الجهة السادسة : فی مفاد قوله تعالیٰ: «أنْ تُصِیبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ ...»
اعلم: أنّ هناک احتمالاتٍ ثلاثةً:
[[page 459]]أن تکون الجملة تعلیلیّة.
وأن تکون حکمة ونکتة وعلّة تشریع.
وأن تکون مفعولاً به للفعل المحذوف، وهی جملة: «اتقوا» أی «إنْ جَاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا» واتقوا «أنْ تُصِیبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ».
ثمّ إنّ محتملات الجهالة کثیرة:
أن یراد منها الجهل قبال العلم.
وأن تکون بمعنی السفاهة.
وأن تکون بمعنی الجور والغلظة.
وفی بعض التفاسیر: ««أنْ تُصِیبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ» أی بخطأ» فتصیر المحتملات کثیرة جدّاً.
هذا هو إجمال من المحتملات فی الذیل، وإلیک تفصیل لوازم تلک المحتملات، ثمّ بعد ذلک نشیر إلیٰ ما هو الظاهر منها.
فمنها: أنّ الذیل إذا کان علّة تامّة شرعیّة لإیجاب التبیّن، والجهالة هو ضدّ العلم، فبناءً علیه لا معنیٰ للمفهوم هنا؛ لأجل توقّف المفهوم للقضیّة الشرطیّة علیٰ ثبوت الإطلاق؛ حسبما تحرّر، ولا معنیٰ لإطلاق الشرط بعد نصوصیّة الکلام
[[page 460]]فیما هو العلّة.
وهذا إشکال أبدعه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه واعتقد أنّه علیٰ تقدیر تمامیّته لا تصل نوبة البحث إلیٰ مسألة معارضة المفهوم والتعلیل، وإلیٰ دعویٰ حکومة المفهوم علی التعلیل، والمناقشة فی تلک الحکومة.
أقول: لا منع ثبوتاً من الالتزام بالعلّتین، کما تحرّر فی باب المفاهیم، وتکون النتیجة انقلابَ العلّة المنحصرة الحقیقیّة إلی الإضافیّة، وإذا کان ظاهر أخذ الفسق فی الشرط، دخالتَه فی الحکم، یلزم کون الفسق والإصابة بالجهالة ـ التی ربّما تتّفق فی مورد خبر الفاسق ـ مجموعاً علّة واحدة، کما قد جمع الأصحاب بین ما ورد: «إن خفی الأذان فقصّر» وما ورد: «إن خفیت الجدران فقصّر» فیکون کلّ واحد جزء العلّة فی صورة المقارنة.
نعم، بین المثال وما نحن فیه فرق من جهة اُخریٰ، وهو غیر مضرّ بالمقصود، فلا تخلط.
وعلیٰ هذا، إذا انتفی الفسق ینتفی وجوب التبیّن فی مورد النبأ الجائی به العادل، وإذا لم یکن إشکال آخر، فلازمه حجّیة خبر الثقة والعدل، فما فی «التبیان»: «من لزوم إجمال الآیة الشریفة؛ لعدم امکان الأخذ بالشرط والتعلیل» غیر سدید
[[page 461]]وهکذا ما فی «الدرر»: «من تردّد العلة بین کونه فسق المخبر، وبین ما فی الذیل» فإنّه لا تـتردّد العلّة، بل تـترکّب العلّة منهما، والوجوب معلولها.
ومنها: أی من تلک اللوازم؛ أنّ مقتضیٰ علّیة الدلیل، ممنوعیّة جمیع الظنون الخاصّة، ورادعیّة الآیة ذیلاً عن کافّة الظنون، ومنها: الظواهر فیها نفسها ومفاد مفهومها، فلابدّ عندئذٍ من الالتزام بالتخصیص الکثیر، مع أنّ الآیة تأبیٰ عن تخصیص واحد.
وتوهّم: أنّ التخصیص ممنوع مطلقاً؛ لأنّ أدلّة حجّیة الظنون الخاصّة، حاکمة علیٰ عموم التعلیل، کحکومة الأدلّة المبیحة للربا علیٰ الآیة الآبیة عن التخصیص؛ فإنّ الإباء عن الحکومة لا معنیٰ له، غیر سدید؛ لما تحرّر: من أنّ مسألة تـتمیم الکشف، لا أساس لها فی الآثار.
