الأمر الثالث : فی تحریر محلّ النزاع فی الشرائط
قضیّة ما تقرّر منّا فی تحریر حدود محلّ النزاع: هو أنّه إن فرغنا واخترنا الأخصّ، یلزم کون ألفاظ العبادات مثلاً، موضوعةً لما لا یکون إلاّ صحیحاً علی الإطلاق؛ أی لطبیعة إذا تحقّقت ینتزع منها العنوان المزبور، ویتحقّق بها الامتثال، ویسقط بها الأمر والطلب. وإن اخترنا الأعمّ تکون النتیجة هنا هو الأعمّ.
إن قلت : النزاع فی الصحیح والأعمّ حیثیّ؛ أی یقول الأخصّی: بأنّ ما هو الداخل فی المسمّیٰ، لیس مطلق ما هو الدخیل فی سقوط الأمر، والدخیل فی الامتثال؛ وحصول المطلوب؛ ضرورة أنّ الشرائط علیٰ أقسام :
فمنها : ما هو من قبیل الستر والطهارة والاستقبال؛ ممّا یمکن أخذه فی متعلّق الأمر، وقد اُخذ بنحو التقیید.
ومنها : ما یمکن أن یؤخذ ولم یؤخذ، کعدم کون المأمور به منهیّاً عنه بوجه
[[page 224]]آخر، أو عدم کونه مزاحماً بالأهمّ أو بالمثل.
ومنها : ما لا یمکن أخذه فیه، کقصد القربة، والأمر، والوجه، ووجه الوجه، وهکذا.
فما کان من قبیل الأوّل، فهو داخل فی محلّ النزاع؛ لأنّها الأجزاء التحلیلیّة، وهی کالأجزاء المقداریّة.
وتوهّم خروجها؛ لتأخّرها عن اعتبار أصل الماهیّة وإطلاق الاسم علیها، کقولهم: «صلّ مع الطهور» کما عن العلاّمة الأراکیّ رحمه الله غیر تامّ؛ لصحّة قولهم: «صلّ مع الرکوع» وکونها خارجة عن الأجزاء غیر کونها خارجةً عن المسمّیٰ. ولو صحّ ما قیل یلزم صحّة إخراج بعض الأجزاء أیضاً عن حریم النزاع؛ إذا کانت غیر دخیلة فی الغرض إلاّ فی الجملة، فلاتخلط.
وما کان من قبیل الثانی، فإمکان إدراجه فی محلّ النزاع معلوم، إلاّ أنّه غیر متنازع فیه، لعدم احتمال أحد من القائلین بالأخصّ کونَ هذه الشروط العدمیّة داخلة، أو هذه الموانع دخیلة فی المسمّیٰ؛ ضرورة أنّ هذه الموانع لیست موانع ـ بالحمل الشائع ـ إلاّ بعد إمکان تحقّق المسمّیٰ مع قطع النظر عنها. بل لو صحّ اعتبار الموانع فی الاعتباریّات، لایعقل إدراجها فی محلّ النزاع، لأنّها أجنبیّة عن المسمّیٰ.
وما کان من قبیل الثالث، فإمکانه محلّ منع؛ لأنّ هذه الاُمور من اللواحق المتأخّرة عن الأمر، المتأخّر عن المأمور به، فکیف یعقل دخالتها فی المسمّی الذی هو المأمور به؟!
أقول : مع أنّ ما أفاده العلاّمة النائینیّ رحمه الله وغیره فی المقام ـ وکان
[[page 225]]محصّله ما شرحناه ـ غیر تامّ لجهات مذکورة فی محالّها، ولسنا هنا نخوض فیها، لایتمّ ما أفادوه هنا لو کان تامّاً فی حدّ ذاته؛ وذلک لما یظهر من عنوانهم المسألة من أنّ البحث لغویّ، وأنّ الجهة المبحوث عنها فیه لها الإطلاق.
فیکون المراد : أنّ الصحیحیّ یقول: إنّ المسمّیٰ والموضوع له، هی الطبیعة التی إذا وجدت فی الخارج، ینتزع منها عنوان «الصحّة والتمامیّة والسلامة» وأیّ شیء ترید أن تعبّر عنه، ویفید هذا المعنیٰ، والأعمیّ ینکره، ویدّعی أنّ العناوین المذکورة، لیست أمارات حدود الموضوع له، بل هو الأعمّ، فلو انتزع منها المقابلات لها فهو أیضاً من المسمّیٰ. وحصر الصحّة فی الصحّة الحیثیّة والمخصوصة بناحیة الأجزاء دون غیرها، ممّا لا شاهد له.
