أدلّـة عدم حجّیـة خبر الواحد
وقد حکی عن السیّد والقاضی وابن زهرة والطبرسی وابن إدریس عدم حجّیـة خبر الواحد ، واستدلّ لهم بالآیات الناهیـة عن اتباع غیر العلم . والتحقیق فی الجواب عن هذا الاستدلال : أنّ الآیات الناهیـة بعضها ظاهر فی الاُصول الاعتقادیـة ، مثل قولـه تعالی : «إنَّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً» ،
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 460
وبعضها أعمّ منها ، مثل قولـه تعالی : «وَلاٰ تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» .
أمّا الطائفـة الاُولی فغیر مرتبطـة بالمقام ، وأمّا الطائفـة الثانیـة فمضافاً إلی عدم إبائها عن التخصیص بالأدلّـة الآتیـة الدالّـة علی اعتبار الخبر یرد علیـه أنّ الاستدلال بها مستلزم لعدم جوازالاستدلال بـه ، ومایلزم من وجوده العدم لایجوزالاستدلال بـه .
توضیحـه : أنّ قولـه : «وَلاٰ تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» ، قضیـة حقیقیـة تشمل کلّ ما وجد فی الخارج ، وکان مصداقاً لغیر العلم ، فیشمل دلالـة نفسها ؛ لأنّها لیست إلاّ ظنّیـة ؛ لکونها ظاهرة فی الدلالـة علی المنع ، والظواهر کلّها ظنّیـة . وبالجملـة : إذا لم یجز اتباع غیر العلم بمقتضی الآیـة لم یجز اتباع ظاهرها ؛ لکونـه غیر علمی ، والفرض شمولها لنفسها ؛ لکونها قضیـة حقیقیـة .
إن قلت : لزوم هذا المحذور من شمول الآیـة لنفسها دلیل علی التخصیص وعدم الشمول .
قلت : کما یرتفع المحذور بذلک کذلک یرتفع بالالتزام بعدم شمولها لمثل الظواهر ممّا قام الدلیل علی حجّیتـه ، فتختصّ الآیـة بالظنون التی هی غیر حجّـة ، ولا ترجیح للأوّل ، لو لم نقل بترجیح الثانی باعتبار أنّ الغرض منها هو الردع عن اتباع غیر العلم ، ولا تصلح للرادعیـة إلاّ بعد کونها مفروضـة الحجّیـة عند المخاطبین ، ولا تکون حجّـة إلاّ بعد ثبوت کون الظواهر حجّـة ومورداً لبناء العقلاء .
فالآیـة لا تشمل ما کان من قبیلها من الظنون ، ومرجع ذلک إلی أنّ تلک الظنون لایکون بنظر العقلاء مصداقاً لما لیس لهم بـه علم ، وإلاّ لکان اللازم عند
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 461
نزول الآیـة الشریفـة أن یرفع الناس أیدیهم عن اشتغالاتهم المبتنیـة بحسب الغالب علی الاُمور الظنّیـة ، کالید وأصالـة الصحّـة وغیرهما ، مع وضوح خلافـه ، ولیس ذلک إلاّ لعدم کون هذه الظنون داخلـة عندهم فی الآیـة . وخبر الواحد أیضاً من هذا القبیل ، کما هو واضح .
وقد أفاد بعض الأعاظم ـ علی ما فی تقریرات بحثـه ـ فی مقام الجواب عن الاستدلال بالآیـة ما ملخّصـه : أنّ نسبـة الأدلّـة الدالّـة علی جواز العمل بخبر الواحد إلی الآیات لیست نسبـة التخصیص ، حتّی یقال بأنّها آبیـة عنـه ، بل نسبـة الحکومـة ، فإنّ تلک الأدلّـة تقتضی إلغاء احتمال الخلاف ، وجعل الخبر محرزاً للواقع ، فیکون حالـه حال العلم فی عالم التشریع ، فلا تشملـه الأدلّـة الناهیـة عن العمل بالظنّ ، هذا فی غیر السیرة العقلائیـة .
وأمّا فیها فیمکن بوجـه أن تکون نسبتها إلی الآیات نسبـة الورود ، بل التخصّص ؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقـة لیس من العمل بالظنّ ؛ لعدم التفاتهم إلی احتمال مخالفـة الخبر للواقع ، فالعمل بخبر الثقـة خارج بالتخصّص عن العمل بالظنّ . هذا ، مضافاً إلی عدم صلاحیتها للرادعیـة عن السیرة العقلائیـة ؛ للزوم الدور المحال ؛ لأنّ الردع عن السیرة بها یتوقّف علی أن لا تکون السیرة مخصّصـة لعمومها ، وعدم کونها مخصّصـة لعمومها یتوقّف علی أن تکون رادعـة منها ، انتهی .