نعم، قضیّة ما تحرّر منّا لمفهوم الشرط هنا، هو لزوم کون خبر العادل واضحاً ادعاءً، ولکنّک عرفت ما فیه. وتوهّم ذلک فی مورد خبر الواحد ولکنّه غیر تامّ بالنسبة إلیٰ بقیّة الطرق والأمارات.
وتوهّم: أنّ المراد من «الجهالة» هی ضدّ العلم، ولکنّ المراد من العلم هی الحجّة، فتکون أدلّة حجّیة الظنون، واردةً علیٰ عموم التعلیل وإطلاق الذیل، غیر تامّ إثباتاً؛ لعدم الشاهد علیه فی محیط الآیة الشریفة، کما مرّ فی البحث السابق.
[[page 462]]ومنها: لو کانت الجملة علّة تامّة، وکان المراد من «الجهالة» السفاهة، وهی ضدّ الطریقة العقلائیّة، فلازمه حجّیة خبر العدل؛ لأنّ السفاهة موکولة إلی العقلاء والعرف تشخیصاً، فیکون العمل بالخبر الواحد الجائی به العادل، خلافَ السفاهة عند العقلاء بالضرورة، وهذا معنیٰ قولهم: «ولو کان الذیل علّة تامّة، وکان الفسق غیر دخیل، فلا یکون للقضیّة مفهوم».
وإن شئت قلت: قضیّة التعلیل حینئذٍ حجّیة خبر العدل؛ لأنّه لیس من مورد الإصابة بجهالة حسب حکم العرف، وأمّا فی مورد خبر الفاسق، فإن صدّقنا العقلاء فی أنّه عمل غیر عقلائیّ فهو، وإلاّ مقتضی الشرط إیضاح أنّ اتباع خبر الفاسق غیر عقلائیّ، فالآیة حسب القضیّة الشرطیّة تعرّضت لموارد الجهالة، وحسب التعلیل تعرّضت لمعنیٰ کبرویّ: وهو حجّیة خبر العادل؛ لجهة أنّه اتباع لأمر عقلائیّ.
وهذا إذا لم یکن للفسق دخالة فی إیجاب التبیّن، وإلاّ فالتقریب الأخیر لا یتمّ؛ للزوم کونه ـ کالذیل ـ علّة للإیجاب المزبور، ومقتضیٰ انتفاء کلّ واحد من الجزءین، حجّیة خبر العادل.
وغیر خفیّ: أنّ مقتضیٰ هذا التقریب ـ وهو الالتزام بأنّ التعلیل هو الأصل، وأنّ القضیّة الشرطیّة لیست إلاّ لإفادة؛ أنّ اتباع خبر الفاسق غیر عقلائیّ، وفیه السفاهة ـ حجّیة خبر الثقة المتحرّز من الکذب ولو کان کافراً.
وأیضاً: مقتضیٰ هذا الاحتمال، أنّ فی المسائل المهتمّ بها، یکون اتباع خبر العدل ـ بل والعدول أحیاناً ـ من السفاهة العقلائیّة، ولازم العلّیة ولو جزءً، عدم حجّیة خبر العادل، فلا یتمّ عموم المدّعیٰ.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ حجّیته فی الاُمور المهتمّ بها، لیست مورد الادعاء، کما لا یخفیٰ. ولا یضرّ بمهمّة البحث.
[[page 463]]وممّا یؤیّد قصور شمول المفهوم لحجّیة خبر العادل فی المسائل المعتنیٰ بها، أو قصور شمول التعلیل علیٰ فرض کون الجهالة سفاهة، قوله تعالیٰ: «فَتُصْبِحُوا عَلَیٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ».
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ الإصباح نادماً من تبعات مطلق التخلّف عن الواقع وعدم الإصابة ولو کان علماً، مع أنّ حجیة العلم قطعیّة.
فبالجملة: یستفاد من التعلیل ملامة الآیة بالنسبة إلی الإصابة بجهالة، وهو أمر مربوط بمقام الإقدام، ویورث اعتبار کون الإقدام عقلائیّاً.
وأمّا جملة: «فَتُصْبِحُوا» فهی من آثار ذلک الإقدام، وقد اُخذت فی الآیة ترغیباً إلیٰ أن یتوجّه الاُمّة إلیٰ أن یکون إقدامهم عقلائیّاً؛ لقلّة الإصابة بجهالة فی مورده، ولو کان الندم عامّاً مشترکاً بین کافّة الطرق التی تکون حجّة ذاتیّة وعرضیّة، ومن هنا یظهر وجه ضعف ما فی کلام العلاّمة الأراکی قدس سره.
