تمهید : تقسیم أحوال ا‏لمکلّف وذکر مجاری ا‏لاُصول

تمهید

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

تمهید تقسیم أحوال المکلّف وذکر مجاری الاُصول

‏ ‏

‏اعلم : أنّـه قد جرت عادتهم فی أوّل مبحث القطع بتقسیم حالات المکلّف ؛‏‎ ‎‏من حیث إنّـه قد یحصل لـه القطع بالحکم ، وقد یحصل لـه الظنّ بـه ، وقد یحصل‏‎ ‎‏لـه الشکّ فیـه ، ثمّ ذکر مجاری الاُصول ، ولکن لایخلو شیء من التقسیمات وکذا‏‎ ‎‏بیان مجاری الاُصول من المناقشـة والإشکال ، ویظهر ذلک بملاحظـة ما‏‎ ‎‏سنحقّقـه .‏

فنقول‏ : المکلّف إمّا أن یحصل لـه القطع بالحکم الواقعی الفعلی تفصیلاً أو‏‎ ‎‏إجمالاً ، وإمّا أن لایحصل لـه ذلک ، وعلی الثانی : إمّا أن یکون قاطعاً بقیام الأمارة‏‎ ‎‏المعتبرة علی الحکم الواقعی تفصیلاً أو إجمالاً أو لایکون کذلک ، وعلی الثانی : إمّا‏‎ ‎‏أن یقوم الحجّـة المعتبرة بالنسبـة إلی الواقع وإمّا أن لایقوم ، بل یکون شاکّاً فی‏‎ ‎‏الواقع أو ظانّاً بـه من غیر قیام أمارة معتبرة ولا حجّـة شرعیـة .‏

فالأوّل‏ ‏: هو مبحث القطع‏ ، وقد عرفت أنّـه لا فرق فیـه بین القطع التفصیلی‏‎ ‎‏والإجمالی أصلاً ، فإنّـه کما یکون القطع التفصیلی بالحکم الواقعی الفعلی حجّـة‏‎ ‎‏وموجباً لتنجّزه ، من غیر افتقار إلی جعل الحجّیـة لـه ، وکذا لایجوز جعل حکم‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 489
‏علی خلافـه ، کذلک القطع الإجمالی بالحکم الفعلی یکون حجّـة موجباً لتنجّزه ،‏‎ ‎‏ولایعقل الترخیص بخلافـه ، فإنّـه لو علم إجمالاً بأنّ قتل النبی المردّد بین جمع‏‎ ‎‏کثیر مهدور الدم یکون محرّماً بالحرمـة الفعلیـة التی لایرضی المولی بـه أصلاً‏‎ ‎‏لایجوز لـه ارتکاب قتل واحد من تلک الجماعـة ، وکذا لایجوز الترخیص من‏‎ ‎‏المولی ، فإنّـه لایجتمع مع الحرمـة الفعلیـة ، کما هو واضح .‏

‏وبالجملـة : فلا فرق فی أحکام القطع بین القطع التفصیلی والإجمالی‏‎ ‎‏قطعاً ، فلابدّ من إدخالـه فیـه .‏

والثانی‏ ‏: هو مبحث الظنّ‏ ، وقد عرفت أنّـه لافرق فیـه أیضاً بین أن یعلم‏‎ ‎‏تفصیلاً بقیام الأمارة المعتبرة ، وبین أن یعلم إجمالاً بقیامها . والقسم الثانی هو‏‎ ‎‏مبحث الاشتغال المعروف بینهم ، الذی یذکرونـه عقیب مبحث البراءة ، فإنّ الظاهر‏‎ ‎‏أنّ المراد منـه هو العلم الإجمالی بقیام الأمارة علی التکلیف من إطلاق دلیل أو‏‎ ‎‏غیره ؛ لما عرفت من أنّـه لا مجال لتوهّم الإشکال فی حجّیـة العلم الإجمالی‏‎ ‎‏المتعلّق بالتکلیف الفعلی ، وکونـه منجّزاً ؛ بحیث لایجوز الترخیص بخلافـه .‏‎ ‎‏وحینئذٍ فیکون مبحث الاشتغال من مباحث الظنّ .‏

والثالث‏ ‏: هو مبحث الاستصحاب‏ ؛ لأنّـه حجّـة علی الواقع ، وإن لم یکن‏‎ ‎‏أمارة علیـه .‏

والرابع‏ ‏: هو مبحث البراءة‏ ‏، ‏ومن هنا ظهر : أنّ الوضع الطبیعی یقتضی تأخیر‏‎ ‎‏مبحث البراءة عن جمیع المباحث ، وکذا إدراج البحث عن الاشتغال فی مباحث‏‎ ‎‏الظنّ . نعم ، للاشتغال حظّ من مبحث الاستصحاب ، وهو ما لو کان المستصحب‏‎ ‎‏المعلوم مردّداً بین شیئین أو أشیاء ، کما لایخفی .‏

