المقصد التاسع فی البراءة

الجهة الخامسة : فی محاذیر رفع مطلق الآثار وأجوبتها

کد : 163376 | تاریخ : 13/11/1385

الجهة الخامسة : فی محاذیر رفع مطلق الآثار وأجوبتها

‏ ‏

‏قد تبیّن فیما سلف: أنّ المسلک الثانی ـ وهو رفع العناوین والموضوعات‏‎ ‎‏ادعاء هو الأقرب لو لم یتمّ المسلک الثالث الذی أبدعناه‏‎[1]‎‏، وإذا کان فی جمیع‏‎ ‎‏الفقرات إسناد مجازیٌّ، فالمصحّح هو رفع جمیع الآثار؛ لأنّ رفع بعض الآثار‏‎ ‎‏یحتاج إلیٰ مؤونة زائدة، أو یکون بعضها أظهر، ولا أظهریّة إلاّ للعقاب، ولکنّه ممنوع‏‎ ‎‏ثبوتاً کما مرّ‏‎[2]‎‏، فإذا کان مطلق الآثار مرفوعاً، فیتوجّه الإشکال الذی مرّ فی ذیل‏‎ ‎‏البحث السابق، وکان ینبغی أن نذکره هنا کما لا یخفیٰ.‏

وعلیٰ کلّ تقدیر:‏ فلابدّ فی مثل الإکراه علی الجنابة، والاضطرار إلیٰ أکل‏‎ ‎


‎[[page 94]]‎‏النجس، ونجاسة ملاقیه ـ وهو الشفتان مثلاً من الالتزام بأحد الأجوبة السابقة، وقد‏‎ ‎‏عرفت ما فیها.‏

‏ولعلّ القائلین برفع العقاب، أو بعدم شمول الحدیث للأحکام الوضعیّة، لمّا‏‎ ‎‏رأوا هذه المعضلة التزموا بذلک، وإلاّ فدعویٰ: أنّ الأحکام المرفوعة به هی الثابتة‏‎ ‎‏بالإطلاق، دون الثابتة علی الإطلاق‏‎[3]‎‏، غیر کافیة؛ لأنّ مثل الجنابة والنجاسة ثابتة‏‎ ‎‏بالإطلاق.‏

أو دعویٰ:‏ أنّ تلک الوضعیّات لا تنالها ید الجعل، فلا تنالها ید الوضع، غیر‏‎ ‎‏کافیة؛ لأنّ نیلها باعتبار أحکامها ممّا لا بأس به. مع أنّها ممّا تنالها ید الجعل‏‎ ‎‏حسبما تحرّر‏‎[4]‎‏.‏

‏فیبقیٰ فی المقام جواب آخر: وهو أنّ فی رفع النجاسة والجنابة بما هی هی،‏‎ ‎‏لیس سعة، فما فیه السعة هی الأحکام المترتّبة علیها، کما أنّ الأحکام التی هی‏‎ ‎‏تترتّب علیها ترتفع به؛ لما فیها من السعة، کحرمة الاستمناء والإجناب المحرّم،‏‎ ‎‏وشرب النجس، وأکل المیتة. فما هو المرفوع هی حرمة الشرب بعد أکل النجس‏‎ ‎‏استکراهاً، کما فیما إذا اُکره علیٰ أکل المیتة، وکان الإکراه مستمرّاً، فشرب فی‏‎ ‎‏الأثناء الماء، مع أنّه ینجس بملاقاة الشفة المتنجّسة، فإذا لم یکن مکرهاً علیٰ شربه،‏‎ ‎‏ولا مضطرّاً إلیه بالخصوص، فیلزم جواز شربه حین الإکراه، أو الاضطرار إلیٰ أکل‏‎ ‎‏المیتة، وهکذا شرطیّة الطهارة من الحدث، والالتزام بذلک مشکل کما هو الواضح،‏‎ ‎‏فهذا الجواب أیضاً غیر کافٍ.‏

‏ویمکن أن یقال: إنّ فی صورة الإکراه علی الجنابة إذا زال الإکراه، فلا ترتفع‏‎ ‎


‎[[page 95]]‎‏الشرطیّة؛ لأنّ السعة باعتبار حال الإکراه، لا باعتبار حال زواله کما مرّ‏‎[5]‎‏، وقد‏‎ ‎‏عرفت: أنّ فی حال الإکراه لا ترتفع الجنابة؛ لما لا سعة فی رفعها، فیکون جنباً‏‎ ‎‏وضعاً، وإذا زالت حالة الإکراه یجب علیه الغسل شرطاً؛ إذا کان الوقت واسعاً له،‏‎ ‎‏کما هو مفروض البحث، وإلاّ فمع ضیق الوقت ینتقل من المائیّة إلی الترابیّة؛ لأجل‏‎ ‎‏الأمر الآخر.‏

‏فما قد یقال بالالتزام بالتبدیل من المائیّة إلی الترابیّة عند الضیق‏‎[6]‎‏، أجنبیّ‏‎ ‎‏عن بحث حدیث الرفع الرافع لمطلق الآثار، اللازم منه رفع الجنابة المترتّب علیه‏‎ ‎‏عدم وجوب الغسل، وعدم ناقضیّتها للوضوء السابق، وهکذا.‏

فبالجملة:‏ لو اُکره علی الجنابة تکون حرمة الاستمناء مرفوعة، دون الجنابة؛‏‎ ‎‏لما لاسعة فی رفعها بما هی هی، ولا معنیٰ لرفع آثارها باعتبار حال ارتفاع الإکراه؛‏‎ ‎‏لما لا یکون الحدیث منّة بالنسبة إلیٰ تلک الأحوال.‏

