ا‏لدلیل ا‏لأوّل‏: ا‏لآیات

الدلیل الأوّل : الآیات

‏ ‏

منها‏ : قولـه تعالی : ‏‏«‏وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبِینَ حَتّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‎[1]‎‏ .‏

‏وقد اُورد علی التمسّک بـه ‏تارة‏ : بأنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذیب سابقاً‏‎ ‎‏بعد البعث ، فیختصّ بالعذاب الدنیوی الواقع فی الاُمم السابقـة‏‎[2]‎‏ .‏

واُخری‏ : بأنّ نفی فعلیـة التعذیب أعمّ من نفی الاستحقاق‏‎[3]‎‏ .‏

وثالثـة‏ : بأنّ مفادها أجنبی عن البراءة ، فإنّ مفادها الإخبار بنفی التعذیب‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 495
‏قبل إتمام الحجّـة ، کما هو حال الاُمم السابقـة ، فلا دلالـة لها علی حکم مشتبـه‏‎ ‎‏الحکم ؛ من حیث إنّـه مشتبـه ، فهی أجنبیـة عمّا نحن فیـه‏‎[4]‎‏ .‏

‏وأنت خبیر بعدم تمامیـة شیء من هذه الإیرادات .‏

أمّا الأوّل‏ : فلأنّ الآیـة إنّما وقعت فی ذیل الآیات الواردة فی القیامـة ، ولا‏‎ ‎‏اختصاص لها ، بل لا ارتباط لها بنفی العذاب الدنیوی بالنسبـة إلی الاُمم‏‎ ‎‏السالفـة . وحینئذٍ فیکون المراد بالتعذیب المنفی هو العذاب الاُخروی ، کما أنّ‏‎ ‎‏المراد ببعث الرسول لیس مجرّد بعثـه ، ولو لم یکن مأموراً بالتبلیغ ، کما یدلّ علی‏‎ ‎‏ذلک ـ مضافاً إلی أنّـه هو المتفاهم منـه ـ ذکر الرسول ، لا النبیّ ، بل المراد بـه أنّ‏‎ ‎‏البعث لأجل التبلیغ وإتمام الحجّـة إنّما یکون غایـة لعدم التعذیب .‏

‏ومن هنا یظهر : أنّـه لو بلغ بعض الأحکام دون بعض ، أو بلّغها إلی أهل بلد‏‎ ‎‏خاصّ دون سائر البلدان ، أو بلّغها إلی جمیع البلدان فی عصره ، ثمّ لم یبلغ إلی‏‎ ‎‏الأعصار المتأخّرة ؛ لأجل الموانع والحوادث یفهم من الآیـة عدم التعذیب‏‎ ‎‏بالنسبـة إلی التکلیف الذی لم یبلّغـه أصلاً ، أو الشخص الذی لم یصل إلیـه ،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فالآیـة ظاهرة ، بل صریحـة فی نفی العذاب بالنسبـة إلی ما لم یصل إلی‏‎ ‎‏المکلّف .‏

‏هذا ، ولو سلّم ظهورها فی الإخبار بوقوع التعذیب سابقاً بعد البعث ،‏‎ ‎‏واختصاصها بالعذاب الدنیوی الواقع فی الاُمم السابقـة فنقول : یستفاد منـه البراءة‏‎ ‎‏فی المقام حینئذٍ بطریق أولی ؛ إذ لو کان التعذیب الدنیوی مع کونـه یسیراً محدوداً‏‎ ‎‏بمکان لایصدر منـه تعالی إلاّ بعد بعث الرسول وإتمام الحجّـة فالعذاب الاُخروی‏‎ ‎‏الذی لایمکن قیاسـه مع العذاب الدنیوی ، لا من حیث الکمّ ، ولا من حیث الکیف‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 496
‏لایصدر منـه تعالی إلاّ بعد ذلک بطریق أولی ، کما لایخفی .‏

وأمّا الثانی‏ : فلأنّـه لیس المقصود فی المقام إثبات نفی الاستحقاق ، بل‏‎ ‎‏یکفینا مجرّد ثبوت المؤمّن عن العذاب ، وإن کان أصل الاستحقاق ثابتاً .‏