ویرد علیـه : أنّ ما ذکره من إباء الآیات عن التخصیص لایتمّ فی مثل قولـه : «وَلاٰ تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» ؛ لعدم اختصاصها بالاُصول الاعتقادیـة .
وأمّا مسألـة الحکومـة فلا أساس لها ؛ لأنّ الأخبار الدالّـة علی جواز العمل
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 462
بقول الثقـة لم یکن لسانها لسان الحکومـة ؛ بحیث کان مفادها هو إلغاء احتمال الخلاف . وقولـه علیه السلام فی بعض الأخبار : «العمری ثقـة فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی ، وما قال لک عنّی فعنّی یقول» لایدلّ علی الحکومـة ؛ لأنّـه لیس مفادها إلاّ العمل بقولـه ؛ لوثاقتـه ، لا وجوب إلغاء احتمال الخلاف .
وأمّا ورود السیرة العقلائیـة علی الآیات فممنوعـة ؛ لعدم کون العمل بالخبر عندهم من العمل بالعلم ، ولو سلّم غفلتهم عن احتمال الخلاف فلایوجب ذلک أیضاً تحقّق الورود أو التخصیص ، فإنّ موردهما هو الخروج عن الموضوع واقعاً ، لا عند المخاطب . والفرق بینهما : أنّ الأوّل إنّما هو مع إعمال التعبّد ، بخلاف الثانی .
وأمّا ما أفاد أخیراً من لزوم الدور ففیـه ـ مضافاً إلی جریان الدور فی المخصّصیـة أیضاً ، کما لایخفی ـ أنّ توقّف الرادعیـة إنّما هو علی عدم مخصّص حاصل ؛ إذ لا مخصّص فی البین جزماً ؛ لأنّ النواهی الرادعـة حجّـة فی العموم ، ولابدّ من رفع الید عنها بحجّـة أقوی ، ولا حجّیـة للسیرة بلا إمضاء الشارع ، فالرادع رادع فعلاً ، والسیرة حجّـة لو أمضاها الشارع ، وهو منتف مع هذه المناهی . وبالجملـة : فعدم کون السیرة مخصّصـة للآیات الناهیـة وإن کان متوقّفاً علی کونها رادعـة عنها إلاّ أنّ رادعیتها لا تتوقّف علی شیء .
هذا ، ویمکن تقریب الورود بالنسبـة إلی أدلّـة حجّیـة الخبر الواحد بأن یقال : إنّ العلم الذی نهی عن اتباعـه لایکون المقصود بـه هو العلم المقابل للظنّ ، بل المراد بـه هو الحجّـة ، ولو کانت ظنّیـة . فمفاد الآیـة إنّما هو النهی عن اتباع
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 463
غیر الحجّـة ، وأدلّـة حجّیـة خبر الواحد إنّما تکون مثبتـة لحجّیتـه ، فتکون واردة علیها .
کما أنّـه یمکن أن یقال ـ بعد إبقاء العلم علی معناه الظاهر المرادف للیقین ـ : إنّ العمل بخبر الواحد لیس عملاً بغیر العلم واتباعاً لـه ؛ لأنّـه وإن کان کشفـه عن الواقع کشفاً ظنّیاً ، ولایحصل العلم منـه إلاّ أنّـه بعد قیام الدلیل القطعی من السیرة أو غیرها علی حجّیتـه یکون العمل فی الحقیقـة عملاً بالعلم ، کما هو واضح .
فانقدح ممّا ذکرنا : أنّ الاستدلال فی المقام بالآیات الناهیـة استدلال فی غیر محلّـه ، کما عرفت .
وقد یستدلّ لهم أیضاً بالروایات الدالّـة علی ردّ ما لم یکن علیـه شاهد من کتاب اللّٰـه أو شاهدان أو لم یکن موافقاً للقرآن أو لم یعلم أنّـه قولهم علیهم السلام إلیهم ، أو علی بطلان ما لایصدقـه کتاب اللّٰـه ، أو علی أنّ ما لایوافق کتاب اللّٰـه زخرف ، أو مثل ذلک من التعبیرات . ولکن لایخفی أنّها أخبار آحاد ، لا مجال للاستدلال بها علی عدم حجّیتها . ودعوی تواترها إجمالاً وإن لم یکن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 464
متواترة لفظاً أو معناً إنّما تجدی ـ علی تقدیر تسلیمها ـ بالنسبـة إلی القدر المتیقّن ، ومورد توافق الجمیع ، وهو بطلان الخبر المخالف ، ولابأس بالالتزام بعدم حجّیتـه ، کما هو واضح .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 465