ا‏لمقام ا‏لثانی : فی تأسیس ا‏لأصل

فی تأسیس الأصل

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

المقام الثانی فی تأسیس الأصل

‏ ‏

‏یقع الکلام فی تأسیس الأصل الذی یعوّل علیـه عند عدم الدلیل علی‏‎ ‎‏وقوع التعبّد بغیر العلم مطلقاً أو فی الجملـة . فنقول : ذکر الشیخ فی «الرسالـة» ما‏‎ ‎‏ملخّصـه : أنّ التعبّد بالظنّ الذی لم یدلّ علی التعبّد بـه دلیل محرّم بالأدلّـة‏‎ ‎‏الأربعـة .‏

‏یکفی من الکتاب قولـه تعالی : ‏‏«‏قُلْ ءآللّٰـهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلی اللّٰـهِ‎ ‎تَفْتَرُونَ‏»‏‎[1]‎‏ دلّ علی أنّ ما لیس بإذن من اللّٰـه من إسناد الحکم إلی الشارع فهو‏‎ ‎‏افتراء .‏

‏ومن السنّـة : قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ فی عداد القضاة من أهل النار : ‏«ورجل قضی‎ ‎بالحقّ‏ ‏، وهو لایعلم»‎[2]‎‏ .‏

‏ومن الإجماع : ما ادعاه الفرید البهبهانی من عدم کون الجواز بدیهیاً عند‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 434
‏العوامّ ، فضلاً عن العلماء .‏

‏ومن العقل : تقبیح العقلاء من یتکلّف من قبل مولاه بما لایعلم بوروده من‏‎ ‎‏المولی .‏

‏نعم ، فرق بین هذا وبین الاحتیاط الذی یستقلّ العقل بحسنـه ؛ لأنّـه فرق‏‎ ‎‏بین الالتزام بشیء من قبل المولی علی أنّـه منـه ، مع عدم العلم بأنّـه منـه ، وبین‏‎ ‎‏الالتزام بإتیانـه لاحتمال کونـه منـه .‏

والحاصل‏ : أنّ المحرّم هو العمل بغیر العلم متعبّداً بـه ومتدیّناً بـه . وأمّا‏‎ ‎‏العمل بـه من دون تعبّد بمقتضاه فهو حسن إن کان لرجاء إدراک الواقع ما لم‏‎ ‎‏یعارضـه احتیاط آخر ، ولم یثبت من دلیل آخر وجوب العمل علی خلافـه ، کما لو‏‎ ‎‏ظنّ الوجوب ، واقتضی الاستصحاب الحرمـة‏‎[3]‎‏ ، انتهی موضع الحاجـة .‏

أقول‏ : المراد بالإسناد إلی الشارع هو التشریع الذی کان قبحـه عقلاً‏‎ ‎‏وحرمتـه شرعاً مفروغاً عنـه عندهم ، ولکن کلّما تأمّلنا لم نعرف لـه معناً متصوّراً‏‎ ‎‏معقولاً ، إذ الالتزام الحقیقی بما یعلم عدم ورود التعبّد من الشارع ، أو لایعلم وروده‏‎ ‎‏منـه ممّا لایمکن أن یتحقّق ؛ لعدم کون الالتزامات النفسانیـة تحت اختیار‏‎ ‎‏المکلّف . نعم ، الإسناد إلی الشارع ـ الذی هو عبارة اُخری عن البدعـة ـ أمر‏‎ ‎‏ممکن معقول ، قد دلّ العقل والنقل علی خلافـه ، وأنّـه أمر قبیح محرّم .‏

وبالجملـة‏ : فالتعبّد بمقتضی الأمارة الغیر العلمیـة التی لم یرد دلیل علی‏‎ ‎‏اعتبارها إن کان معناه هو العمل بمضمونها بعنوان أنّـه من الشارع فهو ممّا لایعقل ،‏‎ ‎‏مع عدم العلم بورود التعبّد بـه من الشارع ، وإن کان معناه هو إسناد مضمونها إلی‏‎ ‎‏الشارع قولاً فهو من مصادیق القول بغیر العلم الذی یحکم العقل بقبحـه قطعاً ،‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 435
‏والدلیل النقلی بحرمتـه شرعاً .‏

