وتظهر مواضع الضعف فی کلمات القوم صدراً وذیلاً، فإنّ حدیث وحدة السیاق محفوظ؛ لأنّ المرفوع مطلقاً هو الموضوع، إلاّ أنّه فی مقابل المحمول، ویکون أمراً تکوینیّاً.
[[page 50]]وحدیثَ أصالة الحقیقة غیر تامّ؛ لأنّ المسند إلیه علیٰ کلّ تقدیر أمر خارجیّ، کسائر الفقرات.
وحدیثَ لزوم استعمال الواحد فی الکثیر، ولزوم الجمع بین الحقیقة والمجاز فی الاستعمال الواحد، أیضاً قد ظهر فساده؛ لأنّ فی الشبهات الحکمیّة لیس المرفوع الحکم، بل المرفوع ما لاتصدّق الاُمّة الإسلامیّة أنّه حرام، کشرب التتن، أو أنّه خمر، کالمائع الخارجیّ.
ولک دعویٰ: أنّ المحمول هو حرام فی الفرضین؛ لأنّ المشتبهة خمریّته مشکوکة حرمته، کما لا یخفیٰ.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
دفع وتوضیح
ربّمـا یخطـر بالبال أن یقال: إنّ مشتبه الخمریّة قابل للرفع، وإسناده إلیه إسناد یساعده الاعتبار والذوق، بخلاف إسناده إلیٰ شرب التتن، ولأجل ذلک اُسند فیه إلی الحکم.
وأنت بعد ما عرفت علمت: أنّه لابدّ من کون المسند إلیه نفس الفعل والموضوع إیجاداً وترکاً، وکما أنّه فی مشتبه العنوان یکون الرفع باعتبار الآثار، أو بوجه آخر، کذلک الأمر فی معلوم العنوان ومشتبه الحکم، کشرب التتن، ولا یستند الرفع إلی الشرب خاصّة حتّیٰ یتوهّم الاستبعاد، بل المسند إلیه عنوان ینطبق علیهما علیٰ حدّ سواء.
فبالجملة تحصّل: أنّ قولهم: «لا یعلمون حکمه» غلط؛ لأنّه من العلم
[[page 51]]التصوّری، بل التقدیر «لا یعلمون أنّه حرام» أو «أنّه خمر» فالمرفوع دائماً هو الموضوع؛ باعتبار حکمه الکلّی، أو الجزئیّ، ویکون المرفوع الموصول الذی هو المفعول الأوّل، والمجهول هو القضیّة، لا المفرد.
وممّا ذکرنا یظهر ضعف ما أفاده العلاّمة الأراکیّ من مقایسة الفقرات؛ وأنّ الثلاث الأخیرة تختلف مع الأربع المتوسّطة، فلا یمکن الأخذ بالوحدة السیاقیّة، والأمر سهل.
[[page 52]]