وقبل الخوض فی مغزی المرام فی المقام نشیر إلی نکات :
الاُولیٰ :
أنّ عناوین «الشبهة المحصورة» و«غیر المحصورة» غیر واردة فی الأخبار، ولا فی معقد الإجماعات التعبّدیة، ومجرّد دعویٰ أمثال الوحید البهبهانیّ وغیره، غیر کافیة بعد قوّة کون المستند غیر ما بأیدینا فی غیر المحصورة، فالمتّبع هی القواعد والأخبار المرخّصة، دون تلک الإجماعات.
وأمّا تعرّض الأصحاب رحمهم الله لتحدید الشبهة غیر المحصورة، فهو لأجل توجیه مناط قصور العلم عن التأثیر مثلاً بعد الفراغ عن کبراه، أو مناط ماهو المانع عنه، ولیست أنظارهم حول تشخیص المفهوم.
الثانیة :
أنّ الجهة المبحوث عنها هی الفارغة عن کافّة الاُمور الراجعة إلیٰ قصور
[[page 425]]مقتضی العلم، أو وجود المانع عن تنجیزه وتأثیره، کالخروج عن محلّ الابتلاء، ولزوم العسر والحرج والضرر وغیر ذلک، بل هی ممحّضة فی أنّ مجرّد کثرة الأطراف بما هی هی، توجب قصور العلم فی التأثیر، وتمنع عن جریان أدلّة التنجیز فیها، أم لا، فما یظهر من جمع هنا، کلّه خارج عن محطّ البحث ومصبّ الخلاف.
ولو کان کثرة الأطراف بحسب الخارج، ملازمةً دائماً لجهات اُخر، لا یمنع من ذلک البحث. مع أنّه ممنوع؛ لإمکان کون الأطراف الکثیرة مورد الابتلاء، وقابلةً للإیجاب أو المنع، کما إذا علم إجمالاً بأنّ أحد الآنیة من المائة نجس من غیر حاجة منحصرة فیها، أو واحداً منها واجب الشرب؛ لنذر ونحوه، أو أحد الأیّام من السنة الآتیة أو السنین الآتیة، واجب الصوم وهکذا، أو إحدی الحنطات فی البصرة نجسة، أو غصبیّة وهکذا.
الثالثة :
بحث القوم عن مسألتین هنا مسألة کبرویّة، وصغرویّة؛ أی مسألة تنجیز العلم وعدمه، ومسألة حدود تلک الکثرة، وهذا لا ینبغی إلاّ علیٰ بعض المبانی.
مثلاً: القائل بتنجیز العلم الإجمالیّ مطلقاً، لا ینبغی أن یخوض فی هذه المسألة، مع أنّه صنع خلاف ذلک، والقائل بجواز الاقتحام فی جمیع الأطراف حتّیٰ فی الشبهة المحصورة، أیضاً مستغنٍ عن إطالة الکلام حولها إلاّ تشحیذاً للأذهان، وتوضیحاً للآخرین.
نعم، من یقول بالتفصیل فلابدّ له من البحث عن حدود تلک الکثرة ومناطها، فیقدّم البحث الأوّل علی الثانی أیضاً. کما ینبغی البحث الثالث: وهو فی موارد الشکّ
[[page 426]]فی حصول الکثرة المذکورة؛ وحصول الشبهة غیر المحصورة.
فنحن بحمد الله وله الشکر، فی غنی عن البحث المذکور، بل عن البحث الکبرویّ؛ لأنّه علیٰ تقدیر التنجیز نقول بجریان الأدلّة المرخّصة فی الأطراف. نعم فی الشبهات المهتمّ بها، ربّما نحتاج إلی الغور فی الکبریٰ، فتدبّر.
الرابعة :
قد اختلفت آراؤهم فی المسألة، فعن بعضهم الاحتیاط هنا، کما فی الشبهة المحصورة حذواً بحذو. وذهب بعضهم إلیٰ خلافه، وهما فی طرفی الشقاق.