‏وماذکره من الأدلّـة الأربعـة لایستفاد منها أزید من ذلک ؛ لأنّ المراد‏‎ ‎‏بالافتراء فی قولـه تعالی هو الکذب ، کما هو معناه لغـة ، وکذا سائر الأدلّـة لایدلّ‏‎ ‎‏علی أزید من حرمـة القول بغیر علم ، ولایدلّ شیء منها علی حرمـة العمل بما‏‎ ‎‏لایعلم بعنوان أنّـه من المولی قطعاً .‏

‏ثمّ إنّ المبحوث عنـه فی المقام هو تأسیس الأصل فیما لا دلیل علی‏‎ ‎‏اعتباره ، حتّی یتبع فی موارد الشکّ ، فالاستدلال علی أنّ الأصل هو عدم الحجّیـة‏‎ ‎‏بقبح التشریع وحرمتـه ـ کما عرفت فی کلام الشیخ ـ مبنی علی دعوی الملازمـة‏‎ ‎‏بین الحجّیـة وصحّـة الإسناد ، بمعنی أنّـه کلّما صحّ الإسناد ـ أیإسناد مقتضاه إلی‏‎ ‎‏الشارع ـ فهو حجّـة ، وکلّما لم یصحّ لایکون بحجّـة ، فإذا قام الدلیل علی حرمـة‏‎ ‎‏التشریع الذی یرجع إلی الإسناد إلی الشارع فیما لایعلم یستفاد من ذلک عدم‏‎ ‎‏کونـه حجّـة .‏

‏هذا ، وقد یورد علی دعوی الملازمـة بالنقض بموارد :‏

أحدها‏ : ما أفاده المحقّق الخراسانی فی «الکفایـة» من أنّ الظنّ علی تقدیر‏‎ ‎‏الحکومـة حجّـة عقلاً ، مع أنّـه لایصحّ إسناد المضمون إلی الشارع فیـه‏‎[4]‎‏ .‏

هذا‏ ‏، ولکن یرد علیـه‏ : عدم تمامیـة النقض ، بناءً علی مبناه فی تقریر‏‎ ‎‏مقدّمات الانسداد من أنّ أحدها العلم الإجمالی بوجود التکالیف‏‎[5]‎‏ ؛ لأنّـه بناءً‏‎ ‎‏علی ذلک لایکون الظنّ حجّـة ، بل الحجّـة هو العلم الإجمالی . غایـة الأمر : أنّـه‏‎ ‎‏حیث لایمکن ـ أو لایجب ـ الاحتیاط فی جمیع أطرافـه فاکتفی بالعمل‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 436
‏بالمظنونات فقط ، فالعمل بها لیس لکون الظنّ حجّـة ، بل لکونـه أقرب إلی‏‎ ‎‏الوصول إلی الواقع ، کما لایخفی .‏

ثانیها‏ : ما ذکره المحقّق العراقی ـ علی ما فی تقریرات بحثـه ـ من النقض‏‎ ‎‏باحتمال التکلیف قبل الفحص ، وبإیجاب الاحتیاط فی الشبهات البدویـة‏‎[6]‎‏ .‏

