الأمر الثانی : فیما یمکن أن یجعل عنواناً للبحث
وقد جعل الأصحاب عنوانه هکذا: «فی أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات أسامٍ للصحیح منها، أو للأعمّ».
وفی کتاب «الدرر» : «فی أنّ ألفاظ العبادات هل هی موضوعة بإزاء خصوص الصحیحة، أو الأعمّ».
وقال الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : «الأولیٰ أن یعنون البحث هکذا: إنّ الأصل فی استعمالات الشارع لألفاظ العبادات والمعاملات ماذا؟» انتهیٰ.
وقد یشکل الأمر تارة: لأجل ما ذکرناه کما عرفت.
واُخریٰ : لأجل أنّ الوضع التعیّنی لیس بوضع، فلایشمل عنوان «الموضوعة» مثله.
ولوشمل قولهم «الأسامی» للوضع التعیّنی، فلایشمل الاستعمالات المجازیّة؛
[[page 219]]فإنّ تلک الألفاظ لیست أسامی للمرادات منها، فیأتی النزاع المذکور فی المجازات مع قصور عنوان البحث عن شموله.
فعلیه یلزم شمول البحث لتلک الألفاظ؛ بناءً علی القول بالحقیقة الشرعیّة بالوضع التعیینیّ، دون التعیّنی والمجاز.
ویمکن حلّه بدعویٰ: أنّ الوضع التعیّنی والتعیینیّ، کلیهما لیسا بوضع علیٰ ما تقرّر؛ فإنّ ما هو المقصود فی مباحث الوضع، أمر آخر غیرهما، أو هما کلاهما وضع؛ نظراً إلی الأسباب المورثة لتلک العلقة والربط.
وأمّا المجازات، فربّما هی خارجة عن الجهة المبحوث عنها فی جمیع الاستعمالات؛ شرعیّة کانت، أو غیر شرعیّة؛ ضرورة أنّ «الأسد» موضوع للحیوان المفترس، ولکنّه لا مدخلیّة للشجاعة فی موضوعه، ولذلک یصدق علی الجبان منه، والمیّت منه، والصغیر منه، فعلیه یأتی فیه البحث، ولکنّه إذا اُرید منه الرجل الشجاع، فلا معنیٰ لصدقه علیٰ من لا شجاعة فیه، فعلیه یتعیّن المجازات فی صورة وجود العلقة والسبب الادعائیّ.
فإذا کانت (الصَّلاة) المستعملة فی الکتاب والسنّة، مجازاً فی المرکّب المقصود بالأصالة والمراد الجدّی، فلابدّ من لحاظ اشتمالها علی الدعاء، أو المیل والعطف، فلایمکن حفظ هذا الاستعمال علی الوجه الصحیح إلاّ مع وجودها، فیتعیّن فی المجازات القول بالأخصّ.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ سبب الادعاء هی هذه الاُمور، ولا منافاة بین بطلانها وفسادها من ناحیة اُخریٰ، فهی صلاة؛ لاشتمالها علی الدعاء، ولکنّها فاسدة؛ لفقدانها الجزء أو الشرط الکذائیّ.
نعم، هذا یرجع إلی النزاع الآخر؛ وهو کیفیّة ادعاء الشرع، ولحاظه العلق
[[page 220]]والأسباب المورثة لصحّة الاستعمال المجازیّ، فإن تمّ البحث هناک ترتفع الشبهة فیما نحن فیه، وعندئذٍ لا مانع من خروجها من الجهة المبحوث عنها فی المقام، کمالایخفیٰ.
وبالجملة : ظاهر العنوانین خروج المجازات من حریم النزاع، واختصاصه بالوضع، سواء کان من قبیل الحقیقة الشرعیّة ، أو کان من قبیل الحقیقة اللغویّة.
وتوهّم لغویّة النزاع حینئذٍ؛ لعدم صحّة «الحقیقة الشرعیّة» فی غیر محلّه؛ وذلک لأنّ المراد من «الحقیقة الشرعیّة» أعمّ من الحاصلة بالوضع التعیینیّ والتعیّنی، والثانی ممّا لایکاد ینکر بالنسبة إلیٰ طائفة من الألفاظ، کما مضیٰ. ولأنّ کثیراً من المخترعات الشرعیّة، کانت سابقة بهیئاتها وموادّها علی الإسلام، کالصلاة والحجّ وأمثالهما، فهی من الحقائق اللغویّة، والتصرّفات الیسیرة لاتورث الاستعمال المجازیّ حتّیٰ یفتتح باب الحقیقة الشرعیّة.
ولعلّ إلیٰ ذلک ترجع مقالة أبی بکر الباقلاّنی: «من أنّ الإطلاقات کانت لغویّة» وإلاّ فهی المقالة السابقة الراجعة إلی الاستعمال المجازیّ بالمعنی الذی ذکرناه: وهو الانتقال من المعنی المستعمل فیه إلی المراد الجدّی بنصب القرینة؛ فإنّ حقیقة المجاز ـ وهی المعبر ـ هذه، کما مضیٰ.
فتحصّل : أنّنا أصبحنا وقد استغنت الشریعة عن المجاز، والاستعمال بالمصحّح، والأسباب المصحّحة؛ لحصول الحقیقة الشرعیّة بکثرة الاستعمال، أو لکون الحقیقة من أوّل الأمر لغویّة، فلا حاجة إلیٰ إدراج المجازات فی عنوان
[[page 221]]المسألة، لو فرضنا إمکان إدراجها فیه.
