حول وجوه المنع عن دلالة الآیات الناهیة عن اتباع الظنّ
نعم، بقیت بعض الوجوه الاُخر:
فمنها : أنّ مقتضیٰ إطلاق الآیة ممنوعیّة الاستدلال بها؛ ضرورة أنّ اتباع الظواهر من مصادیق اتباع غیر العلم، ولازمه الزجر عن اتباع ظاهر الآیة والآیات المستدلّ بها هنا، وهذا جواب عن جمیع الآیات الناهیة.
أقول: قد مرّ منّا فی مباحث الظواهر، ما یتعلّق بهذه المسألة من البحوث.
ومن الممکن أن یقال: إنّ هذه الآیة والآیات، تورث الوثوق والاطمئنان بأنّ
[[page 423]]ما لیس بعلم ممنوع اتباعه، فیکون الخبر الواحد غیر المورث غیر حجّة حسب الآیة، وإذا کان مورثاً للوثوق والاطمئنان فلا بأس بحجّیته؛ لأنّه العلم عرفاً، والآیة تنهیٰ عن اتباع غیر العلم، فلا یتمّ ـ حسب مفادها ـ ما هو المقصود؛ وهو حجّیة مطلق خبر الثقة، وتکون رادعة عنه.
وإن شئت قلت: لابدّ عقلاً من اختیار حجّیة هذه الآیة، وإلاّ تلزم اللغویّة، فحجّیة هذه الآیة ثابتة قطعاً، وعندئذٍ تکون مانعة من اتباع غیر العلم.
وهذا لیس من تخصیص الآیة بنفسها، کما فی «تهذیب الاُصول» ضرورة أنّ التخصیص فرع الشمول البدویّ، والانصراف یمنع عن الشمول، فلا وجه لما فیه: «من أنّ التخصیص إذا جاز بالنسبة إلیٰ نفسها، فیجوز بالنسبة إلیٰ أخبار الآحاد بأدلّة حجّیتها».
هذا مع أنّ الالتزام بحجّیة الظواهر بعد قطعیّة السند، ممّا هو ضروریّ؛ لأنّ القرآن جاء لهدایة البشر، فلابدّ عقلاً من ذلک فی خصوص ظواهرها، بخلاف ما هو ظنّی الصدور، فلیسا هما فی عَرْض واحد حتّیٰ عند العقلاء، ولو کانا واحداً عندهم ولکنّهما ـ حسب هذه الآیات، ونزول القرآن ـ مختلفین فی نظر الشرع، فتدبّر.
ومنها : أنّ الحکومة والتخصیص ودعوی الانصراف، کلّها لو کانت غیر تامّة، ولکنّ الورود ممکن؛ فإنّ مفاد الآیة لیس إلاّ النهی عن اتباع غیر الحجّة، ضرورة أنّ «العلم» فی لسان الأخبار هی الحجّة، کما تقرّر فی محلّه؛ للقرائن الخاصّة، وفیما نحن فیه أیضاً یکون المراد منه الحجّة؛ إذ لو اُرید منه العلم الوجدانیّ، للزم تعطیل الأحکام الکثیرة، أو ورود التخصیص الأکثر المستهجن، انتهیٰ ما فی «تهذیب الاُصول» بإجماله.
[[page 424]]ولا یخفیٰ: أنّ الورود شأن أدلّة حجّیة خبر الواحد، لا السیرة فقط.
وفیه: أنّه یمکن أن یکون العلم أو الوثوق والاطمئنان مراداً، وتکون الأخبار التی تورث الوثوق حجّة، فلا یلزم تخصیص، ویلزم منه مردوعیّة المدّعیٰ؛ وهو حجّیة الخبر الواحد علیٰ إطلاقه، ضرورة أنّ حجّیته فی الجملة ممّا لا یکاد ینکرها أحد، وهی من الضروریّ، فما هو المهمّ للمثبتین إثبات حجّیته علی الإطلاق، وهذه الآیات تمنع ذلک الإطلاق الذی هو مقصودهم فی المقام.
وکون المراد من «العلم» هی الحجّة أحیاناً فی بعض الأخبار للشواهد، لا یستلزم ذلک فی الآیة بعد اختلاف عصرهما.