وأمّا الثالث‏ ‏‏فیظهر الجواب عنـه ممّا ذکرناه فی الجواب عن الإیراد‏‎ ‎‏الأوّل .‏

‏هذا ، ویبقی فی الآیـة أنّـه لو ثبت بدلیل وجوب الاحتیاط لایکون التعذیب‏‎ ‎‏حینئذٍ تعذیباً قبل بعث الرسول ، حتّی لایناسب مقامـه ـ جلّ شأنـه ـ کما لایخفی .‏

ومنها‏ : قولـه تعالی : ‏‏«‏لاٰ یُکَلِّفُ اللّٰـهُ نَفْساً إِلاّ مٰا آتٰاهٰا‏»‏‎[5]‎‏ .‏

‏ویقع الکلام فیـه فی مقامین : أحدهما فی إمکان دلالتـه علی المقام ، ثانیهما‏‎ ‎‏فیما هو ظاهره .‏

أمّا المقام الأوّل‏ : فلا إشکال فی أنّـه لو کان المراد من التکلیف هو التکلیف‏‎ ‎‏الفعلی ، ومن الموصول هو التکلیف الفعلی أیضاً أو أعمّ منـه ومن المال وغیره‏‎ ‎‏یلزم المحال ؛ لأنّـه یصیر معناه حینئذٍ : أنّ التکلیف الفعلی لایتحقّق إلاّ بعد إیصال‏‎ ‎‏التکلیف الفعلی ، فیکون اتصافـه بالفعلیـة مشروطاً بإیصالـه متصفاً بها ، وهذا دور‏‎ ‎‏صریح .‏

‏وکذا یلزم ذلک لو کان المراد من کلیهما هو التکلیف الشأنی ، وأمّا لو کان‏‎ ‎‏المراد بالأوّل هو التکلیف الفعلی وبالموصول هو التکلیف الشأنی فلایلزم المحال‏‎ ‎‏بوجـه ، کما أنّـه لو کان المراد من قولـه : ‏‏«‏لاٰ یُکَلِّفُ اللّٰـهُ‏»‏‏ هو عدم إیقاعـه‏‎ ‎‏تعالی نفساً فی الکلفة والمشقّة ، لا التکلیف المصطلح فلا مانع من أن یکون المراد‏‎ ‎‏بالموصول هو التکلیف الفعلی . وحینئذٍ یصیر معنی الآیـة : أنّـه تعالی لایوقع نفساً‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 497
‏فی المشقّـة إلاّ من قبل التکالیف الواقعیـة الفعلیـة التی بلّغها إلی المکلّف .‏

‏وحینئذٍ فیدلّ علی نفی وجوب الاحتیاط أیضاً ؛ لأنّـه لو فرض وجوب‏‎ ‎‏الاحتیاط یلزم إیقاع المکلّف فی الکلفـة من قبل التکالیف المجهولـة التی لم‏‎ ‎‏تصل إلی المکلّف ؛ ضرورة أنّ إیجاب الاحتیاط لیس إلاّ لرعایـة حفظ الواقع ،‏‎ ‎‏ولایکون وجوبـه إلاّ طریقیاً ، فلایقال بأنّ الآیـة لاتنافی وجوب الاحتیاط ؛ لأنّـه‏‎ ‎‏تکلیف واصل إلی المکلّفین ، فلا مانع من وقوع المکلّف فی المشقّـة من ناحیتـه ،‏‎ ‎‏فتدبّر .‏

‏ثمّ إنّـه لو اُرید بالموصول فی الآیـة أعمّ من التکلیف فالظاهر أنّـه ممّا‏‎ ‎‏لایمکن ؛ لأنّـه لایعقل أن یتعلّق التکلیف بالتکلیف إلاّ علی وجـه تعلّق الفعل‏‎ ‎‏بالمفعول المطلق ، کما أنّ تعلّقـه بالمال أو بمطلق الشیء إنّما یکون علی وجـه‏‎ ‎‏تعلّقـه بالمفعول بـه ، وهذان الوجهان ممّا لایمکن فرض الجامع القریب بینهما ؛‏‎ ‎‏لأنّ المفعول بـه لابدّ وأن یکون مفروض التحقّق قبل ورود الفعل علیـه ، والمفعول‏‎ ‎‏المطلق إنّما هو من شؤون الفعل وأنواعـه ، ولا جامع بین ما یقع علیـه الفعل وبین‏‎ ‎‏ما هو مأخوذ من نفس الفعل . وإن شئت قلت فی المقام بعدم الجامع بین التکلیف‏‎ ‎‏والمکلّف بـه .‏