إن قلت : الحقیقة الشرعیّة خارجة عن عنوان البحث؛ لأنّ الظاهر منه حصول الوضع بوجه لایحتاج إلی القرینة الخاصّة والعامّة، والقرینة المقالیّة والحالیّة، وقد مضیٰ أنّها تحتاج إلی الحالیّة العامّة؛ وهو محیط التقنین والتشریع، ومنطقة الاستعمالات من أرباب الشرع والمتشرّعة، فلا وضع، ولا اسم، فلابدّ من دعوی الحقیقة اللغویّة رأساً.
قلت أوّلاً : لا وجه للالتزام بالعنوان المذکور.
وثانیاً : إنّ من الممکن دعویٰ أنّ القرینة اللاّزمة هی المعیّنة، فتأمّل.
وثالثاً : لا مانع من الإلحاق بعد شمول الغرض والمقصود.
ثمّ إنّه یتوجّه أیضاً إلی العنوان الذی اتخذه الوالد ـ مدّظلّه : ـ مضافاً إلیٰ ما سلفـ أنّ الجهة المبحوث عنها فی الصحیح والأعمّ حول الموضوع له، من غیر النظر إلی الاستعمال وعدمه، وان کان المقصود لا یحصل إلاّ بالاستعمال، ولکنّه لایورث قصر النزاع فیه، کما مضیٰ فی بحث علائم الحقیقة والمجاز فلیراجع، والبحث فی المجازات یرجع إلیٰ حدود العلاقة المنظور إلیها فی نظر الشرع؛ وأنّها العلاقة المورثة لصحّة الاستعمال بالنسبة إلی المصادیق الصحیحة، أو هی الأعمّ، وهذا لایرجع إلیٰ ذاک، ولا وجه لإرجاعه إلیه، کما هو الواضح.
هذا مع أنّ حیثیّة البحث، مغفول عنها فی العنوان المذکور، مع أنّه لابدّ من معلومیّتها فیه؛ ضرورة أنّ من الممکن أن یقال بعد العنوان المزبور جواباً عنه: بأنّ الأصل فی استعمالات الشرع هو الحقیقة، ثمّ بعد ذلک یقع البحث فی أنّ الموضوع
[[page 222]]له خاصّ أو أعمّ، فالعنوان المأخوذ فی کلامه غیر وافٍ بتمام المقصود، کما هو الظاهر، فتدبّر.
ثمّ إنّه یتوجّه ثالثاً إلی العنوان الذی ذکره القوم : أنّ الصحیحیّ لایرید إثبات کون الموضوع له هی الماهیّة الموصوفة بـ : «الصحّة» حتّیٰ یقال: بأنّه إن أراد من «الصحّة» مفهومها بالحمل الأوّلی، یلزم کونه حقیقة ومجازاً بالنسبة إلی المصداق المعیّن؛ حسب اختلاف حالات المکلّفین، وإن أراد منها الصحّة بالحمل الشائع، یلزم کون الموضوع له خاصّاً.
والسرّ فی ذلک ما سیأتی تفصیله : من أنّ الصحّة والفساد، أمران یعتبران حسب إضافة الماهیّة إلی الخارج؛ وتحقّقها فیه، فإن کانت متحقّقة فیه وجامعة لجمیع ما یترقّب منها، ینتزع منها الصحّة، وإلاّ فالمنتزع منه هو مفهوم «الفاسد» ولا معنی لاتصاف مفهوم وعنوان بالصحّة والفساد، وهذا أمر واضح علیٰ جمیع المبانی فی حقیقة الصحّة والفساد، فعلیٰ هذا یتعیّن العدول عن العنوان المزبور.
وتوهّم عدم لزومه إذا فسّرا بالتمامیّة والنقصان، فی غیر محلّه؛ لما یلزم الإشکالُ الأوّل، لأنّ معنی «التمام» حسب حالات الأفراد مختلف، فیلزم کونه حقیقة فی شیء واحد، ومجازاً فیه أیضاً، وهذا ضروریّ البطلان فی باب تحدید معانی اللغات، وتفسیر حدود الموضوعات. مع أنّ المعانی والماهیّات فی عالمها، لاتوصف بالتمامیّة والنقصان.
فتحصّل من ذلک : أنّ الصحیحیّ یرید دعویٰ: أنّ الموضوع له ما لا ینطبق إلاّ علی المصداق الذی ینتزع منه مفهوم «الصحّة» والأعمّی یقول بالأعمّ، وقد أخذ
[[page 223]]عنوان «الصحّة» مشیراً إلیٰ ذلک، ولایکون داخلاً فی المسمّیٰ أصلاً، ولکنّه خلاف المتفاهم من العنوان، فلابدّ من العدول عنه إلی العنوان الآخر.
وإن شئت قلت : لایوصف الشیء بشیء إلاّ باعتبار أمر زائد علیٰ ذاته واقعاً، أو اعتباراً، فکما أنّ الجسم لایوصف بالبیاض والسواد والحرکة والسکون، إلاّ بلحاظ وجوده الخارجیّ، ولا یوصف بالإمکان والشیئیّة إلاّ باعتبار أمر زائد علیه، أو لحاظ أمر وراء أصل حقیقته، کاتصافه تعالیٰ بالعلم، فإنّه بلحاظ انکشاف الأشیاء لدیه، کذلک الطبائع والمعانی الکلیّة لاتوصف بهذه الاُمور ـ من الصحّة والفساد، والسلامة والعیب، والتمام والنقص ـ إلاّ بعد تحقّقها فی الخارج، فإذن لا معنیٰ لتوهّم کون الألفاظ موضوعة لها.
[[page 224]]