هذا مع أنّه لو کان المراد من «العلم» هو العلم المنطقیّ الوجدانیّ، فلا یلزم إلاّ تخصیص واحد؛ وهو حجّیة الوثوق والاطمئنان، دون الخبر الواحد. وتعطیل طائفة من الأحکام ممّا لا یوجب القول بالحجّیة؛ لأنّ من ینکر حجّیته یلتفت إلیٰ ذلک، ویلتزم به جدّاً، ولا یعتقد أنّه من الأحکام الإلهیّة؛ حتّیٰ یستوحش من هذه الحملة الحیدریّة الروحانیّة.
ومنها : أنّ مقصود المستدلّین بهذه الآیة ، ردع السیرة العقلائیّة القائمة علی العمل بالخبر الواحد، وهذا غیر ممکن؛ للزوم الدور، ضرورة أنّ رادعیّة الآیات موقوفة علیٰ عدم مخصّصیتها بالسیرة، ولو کانت مخصّصة بها لما أمکن أن تکون رادعة ، وعدم مخصّصیتهابها موقوف أیضاً علیٰ رادعیّتها عنها.
وبعبارة اُخریٰ: لابدّ وأن تکون الآیات فی قوّة الردع عن السیرة، مع أنّ السیرة أقویٰ منها؛ لأنّها تخصّصها.
أقول: لیس المقصود من الردع إلاّ إبلاغ عدم الرضا بالسیرة العقلائیّة، وأمّا
[[page 425]]الردع وقلع مادّة الفساد خارجاً، فهو لیس دأب الشرع فی مرحلة التقنین، فعلیه کما تکون السیرة علی القمار قبل الإسلام إلیٰ أن طلع الإسلام، ویکون باقیاً إلیٰ زماننا، ومع ذلک یردع عنه الشرع بقوله تعالیٰ: «لاٰ تَأْکُلُوا أمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِل» کذلک الأمر هنا، فإنّ السیرة العملیّة باقیة ودائمیّة وقدیمة، إلاّ أنّ الشرع ربّما أظهر عدم رضاه بها بهذه الآیة، فالآیة رادعیّتها موقوفة علیٰ کون إطلاقها مراداً، وإذا کان الأمر کذلک، یتبیّن عدم رضا الشرع بتلک السیرة العملیّة ولو کانت متعارفة بین المتشرّعة الجاهلین بالأمر.
وإن شئت قلت: الکلام هنا فی أدلّة النافین، والمفروض عدم قیام الدلیل علیٰ حجّیة الخبر الواحد، بل المفروض عدم حجّیته حسب الأصل، ویکون ذکر هذه الأدلّة تأیـیداً لذلک الأصل ؛ وتأکیداً له، وتکون فی قوّة معارضة الأدلّة المثبتة علیٰ وجه لا یتمکّن المثبت من الخروج عن مقتضی الأصل الأوّلی المزبور بالتخصیص والتقیید، وعلیٰ هذا یکون النظر إلی السیرة نظر الشکّ فی کونها ممضاة، وعندئذٍ تصلح الآیات للردع عنها بالضرورة.
ولو قلنا: بأنّ السیرة حجّة، وإنّما الردع یمنع عنها، فإنّ الآیات تمنع، فما فی کلام العلاّمة الأراکیّ قدس سره هنا، لا یخلو من تأسّف. کما أنّ توهّم الدور غیر جائز، وسیمرّ علیک بعض الکلام حوله عند تقریب أدلّة المثبتین ، ووجه تمامیّة استدلالهم بالسیرة.
بقی شیء : لو أقرّ المنکر بوجود السیرة العملیّة علی العمل بالخبر الواحد عند طلوع الإسلام، فعدم ردع الشرع دلیل اعتبارها، وعندئذٍ لا یمکن أن تکون
[[page 426]]الآیات رادعة عنها، ولا یمکن أن یکون النظر إلیها نظر الشکّ فی حجّیتها.
وفیه: أنّ عدم الردع المتعقّب بإظهار عدم الرضا حسب الآیة الشریفة، لا یکفی لکشف الإمضاء.
وتوهّم: أنّ الآیة بحکم العامّ والمطلق بعد ورود المخصّص والمقیّد، غیر جائز فی مثل هذه الاُمور؛ ضرورة أنّ الردع عن المغروسات الذهنیّة والسیر الخارجیّة المحتاجة إلی الفرصة المناسبة، لا یدلّ علیٰ شیء، ولا یکشف عن الرضا والإمضاء، کما لا یخفیٰ، ومن هنا یظهر ضعف ما فی «تهذیب الاُصول» لحلّ المشکلة المزبورة.