إذا عرفت ذلک فاعلم‏ : أنّـه لا إشکال فی تقدّم القطع بقسمیـه علی غیره من‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 490
‏الأمارات والاُصول ، ولا مجال لها معـه ؛ أمّا القطع التفصیلی فتقدّمـه علیها‏‎ ‎‏واضح ؛ لأنّها اُمور تعبّدیـة مجعولـة للشاکّ الذی لایعلم بالواقع ، وأمّا القطع‏‎ ‎‏الإجمالی فلما عرفت من أنّـه حجّـة عقلیـة موجباً لتنجّز التکلیف ؛ بحیث لایعقل‏‎ ‎‏الترخیص فی ترکـه ، فلا مجال معـه من التعبّد الذی مورده صورة الشکّ وعدم‏‎ ‎‏العلم .‏

وأمّا تقدّم الأمارات علی الاُصول فنقول‏ : أمّا تقدّمها علی الاستصحاب‏‎ ‎‏فربّما یشکل وجهـه لو کان المراد بالیقین الذی ورد فی أخبار لا تنقض هو الیقین‏‎ ‎‏القطعی الوجدانی الذی لایحتمل معـه الخلاف ؛ لأنّ مفاد هذه الأخبار حینئذٍ أنّ‏‎ ‎‏نقض الیقین بالشکّ حرام إلی أن یحصل الیقین الوجدانی ، بخلاف الیقین الأوّل .‏

ومن المعلوم‏ : أنّ الأمارات التی جلّها ، بل کلّها حجج عقلیـة ثابتـة ببناء‏‎ ‎‏العقلاء ـ کما عرفت ـ لاتکون مفیدة للیقین ، ولم یکن عملهم علی طبقها من باب‏‎ ‎‏أنّـه یقین ؛ ضرورة أنّ الطریق عندهم لایکون منحصراً بالقطع ، ولیس ذلک من‏‎ ‎‏جهـة تنزیل سائر الطرق منزلـة الطریقـة العلمیـة أصلاً ، کما یظهر ذلک‏‎ ‎‏بمراجعتهم .‏

‏وحینئذٍ فیقع التعارض بحسب الظاهر بین دلیل اعتبار الأمارة وبین أخبار‏‎ ‎‏لاتنقض ؛ لأنّ مفاده التعبّد بثبوت الطهارة مثلاً لو شهدت البیّنـة بها ، ومفادها‏‎ ‎‏حرمـة نقض الیقین بالنجاسـة ما دام لم یحصل یقین وجدانی بالطهارة . وحینئذٍ‏‎ ‎‏فیشکل وجـه تقدّم الأمارات علی الاستصحاب .‏

‏هذا ، ویحتمل قویّاً أن یکون المراد بالیقین فی أخبار الاستصحاب هی‏‎ ‎‏الحجّـة والدلیل ، فمعناها حینئذٍ حرمـة نقض الحجّـة بمجرّد الشکّ ، بل الواجب‏‎ ‎‏نقضها بحجّـة اُخری ، ولایجوز رفع الید عن الحجّـة بلا حجّـة ، وحینئذٍ فالوجـه‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 491
‏فی تقدّم الأمارات علیـه واضح ؛ لأنّ الأمارات حجّـة شرعیـة ـ تأسیساً أو إمضاءً‏‎ ‎‏ـ فیجوز رفع الید بها عن الیقین السابق ؛ لأنّ مقتضی أخبار الاستصحاب هو‏‎ ‎‏حرمـة نقض الحجّـة ما لم تحصل حجّـة علی خلافها ، وأدلّـة اعتبار الأمارات‏‎ ‎‏تثبت الحجّـة المعتبرة ، فتکون واردة علیها .‏

هذا‏ ‏، ویشهد لما ذکرنا‏ : من أنّ الیقین لیس المراد بـه الیقین الوجدانی ، بل‏‎ ‎‏الحجّـة والدلیل ملاحظـة نفس أخبار الاستصحاب ، والتأمّل فیها ، فإنّـه قد حکم‏‎ ‎‏الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ فی صحیحـة زرارة الاُولی ، الواردة فی الوضوء‏‎[1]‎‏ بحرمـة نقض الیقین‏‎ ‎‏بالطهارة بالشکّ فیها ، مع أنّ الیقین الوجدانی بالطهارة لایتفق إلاّ نادراً ؛ لأنّ العلم‏‎ ‎‏الجزمی بکون الوضوء الصادر من الإنسان قد صدر جامعاً لجمیع ما اعتبر فیـه فی‏‎ ‎‏غایـة القلّـة ، بل لولا قاعدة الفراغ لأشکل الأمر بسبب ذلک ، ومع ذلک قد حکم‏‎ ‎‏الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ بجریان استصحاب الطهارة ، ولیس ذلک إلاّ لکون المراد من الیقین‏‎ ‎‏لیس ما اصطلح علیـه العلماء ، وهو ما یقابل الظنّ والشکّ والوهم ، کما هو واضح .‏

