التنبیه الأوّل حول جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی
عرفت منّا جواز الاقتحام فی جمیع الأطراف صناعةً فی موارد العلم الإجمالیّ بالإطلاق والعموم، المنطبق علی الموضوع المعلوم إجمالاً، دون موارد العلم بالتکلیف والإرادة الواقعیّة، وعلیٰ هذا لو أبیت عن ذلک، فلا غبار فی صورة جریان الأصل فی أحد الأطراف؛ علیٰ وجه لا یلزم منه المخالفة العملیّة.
ثمّ إنّ مقتضی الصناعة هو الاحتیاط أیضاً، خلافاً لما اشتهر بینهم، ووفاقاً لبعضهم فی بعض الفروض؛ وذلک لأنّ الأصل الجـاری فی أحـد الأطراف، لایحرز به أنّه هو المعلوم، ولا ینحلّ به العلم الإجمالیّ؛ ضرورة أنّه لو کان الطرف الآخر مورد التکلیف الواقعیّ، یکون باقیاً علیٰ واقعیّته، ولا یتغیّر عمّا هو علیه، ولا یرفع المولیٰ یده عنه، ولا تنصرف إرادته منه، وإلاّ فیلزم التصرّف فی الواقع، فیکون لازمه احتمال المناقضة، وهو فی حدّ المناقضة بالضرورة، وقد مرّ شطر من
[[page 380]]البحث حوله سابقاً.
فالأمر یدور بین کون الأصل مؤمّناً فی الطرفین، أو غیر مؤمّن علی الإطلاق، سواء فیه الاستصحاب وغیره.
نعم، لو کان هناک ما ینحلّ به العلم الإجمالیّ، کالأمارة القائمة علیٰ وجه توجب انحلاله حقیقة فهو، وإلاّ فالانحلال الحکمیّ ممّا لا أساس له.
وقضیّة أنّه لا یکون مؤمّناً فی الطرفین بعد تنجیز الواقع؛ للزوم المناقضة، قد مرّ فسادها، ولاحظت أنّه ربّما یکون التکلیف فعلیّاً، والاضطرار عذراً، وهکذا الإکراه والجهالة ـ حسب إطلاق الأدلّة ـ مثلهما فی التعذیر، وعرفت أنّ سرّه قانونیّة التکالیف والخطابات.
وأمّا القول: بأنّ العلم الإجمالیّ منجّز مادام لم یکن مؤمّن شرعیّ، ویستتبع استحقاق العقاب عند عدم وجود المؤمّن، وفی موارد المعارضة لا مؤمّن، وفی غیر هذه الصور لا تنجّز؛ لوجود المؤمّن، وهو معنیٰ کونه مقتضیاً فغیر تامّ؛ لأنّ العلم بالتکلیف ـ حسب الطبع والعقل ـ ینجّز من غیر اشتراطه بشیء بعد وجود الحکم الفعلیّ؛ ومفروضیّة العلم الإجمالیّ به، وإنّما للشرع اعتبار المؤمّن والمعذّر فی جمیع الصور، من غیر أن یلزم منه محذور کما مرّ، وذلک نظیر ما إذا ورد علیٰ جواز الاقتحام فی جمیع الأطراف، کما فی الشبهات غیر المحصورة مثلاً، فإنّه لو ارتکب جمیع الأطراف تدریجاً یکون معذوراً، مع أنّ التکلیف فعلیّ کما یأتی تفصیله، والعقل ینجّز جمیع الأطراف بلا فرق بین الصورتین: المحصورة وغیر المحصورة.
[[page 381]]فبالجملة: فی صورة ورود النصّ الخاصّ، نلتزم بجواز الاقتحام فی الأطراف من غیر قصور فی ناحیة فعلیّة التکلیف القانونیّ، ولو کان شرط تنجیز العلم عدم وجود المؤمّن لیلزم الاقتحام فی جمیع الأطراف؛ لوجوده بالنسبة إلیٰ کلّ طرف، فلایتنجّز التکلیف ولو کان معلوماً بالعلم الإجمالیّ، وهو خلف کما لا یخفیٰ.
