المبحث الأوّل : فی انعقاد هذا النذر وعدمه؛ علی القولین
فنقول : قد یمکن دعویٰ عدم الانعقاد مطلقاً؛ لأجل أنّ الإشکال المزبور مشترک الورود، ضرورة أنّ الأعمّی ینذر ترک الصلاة الصحیحة، لا مطلق الصلاة، وهذا غیر ممکن له الحنث فیه، وما لا یمکن الحنث فیه لایمکن عقده.
ویمکن دعویٰ : أنّ النذر ینعقد علی القولین؛ لأنّ المقصود للأعمّی ترک الصلاة المستجمعة للشرائط والأجزاء، التی هی صحیحة لولا النذر؛ أی لولا النهی المتعلّق بها من قبل النذر، وهذا قابل للحنث.
وأمّا الأخصّی، فقد مرّ سابقاً: أنّ الشرائط علیٰ ثلاثة أقسام، ومنها: الشرائط العقلیّة الدخیلة فی الصحّة، مثل عدم کون الصلاة مزاحمةً بالأقویٰ، أو عدم کونها منهیّةً عنها، وهذا القسم من الشرط خارج عندهم عن حریم النزاع. فالأخصّی والأعمّی هنا سیّان من هذه الجهة، فکما هو یتمکّن من الحنث، هو أیضاً مثله.
[[page 288]]إن قلت : لا رجحان فی ترک الصلاة المستجمعة للشرائط والأجزاء إن کانت باطلة.
قلت : لا دلیل علی اشتراط رجحان متعلّق النذر بعد النذر، بل المناط کونه راجحاً مع قطع النظر عن النذر، والأمر هنا کذلک. نعم بقاء متعلّق النذر راجحاً شرط، وهو هنا حاصل لولا النذر، فلیتدبّر.
وقد یشکل انعقاد النذر؛ لأجل أنّ معنی «الکراهة» فی الأماکن المکروهة، لایرجع إلاّ إلیٰ حدوث المنقصة فی الأمر الراجح، وعندئذٍ لا معنی لنذر ترکه؛ لأنّه من قبیل نذر ترک ماهو الراجح، وهو باطل بالضرورة.
وقال الوالد المحقّق ـ مدّظلّه هنا : «بأنّ الکراهة لا تتعلّق بذات الصلاة، کی یلزم منه هذا المحذور، بل بإیقاعها فی الحمّام مثلاً» انتهیٰ.
وأنت خبیر بما فیه؛ ضرورة أنّ متعلّق الإنشاء نذر ترک الصلاة، لا ترک إیقاعها، ورجوعه إلیٰ ذلک صحیح، إلاّ أنّ الأمر المتعلّق بذات الصلاة، أیضاً یرجع إلیٰ إیقاعها، فما فیه المصلحة الذاتیّة الواقعیّة؛ هو الإیجاد المتّحد مع الوجود وإن لم یتعلّق الإنشاء به، کما تحرّر فی محلّه، فعلیه کیف یعقل کون الإیقاع الصلاتیّ مکروهاً ووافیاً؟! فعلیه یعلم بطلان النذر فی هذه المواقف مطلقاً.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بقصور الأدلّة القائمة علی اشتراط رجحان المتعلّق؛ بحیث یستلزم بطلان النذر فی هذه الصور، بل المرجوحیّة الآتیة من قبل الخصوصیّات، کافیة فی تحصیح النذر المذکور. ویشهد لذلک اتفاقهم علیٰ صحّة مثله.
[[page 289]]وقد یتوهّم انعقاد النذر هنا؛ لأنّ المسألة من صغریات بحث الاجتماع والامتناع، فلا مانع من کون الصلاة واجبة، والصلاة فی المکان الکذائیّ مکروهةً، فتکون «الکراهة» بمعناها الواقعیّ المجامع خارجاً للوجوب، کما یجتمع الحرمة والوجوب.
وهذا واضح المنع؛ لأنّ ما صحّ هناک یختصّ بما إذا کان بین العنوانین عموم من وجه، لا العموم المطلق، فإنّه محلّ إشکال، بل منع عندنا، فلیراجع، ولاتخلط.
وربّما یخطر بالبال دعویٰ: أنّ القدرة التی هی شرط صحّة النذر، لاتنافی العجز الآتی من قبله؛ فإنّ الناذر المرید لترک الصلاة، یرید التوصّل به إلیٰ ترکها، فلو تمکّن من ترکها تکویناً فهو أولیٰ وأحسن، فمتعلّق النذر مع قطع النذر عنه مقدور، وبالنذر معجوز عنه، وهو المطلوب.
فالنذر صحیح، بل هو هنا أولیٰ بالصحّة؛ لأنّه أراد تعجیز نفسه تشریعاً فصار عاجزاً تکویناً.
فبالجملة : القدرة المعتبرة فی تحقّق النذر، هی القدرة علی المنذور مع قطع النظر عنه، ولذلک لا یصحّ نذر ترک الطیران فی الهواء، وأمّا العجز عن الحنث بالنذر فهو غیر مضرّ. وهذا هو السرّ فی تجویز النهی التشریعیّ عن المبغوض علی الإطلاق؛ إذا انتفی .
فتحصّل إلی هنا : أنّ ما توهّمه الأعمّی من اختصاصه بإمکان الحنث دون غیره، محلّ البحث من جهات اُشیر إلیها.
والذی هو الحقّ : هو أنّ إنکار صحّة النذر المزبور، غیر ممکن بالضرورة، فلابدّ من حلّ هذه المعضلات، فلو کان المنذور صحیحاً بعد النذر ـ کما هو مختار
[[page 290]]السیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه وسیأتی فی البحث الآتی ـ فانعقاد النذر بلا شبهة ولا إشکال.
وإن کان باطلاً کما علیه المشهور، فطریق عقده ما مرّ منّا فی خلال البحث.
وقد یتوهّم التفصیل کما فی «الکفایة» : بأنّ المنذور إن کان ترک الصلاة المطلوبة بالفعل بعد النذر، فمنع انعقاده بمکان من الإمکان.
وقال المدقّق المحشّی الأصفهانی رحمه الله: «ولم یذهب إلی انعقاد هذا النذر ذو مسکةٍ».
وإن کان ترک الصلاة الصحیحة اللولائیّة، فهو منعقد.
ولعمری کما یظهر : إنّ العکس أقرب إلیٰ اُفق التحقیق؛ لأنّ الصحیحة اللولائیّة لیست ذات رجحان، فلاینعقد، والصحیحة الفعلیّة والمطلوبة بعد النذر ذات رجحان، ولیست باطلة؛ لما سیأتی: من أنّ النهی بعد النذر لا یتعلّق بالمنذور، حتّیٰ یستلزم الفساد، کما لایخفیٰ.
[[page 291]]