تذییل وتکمیل : لإثبات الاشتغال فی الارتباطیّ من المرکبات الخارجیة
لا شبهة ولاغبار فی أنّ الکثیر بما هو کثیر، والکثرة بما هی کثرة، لا یمکن أن تصیر مصبّاً للأمر الوحدانیّ، ولا یعقل أن یتعلّق الأمر الوحدانیّ ـ الذی قوام تشخّصه بالمتعلّق ـ بالکثیر غیر المندمجة أجزاؤه، وأن یکون قوامه الکثرة غیر الفانیة فی المعنی الفردانیّ الوحدانیّ.
ولا شبهة فی أنّ الآمر لا یتمکّن حین توجیه الأمر إلی المتعلّق الوحدانیّ، من أن یلاحظ الأجزاء بحیال ذلک العنوان الواحد، بل الأجزاء فی هذه المرحلة مغفول عنها، أو مورد التغافل، فلا یریٰ إلاّ واحداً.
إلاّ أنّ ذلک المعنی الوحدانیّ فی النظرة الاُخریٰ، ینحلّ إلی الکثیر؛ لکونه مجمل ذلک الکثیر، ومندمج تلک الکثرة، فالأجزاء لا صولة لها ولا سورة لها ولا لحاظ یتعلّق بها حینما یلاحظ اللاحظ أنّ الأمر الوحدانیّ یدعو إلیٰ ذلک العنوان الفردانیّ.
فالأجزاء بما هی أجزاء، لیست متعلّق الأمر أصلاً، ولا یعقل أن یدعو الأمر المتعلّق بالمعنی الوحدانیّ إلی الأجزاء ولو بعین الدعوة إلی الکلّ؛ لأنّ ذلک الحین حین الغفلة والتغافل، فکیف یدعو أمر الغافل عن الأجزاء إلیها بأیّ وجه کان؟!
فالأمر المتعلّق بالعمرة أو الحجّ أو الصلاة أو الاعتکاف، لا یدعو ولا یتعلّق
[[page 34]]إلاّ بعنوان واحد بسیط فی الاعتبار، من غیر کونه محصّلاً ومنتزعاً، بل هو ینحل إلیها واقعاً، إلاّ أنّ الانحلال إلیها فی النظرة الثانیة المستقلّة إلی الطبیعة، فیقال: «الصلاة أوّلها التکبیر، وآخرها التسلیم» وأمّا فی موقف قوله تعالیٰ: «أقِیمُوا الصَّلاَةَ» فلا تکبیرة، ولا رکوع، ولا سلام، ولا دعوة إلیها، بل الدعوة ممحّضة إلی الصلاة، وهی حقیقة إلهیّة وحدانیّة؛ لأنّ ما تعلّق به واحد: وهو الأمر والبعث المتقوّم تشخّصه به، والإرادة والعلم واحد أیضاً، وهما أیضاً یتشخّصان بذلک الواحد.
ولا یعقل أن یتشخّص الواحد بالکثیر بما هو کثیر. وانحلال الواحد إلی الکثیر غیر کون المشخّص کثیراً فی ظرف مشخّصیته، وغیر کون المتعلّق کثیراً فی ظرف تعلّق الأمر والبعث.
فحدیث الأقلّ والأکثر، وأنّ الأقلّ ـ وهو تسعة أجزاء ـ مورد الأمر والإرادة، والأکثر وهی عشرة أجزاء، من الأباطیل والأکاذیب، ولیس هناک فی مرحلة تعلّق الأمر أقلّ ولا أکثر، ولا القلیل ولا الکثیر؛ لأنّها من مقولة الکم المنفصل، والصلاة فی مرتبة تعلّق الأمر خارجة عن مقولة الکم المنفصل، وداخلة فی مقولة الجوهر الاعتباریّ؛ أی هی اعتبار مقولة الجوهر؛ لتعلّق الغرض بها، وهو الحکم والأمر وتعدّ موضوعاً.
وقیام العرض بالعرض ولو فرض جوازه، کقیام الخطّ بالسطح، وهو بالجسم التعلیمیّ، علیٰ إشکال فیه محرّر فی محلّه، وأعمّیة الموضوع من الجوهر ولو کانت اصطلاحیّة، إلاّ أنّ الأقرب فی مثل الصلاة الخارجة عن المقولات، هو کونها
[[page 35]]اعتبار الجوهر، وأنّها تشبه المرکّبات التألیفیّة، بل الحقیقیّة الطبیعیّة؛ للذهول عن الأجزاء الذی هو بمنزلة کسر سورة الأجزاء فی المرکّب الطبیعیّ، فاغتنم، وکن شاکراً لأنعمه تعالیٰ، والحمد لله .