فذلکة الموقف
فذلکة الکلام فی المقام علیٰ وجه یشمل جمیع المرام: أنّ المشهور بینهم جواز إجراء الاُصول فی أطراف العلم الإجمالیّ؛ بشرط أن لا یلزم المخالفة القطعیّة والعملیّة، وأمّا فی صورة کون الأصول متوافقة الموافقة مع المعلوم والاحتیاط، فلا منع من جریانها فی جمیع الأطراف.
مثلاً: إذا علم إجمالاً حرمة أحد الإناءین، وکان یعلم حرمتهما السابقة، فإنّه یجری الاستصحابان مثلاً.
وفی صورة العلم بحرمة أحدهما المعیّن، یجری الاستصحاب والبراءة فی الطرف الآخر.
وفی الصورة الثالثة: وهی ما إذا لم یعلم بحالهما، أو علم بحلّیتهما، فإمّا لا یجریان، أو یسقطان؛ للزوم المخالفة العملیّة القطعیّة، فیکونان متعارضین بالعرض، غیرَ قابلین للاعتذار والتأمین بالنسبة إلی العقاب.
وغیر خفیّ: أنّ هذا من غیر فرق بین کون الأصلین الجاریین المتعارضین، من قبیل الاُصول غیر التنزیلیّة، أو التنزیلیّة، أو یکون واحد من القسم الأوّل، والآخر من القسم الثانی؛ فإنّ فی المعارضة بالعرض، لا یکون الاستصحاب حاکماً علی البراءة، وفی المثال المذکور یعارض استصحاب حلّیة أحد الإناءین، البراءةَ عن حرمة الإناء الآخر.
[[page 382]]وهکذا فی صورة کون أحدهما الأمارة، والآخر أصلاً، فلو علم نجاسة أحد الإناءین، فقامت الأمارة علیٰ طهارة أحد الإناءین، تقع المعارضة بالعرض بینها وبین قاعدة الطهارة الجاریة فی الطرف الآخر؛ وذلک لما مرّ من عدم الدلالة الالتزامیّة لمثل هذه الأمارة بالنسبة إلیٰ نفی النجاسة عن الإناء الآخر، وسیظهر تحقیقه آنفاً إن شاء الله تعالیٰ.
فبالجملة: المشهور جواز جریان الأصل فی الأطراف؛ بشرط عدم لزوم المخالفة العملیّة.
وفی مقابلها ما فی نفسی: وهو المنع عن الجریان مطلقاً بعد الغضّ عمّا سلکناه؛ وأنّ الأمر یدور بین أمرین: إمّا الجریان مطلقاً کما عرفت، أو عدم الجریان علی الإطلاق، ولا سبیل إلی الثالث.
وفی کلام العلاّمة الأراکیّ رحمه الله التفصیل بین الأمارات والاُصول، فتجری الأمارة القائمة علی النفی فی أحد الطرفین، بخلاف الأصل النافی غیر المعارض بالأصل الآخر، فإنّه لا یجری.
کما أنّ فی کلام العلاّمة النائینیّ، منعَ جریان خصوص الاستصحابین ولو کانا متوافقین مع الاحتیاط؛ ولا یلزم من جریانه المخالفة العملیّة، وقد مرّ شطر من البحث حول مقالته، فلا نعید.
فالمهمّ هو الفحص عن وجه القول بجریان الأصل فی صورة عدم لزوم المخالفة العملیّة، مع أنّ مقتضی العلم الإجمالیّ تنجیزالواقع؛ واستحقاق العقوبة علیٰ
[[page 383]]کلّ طرف عند الإصابة، فلو کان مقتضی الاستصحاب حرمة أحد الإناءین، کیف یجرون أصالة البراءة والحلّ فیالطرف الآخر، مع أنّه کان لو أصاب لاستحقّ العقوبة؟!
ولیس هذا أسوأ حالاً ممّا إذا تلف أحد الإناءین، فإنّهم یحتاطون فی الطرف الآخر، ناظرین إلیٰ أنّه سیبقیٰ أثر العلم وتنجیزه فی الطرف ولو لم یکن علم، فلا تجری قاعدة الترخیص والتوسعة.
[[page 384]]