هذا ، واُجیب عن ذلک بوجوه :

منها‏ : ما أفاده المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات من أنّ إرادة العموم من‏‎ ‎‏الموصول لایستلزم أن یکون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول بـه والمفعول‏‎ ‎‏المطلق ، بل یراد منـه خصوص المفعول بـه .‏

‏وتوهّم أنّ المفعول بـه لابدّ وأن یکون لـه نحو وجود وتحقّق فی وعائـه‏‎ ‎‏قبل ورود الفعل علیـه ممنوع بأنّ المفعول المطلق النوعی والعددی یصحّ جعلـه‏‎ ‎‏مفعولاً بـه بنحو من العنایـة ، مثلاً الوجوب وإن کان وجوده بنفس الإیجاب‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 498
‏والإنشاء إلاّ أنّـه باعتبار ما لـه من المعنی الاسم المصدری یصحّ تعلّق التکلیف‏‎ ‎‏بـه . نعم ، الوجوب بالمعنی المصدری لایصحّ تعلّق التکلیف بـه‏‎[6]‎‏ .‏

‏هذا ، ولایخفی ما فیـه ، فإنّ المعنی الاسم المصدری هو ما یحصل من‏‎ ‎‏المصدر ، ویتحقّق منـه ، فیکون فی الرتبـة المتأخّرة عن نفس المصدر ، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فکیف یعقل فرض وجود لـه قبیل المصدر ، ثمّ إیقاعـه علیـه ، کما هو واضح .‏

ومنها‏ : ما أفاده المحقّق العراقی من أنّ هذا الإیراد إنّما یرد فی فرض إرادة‏‎ ‎‏الخصوصیات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناءً علی استعمال الموصول‏‎ ‎‏فی معناه الکلّی العامّ ، وإرادة الخصوصیات من دوالّ اُخر خارجیـة فلایتوجّـه‏‎ ‎‏محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا فی لفظ الإیتاء ، ولا فی تعلّق الفعل‏‎ ‎‏بالموصول ؛ لأنّـه لم تستعمل الموصول والإیتاء إلاّ فی المعنی الکلّی ، وإفادة‏‎ ‎‏الخصوصیات إنّما هی بدوالّ اُخر . وکذلک تعلّق الفعل بالموصول لیس إلاّ نحو‏‎ ‎‏تعلّق واحد . ومجرّد تعدّده بالتحلیل لایقتضی تعدّده بالنسبـة إلی الجامع‏‎[7]‎‏ ، انتهی‏‎ ‎‏ملخّصاً .‏

‏وأنت خبیر بأنّـه بعد فرض عدم وجود الجامع القریب بین خصوصیات‏‎ ‎‏الموصول کیف یمکن أن یقال بأنّها مستعملـة فی المعنی العام .‏

‏نعم ، الإیتاء مستعمل فی معناه ، وهو الإعطاء ، وهو أمر کلّی جامع بین‏‎ ‎‏الإعطاء والإقدار والإعلام ، وبعد عدم وجود الجامع لایکون النسبـة أیضاً متعلّقـة‏‎ ‎‏بـه ، حتّی یقال بأنّ تعدّدها إنّما هو بالتحلیل .‏

أمّا المقام الثانی‏ : ـ بحسب مقام الإثبات والاستظهار ـ فدعوی ظهور‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 499
‏الآیـة فیـه ممنوعـة ، والذی یدفع الإشکال : أنّ ظاهر الآیـة ـ بقرینـة ما قبلها وما‏‎ ‎‏بعدها ـ ینافی الحمل علی التکلیف ، وکونها بمنزلـة کبری کلّیـة لایوجب شمولها‏‎ ‎‏للتکلیف ، بل الظاهر أنّ مفادها هو مفاد قولـه تعالی : ‏‏«‏لاٰ یُکَلِّفُ اللّٰـهُ نَفْساً إِلاّ‎ ‎وُسْعَهٰا‏»‏‎[8]‎‏ ، فلامجال للاستدلال بها علی المقام ، کما لایخفی .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 500

  • )) الإسراء (17) : 15 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 317 .
  • )) الفصول الغرویّـة : 353 / السطر 7 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 333 .
  • )) الطلاق (65) : 7 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 331 ـ 333 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 202 .
  • )) البقرة (2) : 286 .