ولکن یرد علیـه‏ : أنّ احتمال التکلیف قبل الفحص لایکون حجّـة ، بل‏‎ ‎‏الحجّـة هی بیان التکلیف المذکور فی مظانّـه الذی یعلم بـه بعد الفحص . غایـة‏‎ ‎‏الأمر : أنّ العقل یحکم بقبح العقاب بلابیان فیما إذا تفحّص ولم یجد ، فعدم الفحص‏‎ ‎‏لایقتضی أزید من عدم حکم العقل بقبحـه فی مورده ، لا أن یکون الاحتمال معـه‏‎ ‎‏حجّـة ، کما أنّ إیجاب الاحتیاط فی الشبهات البدویـة یمکن أن یقال بعدم کونـه‏‎ ‎‏حجّـة ، بل إنّما هو رافع لحکم العقل بقبح العقاب الذی کان ثابتاً عند عدم إیجاب‏‎ ‎‏الاحتیاط ؛ لأنّـه لو شرب التتن مثلاً مع وجوب الاحتیاط علیـه ، وکان فی الواقع‏‎ ‎‏حراماً فهو یعاقب علی الإتیان بالمنهیّ عنـه ، لا علی مخالفـة الاحتیاط .‏

‏وبالجملـة : فلم یوجد مورد یتحقّق الانفکاک فیـه بین الحجّیـة وصحّـة‏‎ ‎‏الإسناد . نعم ، یرد علی الشیخ : أنّ ادعاء الملازمـة بینهما إنّما هو مجرّد دعوی‏‎ ‎‏یحتاج إلی إقامـة برهان ، کما لایخفی .‏

فالأولی فی تقریر الأصل ما أفاده فی «الکفایـة» ممّا حاصلـه‏ : أنّ مع الشکّ‏‎ ‎‏فی حجّیـة شیء لایترتّب علیـه آثار الحجّیـة قطعاً ؛ ضرورة أنّ احتجاج المولی‏‎ ‎‏علی العبد لایجوز إلاّ بما یعلم العبد بکونـه حجّـة منـه علیـه ، فالآثار المرغوبـة‏‎ ‎‏من الحجّـة لا تکاد تترتّب إلاّ علی ما اُحرز اتصافها بالحجّیـة الفعلیـة ؛ لقبح‏‎ ‎‏المؤاخذة علی مخالفـة التکلیف مع الشکّ فی حجّیـة الأمارة المصیبـة ، ونحو‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 437
‏ذلک من الآثار . فعدم حجّیـة الأمارة التی شکّ فی اعتبارها شرعاً أمر مقطوع ،‏‎ ‎‏یحکم بـه العقل جزماً‏‎[7]‎‏ .‏

‏ومن هنا یظهر الخلل فی استدلال الشیخ علی أصالـة عدم الحجّیـة‏‎ ‎‏بالأدلّـة الأربعـة ، فإنّ الکلام هنا فی تأسیس الأصل الذی یتبع فی موارد الشکّ ،‏‎ ‎‏ولم یقم بعد دلیل علی حجّیـة ظواهر الکتاب أو السنّـة الغیر القطعیـة أو الإجماع‏‎ ‎‏مثلاً ، حتّی یتمسّک بها علی أنّ الأصل فی موارد الشکّ یقتضی عدم الحجّیـة . نعم ،‏‎ ‎‏لابأس بالتمسّک بالعقل لو کان حکمـه بذلک قطعیاً ، کما لایخفی .‏

‏ثمّ إنّـه قد یستدلّ علی أنّ الأصل عدم الحجّیـة باستصحاب عدم الحجّیـة‏‎ ‎‏وعدم وقوع التعبّد بـه ، وإیجاب العمل علیـه . وأورد علیـه الشیخ ‏‏قدس سره‏‏ بأنّ الأصل‏‎ ‎‏وإن کان کذلک إلاّ أنّـه لایترتّب علی مقتضاه شیء ، فإنّ حرمـة العمل بالظنّ یکفی‏‎ ‎‏فی موضوعها مجرّد عدم العلم بورود التعبّد ، من غیر حاجـة إلی إحراز عدمـه .‏

‏والحاصل : أنّ أصالـة عدم الحادث إنّما یحتاج إلیها فی الأحکام المترتّبـة‏‎ ‎‏علی عدم ذلک الحادث ، وأمّا الحکم المترتّب علی عدم العلم بذلک الحادث‏‎ ‎‏فیکفی فیـه الشکّ فیـه ، ولایحتاج إلی إحراز عدمـه بحکم الأصل ، وهذا نظیر‏‎ ‎‏قاعدة الاشتغال الحاکمـة بوجوب الیقین بالفراغ ، فإنّـه لایحتاج فی إجرائها إلی‏‎ ‎‏أصالـة عدم فراغ الذمّـة ، بل یکفی فیها عدم العلم بالفراغ‏‎[8]‎‏ ، انتهی .‏