وهناک ثالث یفصّل بین وجوب الموافقة القطعیّة فیمنع، وحرمة المخالفة القطعیّة فیذعن بها، کما عن الشیخ رحمه الله.
والرابع: هو التفصیل بین من یشرع فی ارتکاب تلک الکثرة؛ لأجل ارتکاب ماهو النجس والخمر فی البین، وبین من لا یکون من قصده ذلک.
ویحتمل وجه خامس: وهو التفصیل بین کون الشبهة محصورة أوّلاً، ثمّ صارت غیر محصورة تدریجاً، وبین ما کانت من الابتداء غیر محصورة مثلاً، بعد کون البحث هنا فی القلیل فی الکثیر، وأمّا الکثیر فی الکثیر فهو یأتی فی ذیل هذه المسألة، فإذا علم إجمالاً بحرمة أکل إحدی الجوزتین، ثمّ زاد علیهما جوزةً اُخریٰ، وهکذا إلیٰ أن صارت غیر محصورة، فإنّها کالمحصورة، بخلاف الفرض الثانی.
[[page 427]]والأخیر: ما یمیل إلیه العلاّمة النائینیّ من جواز المخالفة القطعیّة فی الشبهات التحریمیّة، والتفصیل فی الشبهات الوجوبیّة بلزوم الاحتیاط فی الجملة، وهذا من غرائب ماصدر عنه وإن کثرت غرائبه.
وممّا لا ینبغی خفاؤه توهّم: أنّ الشبهة غیر المحصورة لا یتصوّر لها فرض صحیح؛ نظراً إلیٰ أنّ تعاریفها غیر مضبوطة، غفلةً عن أنّ البحث حول أنّ کثرة الأطراف بما هی هی، هل توجب سقوط العلم عن التنجیز، أم لا؟ ولیس عنوان «الشبهة غیر المحصورة» مورد البحث کی یتفحّص عن حدودها. وتعابیر القوم تحکی عن عدم التفاتهم إلیٰ ماهی الجهة المبحوث عنها فی المقام، إلاّ من شذّ منهم، فلیدقّق النظر.
إذا علمت ذلک، فالذی هو الحقّ حسب الصناعة: عدم الفرق بین المحصورة وغیر المحصورة، وتجری الاُصول المرخّصة فی جمیع الأطراف هنا بالأولویّة والأحقّیة؛ وذلک لأنّ قضیّة إطلاق الخطاب والحکم بحسب الأدلّة الواقعیّة، بعد انضمام العلم بالصغری؛ والانطباق علی الخارج، مع کونه واجداً لجمیع الشرائط العقلیّة لتنجز الحکم عقاباً، وعدم قصور من ناحیة القدرة والتمکّن، ولا من ناحیة من النواحی الاُخر: هو تمامیّة الحجّة والبیان بالنسبة إلیٰ واحد من تلک الکثرة، وعندئذٍ لایکون العقاب علیٰ ذلک الواحد جزافاً وبلا جهة.
کما أنّ الجهالة التی هی عذر فی الشبهة البدویّة لیست عذراً هنا؛ لتمامیّة الحجّة فیما بین تلک الکثرة، وتمامیّة الحجة منوطة بالعلم بالصغریٰ والکبریٰ، مع اجتماع سائر الشرائط العامّة والخاصّة.
[[page 428]]والتعلیل بعدم تمکّن العبد المکلّف، فی غایة الضعف؛ لخروجه أوّلاً عن البحث. مع أنّه لو صادف ما ارتکبه الواقع، فقد ارتکبه وهو قادر علیه بحسب الواقع، ولا عجز عن التکلیف، کما لا یخفیٰ.
فبالجملة: ما مرّ بعینه یجری فی المقام، فلا فرق بین المسألتین صناعةً.
[[page 429]]