فعلیٰ هذا، لیس المأمور به إلاّ عنوان العمرة والصلاة، ولا یتعلّق الأمر إلاّ به، وفی موارد الشکّ یرجع شکّ المکلّف إلیٰ أنّه ینحلّ إلیٰ تسعة أجزاء، أو عشرة، من غیر کون التسعة أو العشرة متعلّق الأمر، کی یقال: إنّ التسعة معلومة الأمر، وهو النفسیّ الاستقلالیّ، أو الضمنیّ الذی هو انحلال الاستقلالیّ وتقسیطه، أو یقال: هی معلومة الأمر إمّا هو نفسیّ، أو غیریّ. بل هی مقطوع عدم تعلّق الأمر بها، وعدم معقولیّة تعلّق البعث بها.
کما لایعقل کون الأمر بالصلاة مثلاً، داعیاً إلی التسعة أو العشرة، کما تریٰ فی کلام «التهذیب» فما سلکه القوم صدراً وذیلاً غفلة وذهول، ولا ینقضی تعجّبی من قولهم بالأمر الضمنیّ السخیف.
وإنّی ابتلیت بالحلیفین: الأمر الضمنیّ، والنفسیّ بالنسبة إلی الأجزاء، بخلاف الأمر الغیریّ، فإنّه ـ کما تحرّر ـ یمکن ثبوتاً، ولکنّه ممنوع إثباتاً، فلیراجع محلّه.
ثمّ إنّ انحلال المرکّب إلی الأجزاء علی اعتبارین: انحلال عرفیّ، وهو إلی الأجزاء الدخیلة فی الماهیّة والاسم المرکّب، وانحلال تعبّدی وبنائیّ، وهو إلی الأجزاء الأعمّ من کونها مقوّمة للاسم، وما لیس بمقوّم، ولکنّه اعتبر بالقیاس إلیٰ سقوط الغرض، أو سقوط الأمر، أو حصول الغایة، أو ترتّب الأثر الخاصّ، وهکذا.
[[page 36]]مثلاً: الصلاة تنحلّ إلیٰ عدّة أجزاء، هی مقوّمة لتلک الهیئة التی تقوم بها، وتکون تلک الأجزاء مقوّمة لها، وإلیٰ بعض الأجزاء مثل الاستعاذة أو السورة، أو غیرهما ممّا لا مدخلیّة لها فی صدق الاسم، فلو کان مورد الأمر ـ کما عرفت ـ عنوان «الصلاة» مثلاً، فلا یدعو إلاّ إلیٰ ذلک العنوان.
وإذا لم یکن للأمر ودلیله إطلاق کما هو المفروض، وشکّ فی وجوب شیء هو دخیل عرفاً فی صدق الماهیّة، فلا وجه لإجراء البراءات الثلاث، کما إذا شکّ فی وجوب معظم الأجزاء وکثیر منها؛ بحیث لیست بقیّة الأجزاء من الصلاة عرفاً، فإنّه واضح وجوب الاحتیاط بالنسبة إلی المقدار الصادق علیه عنوان «الصلاة».
وأمّا بالنسبة إلی البعض، أو إذا کان الشکّ من الأوّل فی بعض الأجزاء غیر الدخیلة، فلابدّ من الاحتیاط حسب الاستصحاب المذکور، دون الوجوه العقلیّة المتمسّک بها، فالبراءة العقلیّة والشرعیّة غیر جاریة؛ لجریان الأصل الشرعیّ الحاکم علیها.
بل هو وارد علی البراءة العقلیّة، وحاکم علی البراءة الشرعیّة:
أمّا وروده علی البراءة العقلیّة؛ فلأنّ البراءة العقلیّة أصل حیث لا مقتضی للاشتغال، وأمّا إذا کان هناک مقتضٍ للاشتغال ـ وهو استصحاب بقاء وجوب الصلاة المعلوم یقیناً، والمشکوک بقاءً، المقتضی لإتیان الجزء المشکوک عقلاً، وللتنجیز بالنسبة إلیه ـ فیکون بیاناً ودلیلاً وحجّة عقلیّة علیٰ لزوم الجزء؛ لأنّ ذات الجزء غیر داخلة فی محطّ العلم السابق.