واستشکل علی هذا الکلام المحقّق الخراسانی فی «التعلیقـة» بما حاصلـه‏ ‏:‎ ‎‏أنّ الحجّیـة وعدمها ، وکذا إیجاب التعبّد وعدمـه بنفسهما ممّا یتطرّق إلیـه الجعل ،‏‎ ‎‏وتنالـه ید التصرّف من الشارع ، وما کان کذلک یکون الاستصحاب فیـه جاریاً ،‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 438
‏کان هناک أثر شرعی یترتّب علی المستصحب أو لا .‏

‏هذا ، مع أنّـه لو کان الحجّیـة وعدمها من الموضوعات الخارجیـة التی‏‎ ‎‏لایصحّ الاستصحاب فیها إلاّ بملاحظـة الآثار الشرعیـة المترتّبـة علیها فإنّما‏‎ ‎‏لایکون مجال لاستصحاب عدم الحجّیـة فیما إذا لم یکن حرمـة العمل إلاّ أثر‏‎ ‎‏الشکّ فیها ، لا لعدمها واقعاً . وأمّا إذا کانت أثراً لـه أیضاً فالمورد وإن کان فی نفسـه‏‎ ‎‏قابلاً لکل من الاستصحاب والقاعدة المضروبـة لحکم هذا الشکّ إلاّ أنّـه لایجری‏‎ ‎‏فعلاً إلاّ الاستصحاب ؛ لحکومتـه علیها .‏

والضابط‏ : أنّـه إذا کان الحکم الشرعی مترتّباً علی الواقع لیس إلاّ ،‏‎ ‎‏فلامجال إلاّ للاستصحاب ، وإذا کان مترتّباً علی الشکّ فیـه کذلک فلا مجال إلاّ‏‎ ‎‏للقاعدة ، وإذا کان مترتّباً علی کلیهما ، فالمورد وإن کان قابلاً لهما إلاّ أنّ‏‎ ‎‏الاستصحاب جار دونها ؛ لحکومتـه علیها .‏

‏وفیما نحن فیـه وإن کان حکم حرمـة العمل والتعبّد مترتّباً علی الشکّ فی‏‎ ‎‏الحجّیـة إلاّ أنّـه یکون مترتّباً أیضاً علی عدمها ؛ لمکان ما دلّ علی حرمـة الحکم‏‎ ‎‏بغیر ما أنزل اللّٰـه ، فیکون المتبع هو الاستصحاب .‏

‏ومن هنا انقدح الحال فی استصحاب الاشتغال وقاعدتـه ، وأنّها لا تجری‏‎ ‎‏معـه ؛ لوروده علیها‏‎[9]‎‏ ، انتهی ملخّصاً .‏

وقد أورد علی هذا الاستشکال المحقّق النائینی‏ ـ علی ما فی تقریرات‏‎ ‎‏بحثـه ـ بما ملخّصـه : أنّ ما أفاده أولاً من أنّ الحجّیـة بنفسها من الأحکام ،‏‎ ‎‏فلایتوقّف جریان استصحاب عدمها علی أن یکون وراء المؤدّی أثر عملی .‏

