صحّة القول بالأعمّ، وإبطال القول بالأخصّ
إذا عرفت هذه الاُمور ، وتذکّرت أنّ الأخصّی لایتمکّن من ذکر الجامع فی العبادات، فلا وجه للغور فیما یستدلّ به فی مرحلة الإثبات. وحیث قد مضیٰ
[[page 280]]فساد مذهب الشیخ قدس سره أیضاً، یتعیّن القول بالأعمّ، کما علیه أکثر أبناء التحقیق.
ولعمری، إنّ القول بالمجازیّة فی استعمالات ألفاظ العبادات فی غیر التامّة الأجزاء والشرائط، أقرب إلیٰ اُفق التحقیق من مختار «الکفایة» وأصدقائه، کما أنّ اختیار کون الموضوع له هو الصحیح عند العرف، أقرب من ذلک، کما سیأتی وجهه فی بیان المختار فی المعاملات.
بل لا وجه للغور فی الأدلّة التی أقامها الأخصّیون، قائلین: بأنّ الجامع ما هو الأمر المجهول، المشار إلیه بالآثار المستکشفة بالشرع الأقدس؛ ضرورة أنّ التبادر وصحّة السلب ـ بل وصحّة الحمل الأوّلی ـ من الأمارات العقلائیّة علی الحقیقة؛ وحدود الموضوع له، وإذا لم یکن الجامع أمراً واضحاً فی مرتکزهم، فلا یصحّ التمسّک بها، فما فی «الکفایة» غیر خالٍ من التأسّف.
نعم، بناءً علیٰ بعض الجوامع الاُخر ربّما یمکن التمسّک. ولکنّه أیضاً ممنوع؛
[[page 281]]لما عرفت منّا : من أنّ جمیع الجوامع المزبورة، یحتاج فی تتمیمها إلی المعرّفات الخاصّة الواصلة من الشرع، وتلک المعرّفات لا تلازم انکشاف الموضوع له ـ بحدّه الواقعیّ ـ کشفاً تفصیلیّاً، ولا ارتکازیّاً إجمالیّاً.
نعم، لو فرضنا صحّة الحقیقة الشرعیّة بالوضع التعیینیّ، کان لبعض استدلالات الأخصّی وجه ثبوتاً، مثل تمسّکهم بالأخبار المشتملة علی القضایا الإخباریة، مثل إنّ «الصلاة عمود الدین» وناهیة «عَنِ الْفَحْشَاءِ» و «قربان کلّ تقیّ» وهکذا، ومثل تمسّکهم بالقیاس بین الطریقة المألوفة من الشرع، والطرق العرفیّة العقلائیّة.
وأمّا إثباتاً، فالأخبار المشتملة علی القضیّة الإخباریّة، ظاهرة فی القضایا المحصورة الحقیقیّة، فیصیر مفادها «أنّ کلّ صلاة عماد الدین» وعکس نقیضه یکون «مالیس بعماد الدین لیس بصلاة» وهو المطلوب.
وما أورده علیه صاحب «المقالات» وجماعة اُخریٰ من الفضلاء: بأنّ الرجوع إلی أصالة العموم والإطلاق، یکون فی موقف الشکّ فی المراد، دون ما لو کان المراد معلوماً؛ لأنّه من الاُصول العقلائیّة العملیّة، فی غیر محلّه؛ لأنّ وجه الاستدلال لیس من باب دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص، حتّیٰ یقال:
[[page 282]]بأولویّة الثانی، فیجاب: بما عرفت.
بل الوجه دعویٰ ظهور هذه التراکیب فی القضیّة الحقیقیّة، مثل قولهم: «الإنسان حیوان ناطق» و «النار حارّة» وهکذا.
ولکن یتوجّه إلیه : اختلاف التراکیب؛ فما کان متکفّلاً للتحدید الماهویّ، أو ذکر لوازم الماهیّات، فإنّ الشأن فیها هو الحصر الاستغراقیّ، وما کان متکفّلاً لذکر خواصّ الأشیاء وآثارها الوجودیّة ـ کقولهم: «السقمونیا مسهل للصفراء» وهکذا من الأشباه والنظائر المتعارفة فی کتب الأدویة ـ فإنّ ظاهرها القضیّة الطبیعیّة، وهی فی حکم المهملة، ولا أقلّ من الشکّ فی الظهور المزبور.
وتوهّم : أنّه عامّ استغراقیّ، ولکنّه حکم اقتضائیّ، لا فعلیّ، أی کلّ صلاة عماد الدین بالاقتضاء، إن یرجع إلی الإهمال فهو، وإلاّ یلزم کون الحکم اقتضائیّاً فی بعض الأفراد، وفعلیّاً فی الآخر، مع وحدة الترکیب، فلا تخلط.