‏نعم، یبقی الإشکال الآخر: وهو لزوم بقاء الوضوء السابق علی الاستمناء،‏‎ ‎‏فتأمّل.‏

‏بقی الإشکال بالنسبة إلی الشرب حال نجاسة الفم، فإنّ النجاسة لا ترتفع،‏‎ ‎‏ولأجل ذلک لو لاقت شیئاً یحرم علیٰ غیره أکل الملاقیٰ ـ بالفتح إذا لم یکن مضطرّاً‏‎ ‎‏أو مکرهاً، فلا تزول النجاسة بالحدیث. ودعویٰ زوالها الحیثیّ، غیر تامّ جدّاً. مع أنّه‏‎ ‎‏لا سعة علی المکره والمضطرّ فی رفع النجاسة.‏

‏وأمّا بالنسبة إلیٰ حکمها؛ وحرمة شرب ملاقیه وأکله، فیجوز أن یقال: إنّ فی‏‎ ‎‏رفع الحکم الوضعیّ بما هو هو، لیس سعة، والحکم التکلیفیّ المتعلّق به وإن کان فی‏‎ ‎‏رفعه السعة، إلاّ أنّ الإکراه والاضطرار غیر متعلّق به کما هو الظاهر، فشرب الماء‏‎ ‎


‎[[page 96]]‎‏حین أکل المیتة عن إکراه واضطرار، محرّم وباقٍ علیٰ تحریمه.‏

‏وهذا أیضاً جواب آخر بالنسبة إلیٰ وجوب ردّ المثل والقیمة، ووجوب‏‎ ‎‏الجبران فیما إذا اضطرّ إلیٰ إتلاف مال الغیر، أو اضطرّ إلیٰ إصلاح داره المنجرّ إلیٰ‏‎ ‎‏فساد جدار دار جاره، فإنّ رفع الضمان بما هو هو لا سعة فیه، وبالنسبة إلی الحکم‏‎ ‎‏التکلیفیّ المترتّب علیه لیس مکرهاً، ولا مضطرّاً، وهکذا بالنسبة إلی الغسل الواجب‏‎ ‎‏الشرطیّ، أو البقاء علی الوضوء الواجب الشرطیّ.‏

إن قلت:‏ یجوز رفع الحکم الوضعیّ بنفسه؛ لما فیه السعة باعتبار التکلیف‏‎ ‎‏والضیق الآتی من قبله.‏

قلت:‏ لیس هذا الرفع شأن الحدیث؛ لأنّه جاء للتوسعة علی المکره والمضطرّ‏‎ ‎‏بالنسبة إلی ما استکره علیه واضطرّ إلیه، لا غیره، ولا مکره ولا مضطرّ إلاّ بالنسبة‏‎ ‎‏إلیٰ أکل النجس والمیتة، فما هو مورد الاضطرار فیه السعة، ولا سعة فی رفع الحکم‏‎ ‎‏الوضعیّ إلاّ باعتبار أمر آخر. وبعبارة اُخریٰ الحدیث فیه المنّة والسعة بالنسبة،‏‎ ‎‏لاعلی إلاطلاق.‏

وإن شئت قلت:‏ المکره والمضطرّ إلیٰ أکل النجس مثلاً؛ وإن کان متعلّق‏‎ ‎‏الإکراه والاضطرار هو أکل المیتة أوّلاً وبالذات، ولکنّه ینتهی إلی الاضطرار إلی‏‎ ‎‏العصیان ومخالفة المولیٰ، وهذا الاضطرار الأخیر یوجب الرفع، دون الاضطرار‏‎ ‎‏الأوّل.‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ تارة یکره علیٰ أکل المیتة، فلا یرفع به إلاّ حرمة أکل المیتة،‏‎ ‎‏واُخریٰ: یکره علیٰ أکل النجس، فهو فی الحقیقة راجع إلی الإکراه علی العصیان،‏‎ ‎‏وهکذا فی جانب الاضطرار، فلا یرفع بمثله حکم النجس، إلاّ أنّه معذور بحکم‏‎ ‎‏العقل؛ لأنّ العصیان لیس بسوء الاختیار وإن کان بالاختیار، وما هو الموجب‏‎ ‎‏للاستحقاق ولصحّة العقوبة هو الأوّل، فاغتنم.‏


‎[[page 97]]‎‏ثمّ إنّه سیظهر تمام البحث حول سائر الوضعیّات ـ کالجزئیّة والشرطیّة‏‎ ‎‏والمانعیّة ـ فی أبواب العبادات، بل والمعاملات، وهکذا الأحکام المختصّة بطائفة‏‎ ‎‏من فقرات الحدیث إن شاء الله تعالیٰ‏‎[7]‎‏.‏

‏ ‏

وقد اُجّل البحث والتألیف لأجل تشرّفنا بالحجّ، رزقنا الله تعالیٰ إیّاه‎ ‎فی کلّ عام، ولأجل أیّام عزاء سیّد الشهداء سلام الله تعالیٰ علیه، وکان ذلک‎ ‎عام خمسة وتسعین بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبویّة، علیٰ‎ ‎مهاجرها آلاف الثناء والتحیّة، فی النجف الأشرف، علیٰ مشرّفه السلام.‎ ‎

‎ ‎

‎[[page 98]]‎

  • )) تقدّم فی الصفحة 70 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 59 ـ 60 .
  • )) منتهی الاُصول 2 : 186.
  • )) یأتی فی الجزء الثامن : 430 ـ 433 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 90 .
  • )) تهذیب الاُصول 2 : 170.
  • )) یأتی فی الصفحة 103 وما بعدها .

انتهای پیام /*