‏ففیـه : أنّ ما اشتهر من أنّ الاُصول الحکمیـة لایتوقّف جریانها علی أن‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 439
‏یکون فی البین أثر عملی إنّما هو لأجل أنّ المؤدّی بنفسـه من الآثار العملیـة ،‏‎ ‎‏وإلاّ فلایمکن أن تجری الاُصول .کیف ، وهی وظائف عملیـة ، والحجّیـة وإن کانت‏‎ ‎‏من الأحکام الوضعیّـة ، وکانت بنفسها ممّا تنالها ید الجعل إلاّ أنّها بوجودها‏‎ ‎‏الواقعی لایترتّب علیها أثر عملی أصلاً ، والآثار المترتّبـة علیها منها ما یترتّب‏‎ ‎‏علیها بوجودها العلمی ، ککونها منجّزة وعذراً ، ومنها ما یترتّب علی نفس الشکّ‏‎ ‎‏فی حجّیتها ، کحرمـة التعبّد بها ، وعدم جواز إسناد مؤدّاها إلی الشارع .‏

‏فعدم الحجّیـة الواقعیـة بنفسـه لایقتضی الجری العملی ، حتّی یجری‏‎ ‎‏استصحاب العدم ؛ إذ لیس لإثبات عدم الحجّیـة أثر إلاّ حرمـة التعبّد بها ، وهو‏‎ ‎‏حاصل بنفس الشکّ فی الحجّیـة وجداناً ؛ لما عرفت من أنّ الشکّ تمام الموضوع‏‎ ‎‏لحرمـة التشریع وعدم جواز التعبّد .‏

‏فجریان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر یکون من تحصیل الحاصل ، بل‏‎ ‎‏أسوأ حالاً منـه ؛ فإنّ تحصیل الحاصل فیما إذا کان المحصّل والحاصل من سنخ‏‎ ‎‏واحد ، کلاهما وجدانیان أو تعبّدیان ، وفی المقام یلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان‏‎ ‎‏بالتعبّد ، فهو أسوأ حالاً منـه .‏

‏وأمّا ما أفاده ثانیاً من أنّ حرمـة التعبّد بالأمارة کما تکون أثراً للشکّ فی‏‎ ‎‏حجّیتها کذلک یکون أثراً لعدم حجّیتها واقعاً ، ففی ظرف الشکّ یجری کلّ من‏‎ ‎‏الاستصحاب والقاعدة ، ویقدّم الأوّل ؛ لحکومتـه .‏

‏ففیـه : أنّـه لایعقل أن یکون الشکّ فی الواقع موضوعاً للأثر فی عرض‏‎ ‎‏الواقع ، مع أنّـه علی هذا الفرض لایجری الاستصحاب أیضاً ؛ لأنّ الأثر یترتّب‏‎ ‎‏بمجرّد الشکّ لتحقّق موضوعـه ، فلایبقی مجال لجریان الاستصحاب ؛ لأنّـه لا‏‎ ‎‏تصل النوبـة إلی إثبات بقاء الواقع ؛ لیجری فیـه الاستصحاب ، فإنّـه فی المرتبـة‏‎ ‎‏السابقـة علی هذا الإثبات تحقّق موضوع الأثر ، وترتّب علیـه . فأیّ فائدة فی‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 440
‏جریان الاستصحاب ؟ !‏

‏وما قرع سمعک من أنّ الاستصحاب یکون حاکماً علی القاعدة المضروبـة‏‎ ‎‏لحال الشکّ فإنّما هو فیما إذا کان ما یثبتـه الاستصحاب مغایراً لما تثبتـه‏‎ ‎‏القاعدة‏‎[10]‎‏ ، انتهی ملخّصاً .‏

أقول‏ ‏: والتحقیق أن یقال‏ : إنّـه قد ظهر من مطاوی ما ذکرنا أنّ هنا عناوین‏‎ ‎‏ثلاثـة ، قد وقع الخلط بینها فی الکلمات التی نقلناها عن الأعلام :‏

أحدها‏ : القول بغیر علم الذی یدلّ علی حرمتـه الآیـة والروایـة والعقل ،‏‎ ‎‏ومن الواضح أنّ الموضوع فیـه إنّما هو نفس الشکّ وعدم العلم .‏