ومنها : أنّ الخطاب فی هذه الآیة، یجوز أن یکون مخصوصاً بالنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی المسائل الاُخر؛ لأنّ الآیات السابقة وإن کانت خطاباتها بصیغة الجمع، إلاّ أنّها أیضاً لیست متوجّهة إلیٰ عامّة المکلّفین؛ ضرورة أنّ التقرّب إلیٰ أموال الیتامیٰ، لا یجوز للفسّاق بالضرورة، ولیست العناوین المأخوذة عامّة شاملة لکلّ أحد، حتّیٰ یقال: بأنّ هذه الآیة فی سیاقها، فیکون المخاطب المکلّف، فالآیة مجملة.
نعم، الآیات المتأخّرة عنها وإن کانت تناسب العموم، مثل قوله تعالیٰ: «وَلاٰ تَمْشِ فِی الْأرْضِ مَرَحَاً» إلاّ أنّـه لا یکون حجّـة شرعیّـة علی الإطـلاق فیما نحن فیه.
ومنها : أنّ الاتباع لما لیس به علم، إن کان هو کنایة عن العمل، فلازمه الاحتیاط فی الشبهات التحریمیّة، دون الوجوبیّة؛ لأنّ ترکها لیس عملاً. نعم الإتیان
[[page 427]]بالشبهات الوجوبیة، أیضاً ممنوع ممّا لا یکون بها علم. وهذا قطعاً لیس مراداً، إلاّ إذا قلنا باختصاص الآیة الکریمة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لأنّه یعلم کلّ شیء عند الحاجة إلیه، فعلیٰ هذا تصبح الآیة ـ لأجل هذه الجهة ـ مجملة.
ومنها : أنّ المنهیّ هو اتباع ما لیس به علم، وکما یکون الاتباع لحکم الله تعالی المعلوم خارجاً عنه، کذلک الاتباع للخبر الواحد المعلومة حجّیته، یکون خارجاً عنه تخصّصاً، وهذا لیس من الورود، ولا الحکومة، ولا التخصیص والتقیید.
وبالجملة: حجّیة الخبر الواحد معلومة لنا بالضرورة، ولا یکون الحجیة ظنّیة ولو کان مؤدّاها ظنّیاً وإذا کان الاتباع عن خبر زرارة من الاتباع اللغویّ والعرفیّ، وکان اعتبار خبر زرارة قطعیّاً، یکون هو خارجاً عن منطوق الآیة.
وإن شئت قلت: کلمة «عِلْمٌ» نکرة فی سیاق النفی، فـ «لاٰ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» أی علم ما؛ لمکان التنوین الداخل علی النکرة، ولنا العلم بحجّیة خبر الثقة.
اللهمّ الاّ أن یقال: بأنّ دعوی العلم بالحجّیة بالنسبة إلیٰ مطلق خبر الثقة، من الجزاف المنهیّ، فتکون الآیة تامّة للرادعیّة.
ومن هنا یظهر: أنّ توهّم المعارضة البدویّة بین ظاهر الآیة، وقطعیّة حجّیة الخبـر الواحـد ؛ وأنّه عندئـذٍ لابـدّ من الأخذ بما هو المقطوع، وترک الآیة إلیٰ أهلها، غیر صحیح؛ لأنّ ما هو المقطوع به هو الخبر الواحد فی الجملة؛ أی الخبر الواحـد الحاصـل منه الوثـوق والاطمئنـان، دون مطلقـه ، فیکون ظاهر الآیة باقیاً علیٰ قوّته للردع.
ولعمری، إنّه لولا ما أشرنا إلیه من طریان الإجمال علیٰ الآیة من تلک الناحیة، لکانت دلالتها علیٰ عدم رضا الشرع بإخبار الواحد غیر الحاصل منه
[[page 428]]الوثوق والاطمئنان، تامّة جدّاً.
بقی شیء: یمکن أن یقال: إنّ مقتضیٰ قوله تعالیٰ: «یَا أیُّها الَّذینَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِیرَاً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ» عدم حجّیة مطلق الظنّ؛ عملاً بالعلم الإجمالیّ، فتدبّر.
[[page 429]]