وأمّا الأخبار المشتملة علی القضایا الإنشائیّة ـ کقولهم علیهم السلام: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» وأمثاله ـ فهی أجنبیّة عمّا نحن فیه؛ لظهورها الحتمیّ فی الإنشاء، والاستدلال بها یتوقّف علیٰ کونها قضایا إخباریّة ، کما لایخفیٰ.
فبالجملة : تحصّل إلیٰ هنا؛ أنّ عدم إمکان تصویر الجامع للأخصّی ثبوتاً، وعدمَ تمامیّة مقالة الشیخ رحمه الله إثباتاً، یؤدّیان إلیٰ تعیّن القول بالأعمّ إثباتاً، بعد الفراغ عن تصویر الجامع للأعمّی، وقد عرفت : أنّه مع التنزّل وتصویر الجامع، لایتمکّن من الاستدلال أیضاً، مع أنّ حدیث التبادر وصحّة الحمل الأوّلی وصحّة
[[page 283]]السلب لشائع، ممّا لایرجع إلیٰ محصّل، وقد مرّ تفصیله فی مبحثه، فلیراجع.
إن قلت : ظاهر الأخصّی هو الاعتقاد فی العبادات، بأنّها المخترعات الشرعیّة؛ وأنّها الموضوعات لتلک الألفاظ بالوضع التعیّنی، فعلیه یصحّ له الاستدلال بجمیع الدلائل؛ لأنّ مقصوده من «التبادر» هو تبادر المعنی الصحیح عند أذهان المتشرّعة، لا العرف، وهکذا صحّة الحمل والسلب.
قلت أوّلاً : هذا لایتمّ إثباتاً کما هو الواضح؛ لشهادة کلّ مراجع للمآثیر والأخبار: بأنّ استعمال هذه الکلمات فی الفاسد، لایقصر عن عکسه، فکیف یمکن حصول العُلْقة الوضعیّة بکثرة الاستعمال؟!
وثانیاً : إنّ الظاهر منهم ظنّهم أنّ الوضع یکون تعیینیّاً، ولذلک یصحّ لهم التمسّک بالقیاس المشار إلیه، وإلاّ فهو ممّا لا معنیٰ له، لأنّ تقریب القیاس ـ علیٰ ما فی کتبهمـ هو أنّ دیدن العقلاء علی الوضع للأخصّ؛ وذلک لعدم الحاجة إلی الاستعمال فی الفاسد والأعمّ، فإذن یتعیّن أن تکون طریقة الشرع مثلهم فی ذلک، وهذا شاهد قطعیّ علیٰ إرادتهم الوضع التعیینیّ. وأنت خبیر بما فیه من الإشکالات والموهنات، فلاتغفل.
وإذا فرغنا من ذلک، فلا حاجة إلیٰ ذکر الأدلّة للأعمّی، والذی هو الدلیل الوحید الذی بمراجته والتدبّر فیه، یسقط بحث الصحیح والأعمّ من رأس، ولاینبغی إطالة الکلام حوله إلاّ لتشحیذ أذهان المتعلّمین؛ حتّیٰ ترقیٰ أفکارهم إلیٰ أوکار الحقائق، وتطیر أرواحهم علیٰ سطوح الدقائق:
هو أنّ الألفاظ برمّتها ـ قضّها وقضیضها؛ من غیر اختصاص طائفة منها
[[page 284]]بشیء موضوعات لنفس الطبائع فی الماهیّات الأصیلة، والمؤلّفات والمخترعات، والاعتباریّات فی الجملة، فإنّه بالنظر إلیٰ جمیع هذه الاُمور، یکشف باب الاعتقاد بمقالة الأعمّی، من غیر الحاجة إلیٰ الأدلّة المذکورة فی المفصّلات؛ فإنّ المنصف الخبیر کما یطمئنّ ویعتقد برجوع الآثار إلی ربّها، وبرجوع خواصّ الطبائع إلیٰ ثبوت الاقتضاء والعلّیة بین ذواتها وتلک الخواصّ والآثار وجداناً.
کذلک هو بمراجعة وضع الألفاظ وحالها، وکیفیّة دلالتها علیٰ معانیها فی الجواهر والأعراض، وفی المؤلّفات، کالدور والأسواق والشوارع وأمثالها، وفی المخترعات الیومیة، کالسیّارة والطیّارة، یجد أنّ ما هو الموضوع له فی الاعتباریّات المسانخة معها ـ کما فی العبادات، دون الاعتباریّات المخصوصة ببعض الخصوصیّات، کما فی المعاملات ـ مثل غیره.