ثانیها‏ : البدعـة والتشریع ، بمعنی إدخال ما لیس من الدین فی الدین ،‏‎ ‎‏وإظهار أنّـه منـه ، وهذا أمر واقعی لا ربط لـه بعلم المکلّف وجهلـه ، فإنّ المکلّف‏‎ ‎‏قد یدخل فی الدین ما لایکون باعتقاده منـه ، مع أنّـه کان فی الواقع من الدین ،‏‎ ‎‏فهذا لایکون تشریعاً ، ولایعاقب علیـه حینئذٍ . نعم ، لو قلنا باستحقاق المتجرّی‏‎ ‎‏للعقاب یترتّب علیـه عقوبتـه ، وقد یدخل فی الدین ما یکون باعتقاده منـه ، مع‏‎ ‎‏أنّـه لیس فی الواقع منـه ، فهذا تشریع واقعاً ، ولکنّ المکلّف معذور فی ارتکاب‏‎ ‎‏هذا الحرام ؛ لجهلـه بـه .‏

ثالثها‏ : عنوان الکذب الذی هو أعمّ من البدعـة ؛ إذ تختصّ هی بما إذا‏‎ ‎‏اُدخل فی الدین والشریعـة أو نقّص منـه ، والأوّل أعمّ منها ومن الکذب فی غیر‏‎ ‎‏الأحکام الشرعیـة . ولایخفی أنّ الکذب أیضاً عنوان واقعی ؛ لأنّـه لیس إلاّ‏‎ ‎‏مخالفـة القول للواقع ، لا للاعتقاد ، فقد یتحقّق مع اعتقاد خلافـه ، وقد لایتحقّق مع‏‎ ‎‏اعتقاد ثبوتـه .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 441
إذا عرفت ذلک فاعلم‏ : أنّـه مع الشکّ فی حجّیـة أصل أو أمارة یجری‏‎ ‎‏استصحاب عدم الحجّیـة الراجع إلی عدم کونـه من الدین ، فیترتّب علیـه أنّـه لو‏‎ ‎‏أدخل فی الدین یکون تشریعاً وبدعـة ، فیخرج عن موضوع القول بغیر علم ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المراد بالعلم المأخوذ أعمّ من العلم الوجدانی والظنّ الذی قام الدلیل علی‏‎ ‎‏اعتباره ، فإذا ثبت بالاستصحاب عدم کونـه من الدین ، فیصیر من جملـة ما علم‏‎ ‎‏أنّـه لیس منـه ، فلو ارتکبـه بأن أدخلـه فی الدین یعاقب علی البدعـة والتشریع‏‎ ‎‏والکذب مع المصادفـة ، ولایعاقب علی أنّـه قال بغیر علم .‏

‏نعم ، لو أسند إلی الشارع مضمون الأمارة التی شکّ فی حجّیتها ، مع قطع‏‎ ‎‏النظر عن استصحاب عدم الحجّیـة یعاقب علی القول بغیر العلم ، ولایعاقب علی‏‎ ‎‏البدعـة ؛ لأنّـه کانت الشبهـة شبهـة مصداقیـة لها ، ولایکون الحکم حجّـة فی‏‎ ‎‏الشبهات المصداقیـة لموضوعاتها ، کما لایخفی .‏

‏فانقدح : أنّ الشکّ فی الحجّیـة کما أنّـه موضوع لحرمـة التعبّد والنسبـة‏‎ ‎‏إلی الشارع ، کذلک موضوع لاستصحاب عدم الحجّیـة لما یترتّب علی عدمها من‏‎ ‎‏الأثر ، وهوحرمـة إدخالـه فی الدین بعنوان أنّـه منـه ، کما عرفت .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 442

  • )) یونس (10) : 59 .
  • )) الکافی 7 : 407 / 1 ، وسائل الشیعـة 27 : 22 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 4 ، الحدیث 6 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 49 ـ 50 .
  • )) کفایـة الاُصول : 323 .
  • )) نفس المصدر : 356 ـ 357 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 80 ـ 81 .
  • )) کفایـة الاُصول : 322 ـ 323 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 49 ـ 50 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الخرسانی : 80 ـ 81 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 127 ـ 131 .