إلاّ أنّ لازم وجوب الصلاة بقاءً لازماً عقلیّاً ـ بمعنیٰ أنّ العقل یدرک أنّه لا یمکن نقض یقینه السابق إلاّ بالیقین، وهو لا یحصل إلاّ بإتیان الأکثر ـ فعلیّة الأکثر؛ للخلاص عن محطّ الواجب الشرعیّ. ولیس هو من الأصل المثبت کما هو الواضح؛
[[page 37]]فإنّا لسنا بصدد إثبات وجوب الجزء شرعاً، بل نفس بقاء الوجوب علی الصلاة تعبّداً بأصل محرز، یکون بیاناً عقلاً علی الجزء، فلا تجری البراءة العقلیّة بالضرورة، ویکون مقتضی الأصل الشرعیّ وارداً وبیاناً واقعیّاً للأصل العقلیّ.
وأمّا حکومته علی البراءة الشرعیّة؛ فلأنّ مجرّد کون الشکّ فی بقاء وجوب الصلاة، ناشئاً عن الشکّ فی وجوب الأکثر لا یکفی؛ لتقدّم الأصل الجاری فی السبب علی الأصل الجاری فی المسبّب، کما هو کذلک إذا کان المسبّب مجری الأمارة الشرعیّة.
وأیضاً: هو کذلک إذا کان الأصل الجاری فی المسبّب محرزاً؛ وذلک لأنّ حقیقة إحراز وجوب الصلاة تعبّداً وحقیقة وتنجّز الحکم السابق فی ظرف الشکّ، هو تنجّز الحکم المشکوک فیه، وهو حکم الجزء.
مع أنّ لازم الحکم إذا کان حکماً یترتّب علی المستصحب، لا یعدّ من الأصل المثبت، فإذا کان لازم الاستصحاب فی مورد حجّة فهو مقدّم علی البراءة بعین ما یقدّم نفس الملزوم المستصحب.
هذا إن لم نقل: إنّ موضوع الأدلّة النقلیّة والبراءة الشرعیّة، هو الشکّ الذی لا تقم علیه الحجّة الأعمّ من العقلیّة والشرعیة، کما أقرّه المحقّق الوالد ـ مدّظلّه ، وإلاّ فالاستصحاب وارد علی البراءة الشرعیّة أیضاً؛ لأنّ غایتها هی الحجّة، والاستصحاب حجّة فی الملزوم واللازم.
فبالجملة: ولو قلنا بأنّ مفاد البراءة الشرعیّة تقیید الأدلّة الواقعیّة وبحکم الاستثناء وحتیٰ فی فقرة «ما لا یعلمون» کما هو الأظهر من غیر لزوم الدور
[[page 38]]وغیره، لا مجریٰ لها بعد جریان الاستصحاب المذکور.
وبالجملة: إذا شکّ فی الوقت أنّه أتیٰ بصلاة الظهر والعصر، یجب علیه ـ استصحاباً ـ صلاة الظهر والعصر، وهو وارد علیٰ قاعدة الاشتغال. ولا شبهة فی جریان الاستصحاب المذکور، ویکون مصبّ الاستصحاب عنوان «الصلاة» وأنّها کانت واجبة ومأموراً بها ومبعوثاً إلیها، والآن کما کانت، وکذلک الأمر هنا، فالمناقشة فی الاستصحاب ومجراه غلط. وتوهّم محکومیّته بأصل البراءة العقلیّة أو الشرعیّة، أیضاً فی غیر محلّه.
فالمحصول ممّا قدّمناه: أنّه فی بعض الصور یجب الاحتیاط عقلاً؛ وهو ما إذا کان مورد الأمر عنوان «الصلاة» وشکّ فی وجوب مقدار من الأجزاء؛ بحیث یلزم الشکّ فی صدق العنوان المذکور، أو یعلم انتفاء الصدق.
وفی بعض الصور یجب الاحتیاط شرعاً؛ وهو فی مورد لم یکن الجزء بفقده مضرّاً بالاسم والعنوان، فإنّه یجری حینئذٍ استصحاب الوجوب والأمر، وهو متّبع إلیٰ أن یأتی بکلّ ما یکون محتمل الدخالة فی سقوطه.
فتحصّل لحدّ الآن: أنّ البراءتین: العقلیّة والشرعیّة ولو کانتا فی حدّ ذاتهما جاریتین، إلاّ أنّهما محکومتا الأصل الشرعیّ وروداً أو حکومة، وتحصّل أیضاً: أنّه لا تجری البراءة من غیر أن یتقوّم اندراج المسألة فی المتباینین، کما أشرنا إلیه فی أوّل البحث، خلافاً لصریح «الدرر» والأراکیّ وغیرهما رحمهم الله.
[[page 39]]