فلو تحقّقت الطبیعة، ولم ینتزع منها الصحّة والتمامیّة ـ سواء کان ذلک لأجل فقدانها الأجزاء المقداریّة، أو التحلیلیّة، أو الشرائط الآتیة من قبل الأمر، أو کان لأجل وجود المانع؛ بناءً علیٰ إمکان تصویره فی الاعتباریّات ـ فهی لیست مصداق المسمّیٰ والموضوع له عند الأخصّی، بخلاف الأعمّی.
فما توهّمه القوم کلّه الغفلة عن حقیقة الحال، والذهول عن أنّ الصحّة والفساد والتمامیّة، لیست واردة بعناوینها فی المسمّیٰ، حتّیٰ یتوهّم: أنّ قصد القربة متأخّر عنها، فکیف یعقل اعتباره فیها؟!
فبالجملة : النزاع فی هذه الجهة أیضاً غیر متصوّر بما یظهر من بعض الأعلام.
مع أنّ کلمات القوم بشتاتها، تنادی بأعمّیة النزاع من هذه الجهة أیضاً؛ هذا ما فی «الکفایة» حیث قال: «إنّ وحدة الأثر کاشفة عن وحدة المؤثّر؛ فإنّ الأثر مترتّب
[[page 226]]علیٰ تامّ الأجزاء والشرائط» انتهیٰ، وفی «الفصول» ما هو الظاهر فی الأعمیّة.
وعلیٰ کلّ تقدیر : لا معنیٰ لما أفاده القوم، ومنهم الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ، فتدبّر.
إن قلت : نعم، ولکنّ «الصحّة» و «التمامیّة» وما یقاربها من العناوین، کلّها منتزعة من الماهیّة التی تکون أجزاؤها الواقعیّة والمقابلة للشرائط موجودة؛ سواء کانت الشرائط موجودة، أو لم تکن، فحقیقة هذه العناوین قاصرة بذاتها، ولیست معلّقة فی الانتزاع من الخارج علیٰ کونها صحیحةً فی مصطلح الفقهاء والمتکلّمین.
قلت : هذا ممّا لا یصدّقه العقل ولا الخصم؛ وذلک لأنّ سقوط الأمر وموافقة الشریعة وإن لم یکن معناهما معنی «الصحّة» بالحمل الأوّلی، ولکنّه تفسیر بما هو اللاّزم الخاصّ لها، ولا معنیٰ لدعوی الاصطلاح الخاصّ فی مفهومهما لهؤلاء الأعلام، فـ «الصحّة» معناها واضح، واختلاف الناس فی الشرائط والأجزاء الدخیلة فی تحقّقها، غیر الاختلاف فی مفهومها، والخصم ینکر دخول الشرائط لبراهین عقلیّة، ولیس من هذا الوجه فی کلامهم عین ولا أثر، فتدبّر.
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ الذی یمکن أن یکون عنواناً لهذه المسألة؛ هو أنّ المعانی المتبادرة من الألفاظ، هل هی القابلة للاتصاف بالصحّة والسلامة والتمامیّة ومقابلاتها؛ حتّیٰ تکون المسمّیات أعمّ.
أولیست قابلة لذلک، ولا تکون هذه الأوصاف الکمالیّة وصفاً لها، حتّیٰ تکون خارجةً عن ذاتها، بل هی تنتزع منها بعد تحقّقها، فیکون المسمّیٰ أخصّ؟
[[page 227]]ولایذهب علیک أنّ البحث لغویّ، وهذا عنوان معنویّ؛ لأنّه فی العنوان کذلک، ولکنّ الواقع ونفس الأمر یکون بحثاً لغویّاً؛ لرجوعه إلیٰ کشف حال الواضعین ولحاظهم بالقرائن والشواهد .
وإن شئت قلت : البحث هنا حول أنّ الألفاظ، هل هی موضوع وأسامٍ للمعانی التی إذا تحقّقت ینتزع منها مفهوم «الصحّة والسلامة» أو هی للأعمّ؟ والأمر بعد وضوحه سهل.
ثمّ إنّک قد اطلعت خبراً علی أنّ البحث عن مفهوم «الصحّة والفساد» لا وجه له؛ لأنّ الجهة المبحوث عنها أعمّ من الموضوعات الموصوفة بهما، أو الموصوفة بعناوین اُخریٰ من «السلامة والعیب والتمامیّة والنقصان» وغیرها، فالصحیحیّ لایقصر النزاع فی ذلک، حتّیٰ لو أصبح أحد ویقول: بعدم اتصاف المرکّبات الشرعیّة بالصحّة، یکون هو الفارغ عن البحث، بل نظره إلیٰ بیان أخصّیة الموضوع له حسب الکمال والنقص؛ أی أنّ ما هو الموضوع له هو ما ینتزع منه العناوین الکمالیّة المترقّبة بعدما تحقّق فی الخارج، فلاحظ ولا تخلط.
[[page 228]]