ولعمری، إنّ بعد التدبّر فی ذلک ـ خصوصاً فی الألفاظ الموضوعة لأنواع الحیوانات والنباتات، وأنواع المرکّبات والمخترعات ـ لانجد وجهاً لعقد البحث أصلاً، کما أشرنا إلیه سابقاً، فلانطیل الکلام بإعادته.
وأمّا تمسّکاتهم بالتبادر، وصحّة الحمل الشائع، وعدمِ صحّة الحمل الأوّلی، علیٰ خصوص الصحیح، وبصحّة التقسیم، وبکثرة الاستعمال فی الأعمّ فی المآثیر والأخبار، فهی قابلة للخدشة، إلاّ أنّ الحاصل من المجموع یؤیّد ما سلکناه؛ من المراجعة إلی الأشباه والنظائر.
هذا، وفی علامیّة هذه الاُمور منع، ظهر منّا وجهه فی محلّه، وتقرّر هناک:
[[page 285]]أنّ الاطلاع علیٰ حدود الموضوع له، لایمکن إلاّ من أمرین علیٰ سبیل منع الخلوّ:
إمّا إخبار أهل اللغة بذلک.
أو الاطراد بالوجه الذی قرّبناه.
وهٰذان یرجعان ـ قضاءً لحقّ انقطاع التسلسل ـ إلیٰ تصریح الواضع، أو الواضع المستعمل، أو إلیٰ قیام القرینة من قبله علیه، فلاحظ جیّداً.
إن قلت : تعطی المراجعة بعد الدقّة، أنّ الحاجة إلی اللغة مقصورة علی الصحیحة؛ لعدم مساس الاحتیاج إلیٰ وضع اللغة للأعمّ، فعندئذٍ یعلم: أنّ الطریقة الشرعیّة فی ألفاظها، مثل الطریقة العرفیّة.
قلت : أمّا فیالمقیس علیه فالأمرواضح المنع؛ ضرورة أنّ الاحتیاجات مختلفة:
فتارة : یحتاج إلی الاستفادة من شیء، فیکون اللفظ هناک ظاهراً فی الصحیح منه، کما إذا قصد شرب الماء، أو أکل الخبز والبطّیخ وهکذا، أو شراء السیّارة والدار وغیر ذلک، فإنّه إذا أمر بها، فلابدّ من کون إرادته الجدّیة متعلّقة بالأخصّ.
واُخریٰ : یحتاج إلیٰ إرجاع الطبائع الفاسدة أو المریضة أو المعیوبة إلیٰ من یعالجها، فإنّه عند ذلک لابدّ من کون المراد الجدّی، ماهو الفاسد والمریض، فإذا أمر بأن یعالج الدکتور أغنامه ومواشیه، أو أمر بمراجعة أهل الفنّ لإصلاح زراعته وأراضیه، فلایرید إلاّ المعنی الأخصّ جدّاً وهو الفاسد، ولکنّ المراد الاستعمالیّ أعمّ فی الفرضین.
ولاشبهة فی أنّ هذا دلیل علیٰ أنّ الموضوع له هو الأعمّ؛ أی لایلحظ فیه لحاظ الأعمّیة، ولا لحاظ الصحّة والفساد معاً، بل معناه عدم لحاظ شیء وراء لحاظ نفس الطبیعة القابلة للاتصاف بالوصفین، فتبیّن ثبوت الحاجة إلی الوضع للأعمّ، وإذا
[[page 286]]کانت الطریقتان ـ الشرعیّة، والعرفیّة ـ واحدة، فیثبت المطلوب.
ولکنّ الشأن هو أنّ هذا غیر تامّ فی المقیس أیضاً؛ إذا قلنا: باختصاص الشرع بطریقة فی تصدّیه للوضع التعیینیّ؛ لأنّه إذا تصدّیٰ لذلک قبال العرف، فیمکن أن یحدث الطریقة الخاصّة، ولکن الحقّ عدم تصدّیه لذلک؛ وأنّ حدیث المخترعات الشرعیّة لایرجع إلیٰ محصّل، إلاّ بالمعنی الذی ذکرناه؛ وهو الوضع التعیّنی أحیاناً فی جملة من الألفاظ، کـ «المؤمن والکافر والمسلم» وغیر ذلک ممّا مرّ، فتدبّر.
فبالجملة : ما استدلّ به الأعمّی من الأدلّة، کلّها قابلة للمناقشة وجداناً، ولکن قضیّة الحدس القطعیّ ـ بل الوجدان البدیهیّ ـ اشتراک الألفاظ المستعملة فی الشرائع کثیراً ـ إلیٰ حدّ الوضع التعیّنی ـ مع غیرها فی حصول العلقة للمعنی الأعمّ، إلاّ ما قام الدلیل فی خصوصه علیٰ خلاف ذلک عند العرف، أو الشرع، کما یأتی فی المعاملات.
[[page 287]]