الجهة الثانیة فی أن مسألة التجرّی فقهیّة
إنّ مسألة التجرّی من المسائل الفقهیّة؛ لأنّ البحث حول حرمته، وعدم حرمته، أو حول کون العبد مستحقّاً للعقوبة عقلاً وعدمه، حتّیٰ یترتّب علیه فسقه، وعدم قبول شهادته، فیکون بحثاً صغرویّاً محتاجاً إلی الإثبات؛ إمّا بدعویٰ شمول الأدلّة الشرعیّة والقوانین الکلّیة له، أو بدعویٰ کشف العقل فی مورده ـ لأجل الملازمة ـ حرمته الشرعیّة، أو لأجل أنّه قبیح، ویکون من مصادیق القاعدة الکلّیة: «وهی أنّ کلّ قبیح عقلیّ یستحقّ العبد العقوبة علیه».
فما یظهر من بعضهم : من احتمال کونها اُصولیّة أو کلامیّة، خالٍ من التحصیل جدّاً؛ ضرورة أنّ الخلط بین المسألة الفقهیّة وبین دلیلها، غیر جائز.
وبعبارة اُخریٰ : یتفحّص الاُصولیّ فی هذه المسألة عن إمکان شمول الإطلاقات للتجرّی وعدمه، لا عن الدلیل وحجّیتها، کما هو الظاهر، وهکذا یتفحّص عن إمکان إدراج التجرّی فی قاعدة استحقاق العقاب علی القبیح وعدمه، ولذلک لیس قبح العصیان أیضاً من المسائل الکلامیّة؛ فإنّها بحث کلّی حول عنوان القبیح، واستحقاق العقوبة علیه، من غیر تعرّض لخصوص مصداقه؛ عصیاناً کان، أو تجرّیاً،
[[page 46]]وممّا ذکرنا یظهر مواقف النظر فی کلمات جمع منهم، والأمر سهل.
إن قلت : إذا ثبت حرمة التجرّی شرعاً أو عقلاً؛ لذاته، أو لعنوان عرضه، فیستنتج منه الصغریات الجزئیّة، فتکون المسألة اُصولیّة.
قلت : هذا غیر کافٍ لکون المسألة اُصولیّة؛ ضرورة أنّه إذا ثبت وجوب إکرام العلماء، یستنتج منه الصغریات الجزئیّة، ویتشکّل الشکل الأوّل، ولکنّها قاعدة فقهیّة کلّیة، ومسألتنا هذه ـ بعد قیام الدلیل علیها ـ ترجع إلیٰ أنّ التجرّی مثلاً حرام، وهذا قانون فقهیّ کلّی، کما یقال: «الخمر حرام» فافهم واغتنم.
ثمّ إنّه ربّما یمکن أن یبحث هنا فی أصل قاعدة الملازمة، ولکنّه أجنبیّ عن مبحث التجرّی، کما هو الظاهر.
نعم، به تنحلّ معضلة التجرّی حکماً، وهذا لایورث کونه من المسائل الاُصولیّة.
فبالجملة : البحث هنا یرجع إمّا إلیٰ حرمة التجرّی بذاته، أو لأجل الأمر العارضیّ، أو حرمة المتجرّیٰ به لذاته، أو لأمر عارضیّ، وإمّا إلی استحقاق العقوبة الملازم للتحریم الشرعیّ، أو مطلقاً، وعلیٰ کلٍّ تکون فقهیّة؛ لإمکان هذه المباحث حول الکذب، والظلم، وشرب المسکر، وغیر ذلک من المقبّحات العرفیّة. نعم علیٰ بعض التقادیر تعدّ من المبادئ التصوّریة.
إشکال ودفع
اختار الوالد المحقّق ـ مدّظلّه أنّ المسألة لیست فقهیّة؛ للزوم کون العبد
[[page 47]]مستحقّاً للعقوبات غیر المتناهیة، کما عرفت فی البحث السابق تقریبه.
وأنت خبیر بما فیه، فإنّ کون المسألة فقهیّة، لاینافی عدم تمامیّة حکمها؛ لأجل الامتناع المحرّر فی باب العصیان والطاعة.
هذا مع أنّ التجرّی إذا ثبتت حرمته الشرعیّة، یکون بعنوان التجرّی حراماً، لا بعنوان أنّه أمر واقعیّ یکون عصیاناً، وهذا ممّا یکون فی مبدأ السلسلة، ولا یتجاوز إلی الحرمة المتعلّقة بالتجرّی؛ فإنّها حرمة واقعیّة، لاتجرّی بالقیاس إلیها، فیقطع التسلسل، فما هو مورد البحث هو التجرّی المصطلح علیه المضاف إلی القطع المخالف للواقع، فلاتخلط، وکن علیٰ بصیرة.
وبالجملة تحصّل : أنّ البحث إمّا یکون بحسب المحمول، حول الحرمة المستفادة من إطلاقات العناوین الأوّلیة، أو المستفادة من القاعدة العقلیّة، أو یکون حول قبح التجرّی، أو حول أنّه یستحقّ العقوبة:
فإن کان الأوّل ، فکون المسألة فقهیّةً واضح.
وإن کان الثالث، فهو بحث غلط؛ لأنّ التجرّی ـ بما هو هو ـ لایورث الاستحقاق، بل یورثه لأجل کونه قبیحاً.
وإن کان الثانی، فلابأس بعدّه من المبادئ التصوّریة لمسألة فقهیّة، أو لمسألة کلامیّة، والأمر سهل.
ومن الغریب توهّم : أنّ البحث عن کونه قبیحاً من المسألة الاُصولیّة!! مع أنّ قبح التجرّی إذا انضمّت إلیه الکبری الکلامیّة، یورث النتیجة المطلوبة.
[[page 48]]وأمّا جعل قبح التجرّی کبریٰ کلّیة، فهو بلا أثر، مثلاً إذا قیل: «هذا العمل الکذائیّ تجرٍّ، والتجرّی قبیح» تصیر النتیجة : «أنّ العمل المزبور قبیح» وهذا لاینفع الاُصولیّ فی الفقه إلاّ بعدما إذا تشکّل القیاس الآخر «وهو أنّ التجرّی قبیح، وکلّ قبیح یستلزم العقوبة، فالتجرّی یستلزم العقوبة» فاغتنم.
[[page 49]]