المشکاة الثانیة

مطلع 1

مطلع            1

‏ ‏

إعلم، هداک الله إلی حقّ الیقین و جعلک منخرطاً فی سلک الروحانیّین،  أنّ الحقیقة العقلیّة الثابتة بالبراهین العقلیّة المتقنة، علی ما فصّلها الفلاسفة الکاملون و أرمز إلیها الإلهیّون الأقدمون و أشار إلیها المسفورات الإلهیّة و الصحف السماویّة و ألقی الحجاب عنها الآثار النبویّة والولویّة، هی التعیّن الأوّل لحضرة المشیئة المطلقة الّتی قد عرفت مقامها و منزلتها من أحدیّة الجمع. و البرهان علیه،  سوی ما ذکر فی المفصّّلات من مسفورات أرباب الفلسفة، ما ألقی فی رَوعی بلا 

کتابمصباح الهدایة الی الخلافة والولایةصفحه 59
رویّة حین بلوغی إلی هذا المقام من الرسالة. و هو أنّ الحقیقة الغیر المتعیّنة، أیّة حقیقة کانت، إذا صارت متعیّنة بالتعیّنات المتشتّتة اللاحقة لها، لا تتعیّن بشیء منها، إلّا بما هو أسبق رتبة و أقدم مرتبة و ذاتاً؛ أو بما هو أقدم زماناً، إن کانت من الزمانیّات. و بالجملة، یتعیّن و یتصوّر الحقیقة الغیر المتعیّنة و المتصوّرة بالتعیّن الأسبق و الصورة الأقدم. و الماهیّة، أینما حلّت، تتقدّم علی لواحقها و أعراضها من التعلّقات الملکوتیّة و تقدّراتها و لواحقها المادّیّة و أعراضها؛ کما أنّ أصل التقدّر و التعلّق متقدّمان علی لواحقهما الآخر. فتصوّر الحقیقة أوّلاً بالماهیّة، ثمّ غیرها من اللواحق، الأسبق فالأسبق. و عند التفتیش التامّ و الفحص الکامل عن حال مراتب الوجود و عالم النزول و الصعود، لانری فیها ما تعیّن بالماهیّة فقط،  دون لواحقها، إلّا الحقیقة العقلیّة لا غیر. و أمّا سائر الموجودات، من أیّ عالم کان، له تعیّن زائد علی تعیّن الماهیّة؛ فیجب أن یکون متأخّراً عنها، و هی متقدّمة علیها،  تقدّماً دهریّاً؛ کما أنّ تقدّم الحقیقة الغیر التعیّنة علی المتعیّنات یکون تقدّماً بالحقیقة؛ بل تقدّماً حقّانیّاً أزلیّاً. و لا تظنّنّ أنّ تلک اللواحق، أی التعلّق و التقدّر الملکوتی و الإنغمار فی المادّة و الکون تحت سلطان الزمان و التدریج، کانت من لواحق الوجود و أعراضه، لا الماهیّة، لانفکاکها عنها فی التعقّل و التعمّل العقلی. فإنّ ذلک ظنّ فاسد و خیال باطل. لأنّ سنخ ذات الملکوت هو التعلّق و التقدّر؛ و سنخ ذات الملک هو الإسارة بالمادّة و لواحقها، لا یمکن انفکاکها ذاتاً و تعقّلاً، خارجاً و ذهناً. و لهذا حُدّدت «النفس» بأنّها کمال أوّل لجسم طبیعی آلیّ؛ و صار علم النفس من «الطبیعیّات».[1] و قد أقام شیخ العرفاء الکاملین و أعظم الفلاسفة المعظّمین، صدر الحکماء و المتألّهین، [1] قدّس اللّه نفسه الشریفة،  البرهان علی أنّ نفسیّة النفس فی ابتداء نشأتها لیست من العوارض اللاحقه بذاتها،  لازمة کانت أو مفارقة. [2] کذلک أسرالصور الملکیة بالمادّة و لواحقها ذاتاً ممّا قام البرهان علیه. و لولا مخافة التطویل لذکرنا ما یفیدک الإطمینان و الیقین، إلّا أنّ الرسالة غیر موضوعة لتحقیق تلک المباحث. 


کتابمصباح الهدایة الی الخلافة والولایةصفحه 60
و لا تتوهّمن أنّ ذلک ینافی خلاص الصور الملکیّة و الحقائق الملکوتیّة إلی عالم النور. فإنّ ذلک أیضاً ثابت عندنا بلاتناقض  فی المقال. تدبّر تجد. 

‏ ‏

هذا بحسب القوس النزولی. و بهذا البیان یمکن إقامة البرهان علی ترتیب الوجود و تنسیقها بحسب القوس الصعودی أیضاً. فإنّ مبدأ حصول الصور و الترقی و التوجّه من  الکثرة إلی الوحدة و من النزول إلی الصعود، هو الهیولی الأولی الّتی لا تتصوّر بصورة ذاتاً و لا تتعیّن بتعیّن جوهراً؛ فتعینّت بالتعیّنات سابقاً فسابقاً؛  فتصوّرت أولاً بالصورة الجسمیّة المطلقة ؛ ثمّ العنصریّة؛ ثمّ المعدنیّة، إلی أن ینخرط فی سلک الروحانییّن و یتّصل الآخر بالأوّل و یرجع الأمر من حیث بدأ: «کما بَدَأکُم تَعُودُونَ. »[3]

 

کتابمصباح الهدایة الی الخلافة والولایةصفحه 61

  • قال الشیخ فی الفصل الأوّل من الفنّ السادس من «الطبیعیّات»: و اسم «النفس» یقع علیها لا من حیث جوهرها، بل من حیث هی مدبّرة للأبدان و مقیسة إلیها. فلذلک یؤخذ البدن فی حدّها، کما یؤخذ مثلاً البناء فی حدّ البانی؛ و إن کان لا یؤخذ فی حدّه من حیث هو إنسان. و لذلک صارالنظر فی النفس من العلم الطبیعی؛ لأنّ النظر فی النفس من حیث هی نفس نظر فیها من حیث لها علاقة بالمادّة و الحرکة. إنتهی. منه دامت فیوضاته.
  • ـ محمدبن ابراهیم الشیرازی (979 ـ 1050 ه‍.( لقب ب‍»صدرالدین» و «صدرالمتألهین» و اشتهر بـ«المولی صدرا» من کبار حکماء الاسلام فی القرن الحادی عشر. أسس مدرسته المعروفة ب‍»الحکمة المتعالیة» و احدث آرائه البدیعة فی الفلسفة، و التی فاقت الفلسفات الأخری و شغلت الحکماء من بعده بالبحث و التدریب فیها. من اساتذته الاجلاء: المحقق الداماد و المیر فندرسکی و بهاءالدین العاملی. و اشتهر من تلامذته الکثیرین: الفیض الکاشانی و عبدالرزاق اللاهیجی، الملقب ب‍»فیاض». اعظم آثاره و اهمها: الاسفار الاربعة. ضمنها جل آرائه الفلسفیة و توسع فی بیانها و تفصیلها. و من سائر کتبه: تفسیرالقرآن الکریم، شرح اصول الکافی، المبدأ و المعاد، مفاتیح الغیب، الشواهد الربوبیة،  اسرارالآیات، و حاشیة علی کتاب الشفاء لابن سینا.
  • ـ الاسفار الاربعة، ج 8، ص 12، «السفر الرابع»، الباب الاول.
  • ـ (الأعراف / 29).