وعلیٰ کلّ تقدیر: بناءً علیٰ کون الجهالة هی السفاهة، وکون الأمر بالتبیّن؛ لإیضاح صدق خبر الفاسق وضوحاً أعمّ من العلم والاطمئنان، کما مرّ، وتکون علّة الإیجاب هی السفاهة، لا الفسق، أو هی مع الفسق، کما اُشیر إلیه، فعلیٰ کلّ تقدیر، لازمه حجّیة خبر العادل إلاّ فیما مرّ، ولا یلزم هنا تخصیص، ولا تعارض، ولا حکومة.
ومنها: إذا کانت الجملة حکمة تشریع؛ ونکتة لإیجاب التبیّن، فلا یلزم الإشکال المزبور علی المفهوم، لو لم یکن إشکال آخر فی البین من الإشکالات
[[page 464]]الآتیة المتوجّهة إلیٰ أصل وجوده، ولا تخصیص، ولا معارضة، فتکون الآیة بمثابة قولنا: «إن استطعت حجّاً فقد أوجب الله الحجّ سیاسة للعباد» وتصیر النتیجة هی النظر فی الآیة إلیٰ مسائل نوعیّة؛ وملاحظة الغالبیّة والأکثریّة، لا الشخصیة والفردیّة الاستیعابیّة.
ومنها: لو کان الذیل مفعولاً لفعل محذوف، کما احتمله فی تفسیر الفخر، فتکون الآیة: «اتّقوا أن تصیبوا قوماً بجهالة» فإنّ الحذف علیٰ خلاف الأصل، فکون المحذوف «اتقوا» أولیٰ من کونه «کراهة وحذراً ومخافة» وغیر ذلک ممّا لا یناسب مقامه تعالیٰ.
وعلیٰ هذا، الإصابة بجهالة ممنوع عنها. فإن کانت الجهالة ضدّ العلم، یلزم المعارضة بین المفهوم والذیل فی موارد کون خبر العدل جهالة.
وإن کانت بمعنی السفاهة ضدّ الطریقة العقلائیّة، فلا یلزم تعارض، ورفع المعارضة ولوأمکن ثبوتاً، ولکن قدعرفت عدم قیام الأدلّة علی_' أنّ خبرالعدل علم.
بل لنا أن نقول: مجرّد دعوی العلم، لا توجب حلاًّ للإشکال؛ فإنّ الواقعیّة لاتـتغیّر بالدعاویٰ، وعدم قابلیّة الذیل للتخصیص، لا تنقلب إلی القابلیّة فی موارد أدلّة الحکومة، فتأمّل.
وعلیٰ کلّ تقدیر: لا یبقیٰ مجال لتوهّم إنکار المفهوم؛ بأنّ إطلاق الشرط غیر
[[page 465]]منعقد بعد تذیّله بالمنع عن الإصابة بجهالة، فإن ذلک مندفع بما مرّ.
هذا، ویخطر بالبال أنّ لازم هذا الاحتمال، هو الاتقاء فی موارد قیام خبر العدل؛ إذا کانت الجهالة ضدّ العلم، ونتیجة ذلک عدم حجّیته، فبمجرّد قیام خبر العدل وإن لم یجب التبیّن حسب المفهوم، ولکن لا منافاة بین عدم وجوب التبیّن من الصدق والکذب، ولکن یجب الاتقاء؛ لکونه من الإصابة بجهالة.
وبالجملة: لا یقع تعارض علیٰ هذا الاحتمال بین المفهوم والذیل، ویلزم الأخذ بهما فی مورد خبر العدل إذا لم یکن مقروناً بالوثوق والاطمئنان، فإنّه بما أنّه خبر عدل لا یجب التبیّن، وبما أنّه جهالة یجب الاتقاء، فتأمّل.
وغیر خفیّ: أنّ الجهالة علیٰ هذا التقدیر إذا کانت بمعنی السفاهة، یلزم الاتقاء منها فی الاُمور المهتمّ بها؛ لأنّ النبأ الجائی به العادل، لا یخرج اتباعه فی أمثالها عن السفاهة. ولکن خروج مثلها عن محلّ الاختلاف ومحطّ النزاع، لا یضرّ بمهمّة المسألة، کما لا یخفیٰ.
[[page 466]]