‏ونظیر ذلک ما وقع فی صحیحتـه الثانیـة‏‎[2]‎‏ من حکم الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ بجریان‏‎ ‎‏الاستصحاب فیما لو ظنّ إصابـة الدم أو المنی الثوب ، مع عدم الیقین بذلک ؛ معلّلاً‏‎ ‎‏بـ ‏«أنّک کنت علی یقین من طهارتک»‏ ، مع أنّ الیقین الوجدانی والعلم الجزمی‏‎ ‎‏بطهارة الثوب ممّا لایتفق إلاّ نادراً .‏

‏وکذلک صحیحتـه الثالثـة الواردة فی عدّة أحکام الشکوک : منها‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 492
‏قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«وإذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع وقد أحرز الثلاث قام‏ ‏، فأضاف‎ ‎إلیها اُخری‏ ‏، ولاشیء علیـه‏ ‏، ولاینقض الیقین بالشکّ»‎[3]‎‏ ، فإنّ التعبیر بقولـه :‏‎ ‎‏«وقد أحرز الثلاث» دلیل علی أنّ المراد بالیقین لیس إلاّ الإحراز ، فتأمّل . وکیف‏‎ ‎‏کان فالظاهر ـ خصوصاً بملاحظـة ما ذکرنا ، وکذا سائر الموارد التی یستفاد منها‏‎ ‎‏هذا المعنی ـ أنّ المراد بالیقین فی أخبار لا تنقض لیس إلاّ الحجّـة ، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فتکون أدلّـة الأمارات واردة علیها ، کما لایخفی .‏

‏هذا ، ومن هنا یظهر وجـه تقدّم الأمارات علی أصالـة البراءة التی مدرکها‏‎ ‎‏إمّا مثل حدیث الرفع ، وإمّا حکم العقل . فعلی الأوّل فالظاهر أنّ المراد بـ «ما‏‎ ‎‏لایعلمون» الوارد فیـه لیس إلاّ ما یعمّ الحجّـة علیـه ، ومن الواضح أنّ أدلّـة‏‎ ‎‏الأمارات یثبت حجّیتها ، کما أنّ مدرکـه لو کان قاعدة قبح العقاب بلابیان تکون‏‎ ‎‏الأمارات متقدّمـة علیـه أیضاً ؛ لأنّها بیان قام الدلیل علی اعتبارها .‏

وأمّا تقدّم الاستصحاب علی أصل البراءة‏ ‏؛ ‏فإن کان مدرکها حکم العقل بقبح‏‎ ‎‏العقاب ، من دون بیان فواضح ؛ لأنّ أدلّـة الاستصحاب الدالّـة علی حرمـة نقض‏‎ ‎‏الیقین بغیر الیقین بیان وحجّـة للمولی علی العبد ، کما هو واضح .‏

‏وأمّا لو کان مدرکها هو مثل حدیث الرفع فلأنّ مفاد أدلّـة الاستصحاب‏‎ ‎‏تنزیل الشکّ المسبوق بالیقین بمنزلـة الیقین ؛ لکونـه أمراً مستحکماً مبرماً لاینبغی‏‎ ‎‏أن ینقض بالشکّ الذی لایکون کذلک علی ما هو التحقیق من أنّ المراد بالیقین‏‎ ‎‏لیس المتیقّن ، فإنّـه لایناسب النقض بالشکّ ، کما لایخفی . وحینئذٍ فتکون أدلّـة‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 493
‏الاستصحاب حاکمـة علی مثل حدیث الرفع‏‎[4]‎‏ ؛ لأنّ مدلولـه رفع ما لایعلم ، وهی‏‎ ‎‏تدلّ علی تنزیل الشکّ منزلـة العلم ، وتحکم بکونـه علماً فی عالم التشریع .‏

وإن شئت قلت‏ : إنّ المراد بـ «ما لایعلمون» ـ کما عرفت ـ هو ما لم یقم‏‎ ‎‏الحجّـة علیـه ، ولاشبهـة فی أنّ أدلّـة الاستصحاب حجّـة ودلیل ، فتکون متقدّمـة‏‎ ‎‏علیـه ، کما هو واضح ، ولعلّـه سیجیء التکلّم فی هذا المقام فی مبحث‏‎ ‎‏الاستصحاب .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 494

  • )) تهذیب ا لأحکام 1 : 8 / 11 ، وسائل ا لشیعـة 1 : 245 ، کتاب ا لطهارة ، أبواب نواقض ا لوضوء ، ا لباب 1 ، ا لحدیث 1 .
  • )) تهذیب ا لأحکام 1 : 421 / 1335 ، وسائل ا لشیعـة 3 : 477 ، کتاب ا لطهارة ، أبواب ا لنجاسات ، ا لباب 41 ، ا لحدیث 1 .
  • )) ا لکافی 3 : 351 / 3 ، وسائل ا لشیعـة 8 : 220 ، کتاب ا لصلاة ، أبواب ا لخلل فی ا لصلاة ، ا لباب 11 ، ا لحدیث 3 .
  • )) ا لتوحید : 353 / 24 ، وسائل ا لشیعـة 15 : 369 ، کتاب ا لجهاد ، أبواب جهاد ا لنفس ، ا لباب 56 ، ا لحدیث 1 .