الجواب عن محذور اجتماع المثلین أو الضدّین
وأمّا اجتماع المثلین أو الضدّین أو النقیضین ، فلایخفی أنّـه یمکن توجیهـه بنحو لایرد علیـه ما حقّقناه فی مبحث اجتماع الأمر والنهی ، من عدم ثبوت التضادّ بین الأحکام أصلاً ، بأنّـه کیف یجتمع الإرادة الحتمیـة من المولی بفعل شیء أو ترکـه ، مع جعلـه قول العادل حجّـة ، الراجع إلی الترخیص فی الترک أو
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 420
الفعل ، إذا قام علی نفی الوجوب أو الحرمـة .
وبعبارة اُخری : معنی کون الشیء واجباً فی الواقع أنّـه أراد المولی بالإرادة الحتمیـة أن یوجده المکلّف فی الخارج ، وبعثـه إلیـه بالبعث الفعلی ، ومعنی حجّیـة قول العادل جواز تطبیق العمل علی طبق إخباره ومتابعـة قولـه ، فإذا أخبر بعدم وجوب ما یکون واجباً فی الواقع فمعنی حجّیـة قولـه یرجع إلی کون المکلّف مرخّصاً فی ترکـه ، وحینئذٍ فکیف یجتمع البعث الحتمی إلی الفعل والإرادة الحتمیـة مع الترخیص فی الترک .
ومن هذا التوجیـه یظهر : أنّ أکثر الأجوبـة التی أوردها الأعاظم فی کتبهم ممّا لایرتبط بالإشکال ؛ ضرورة أنّ دعوی عدم کون المقام مشتملاً علی حکمین ؛ لأنّ الحجّیـة غیر جعل الحکم ، أو دعوی کون الحکم المجعول هو الحکم الطریقی الغیر المنافی للحکم الواقعی ، أو غیرهما من الأجوبـة التی سیأتی التعرّض لبعضها ممّا لایرتبط بالإشکال ؛ لأنّ بعد تسلیم تلک الأجوبـة یبقی الإشکال بحالـه ، کما لایخفی .
والتحقیق فی الجواب أن یقال : إنّـه لا إشکال فی کون الأحکام الواقعیـة الفعلیـة مجعولـة علی جمیع المکلّفین ، من دون أن یکون للعلم دخل فی فعلیتها ؛ لما عرفت فی بعض المباحث السابقـة من أنّ المراد بالحکم الفعلی لیس إلاّ الأحکام التی اُعطیت بید الإجراء ، وکان المقصود بها أن یأخذها الناس ، ویعملوا بها .
وهذا لا فرق فیـه بین أن یکون المکلّف عالماً بها أو جاهلاً ، مضافاً إلی أنّ أخذ العلم بالحکم فی موضوعـه مستحیل بداهـة .
فالأحکام الفعلیـة ثابتـة بالنسبـة إلی جمیع المکلّفین ، کما أنّها ثابتـة بالنسبـة إلی القادر والعاجز ، ولا اختصاص لها بخصوص القادر . نعم ، حیث
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 421
یکون الجهل والعجز من الأعذار العقلیـة ؛ لعدم إمکان الانبعاث بالبعث مع الجهل بـه ، أو عدم القدرة علی الإتیان بالمبعوث فلا محالـة لایکون المکلّف معاقباً علی المخالفـة ومذموماً علیها ، وقد حقّقنا فی مبحث الترتّب من مباحث الألفاظ أنّ التکلیفین باقیان علی فعلیتهما فی صورة التزاحم . غایـة الأمر : أنّ عجز المکلّف صار سبباً لکونـه معذوراً فی مخالفـة أحدهما ؛ لعدم قدرتـه علی امتثالهما .
نعم ، بینـه وبین المقام فرق ، وهو أنّ مخالفـة المکلّف فی المقام ـ إذا أخطأت الأمارة ـ لا تکون مستندة إلی عذر عقلی ؛ لأنّـه لو لم تکن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لما وقع المکلّف فی مخالفـة الواقع ؛ لأنّـه کان یعمل بمقتضی الاحتیاط الواجب بحکم العقل فی موارد العلم الإجمالی . وحینئذٍ فتکون المخالفـة مستندة إلی اعتبار الشارع قول العادل ، وأمثالـه من الأمارات .
وحینئذٍ فیمکن أن یقال : بمثل ما مرّ فی الجواب عن محذور التفویت والإلقاء من أنّ جعل الشارع واعتباره للأمارات یمکن أن یکون بملاحظـة أنّـه لو لم تکن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لکان مقتضی حکم العقل وجوب الاحتیاط علی الناس ، وحینئذٍ فیلزم الحرج الشدید ، والاختلال العظیم ، الموجب لرغبـة أکثر الناس عن الشریعـة ، وخروجها عن کونها سمحـة سهلـة ، وذلک یوجب انتفاء المصلحـة العظیمـة ؛ وهی مصلحـة بقاء الشریعـة .
فاعتبار قول العادل الراجع إلی الترخیص فیما لو أدّی علی خلاف الواقع ، وقام علی نفی وجوب الواجب الواقعی لیس إلاّ لملاحظـة حفظ الشرع الذی یکون ذا مصلحـة عظیمـة ، فیرخّص فی ترک صلاة الجمعـة الواجبـة واقعاً القائمـة علی نفی وجوبها الأمارة ، لا لعدم کونها ذا مصلحـة ملزمـة ، بل لرفع الید عن مصلحتها فی مقابل المصلحـة التی هی أقوی منها بمراتب .
فوجوب صلاة الجمعـة وإن کان حکماً فعلیاً إلاّ أنّ الشارع یرفع الید عن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 422
مثلـه من بعض الأحکام الفعلیـة لأجل مصلحـة هی أقوی المصالح وأتمّها ، فهو نظیر من یقطع یده لأجل حفظ نفسـه فیما لو توقّف علیـه ، فقطع الید وإن لم یکن ذا مصلحـة ـ بل یکون عین المفسدة ـ إلاّ أنّ معارضتـه مع شیء آخر أقوی منـه أوجب الإقدام علیـه ، مع کونـه ذا مفسدة ، کما لایخفی .
ثمّ إنّ ما ذکرنا : یجری فی جمیع الأمارات والاُصول ، ولا اختصاص لـه بالأوّل ، فإنّ اعتبار قاعدتی الفراغ والتجاوز ، وإلغاء الشکّ بعد الوقت ، وعدم وجوب ترتیب الأثر علیـه ، مع أنّ ذلک قد یؤدّی إلی عدم الإتیان بالمأمور بـه ـ بعضاً أو کلاًّـ یمکن أن یکون لملاحظـة أنّ تفویض الناس إلی ما یقتضیـه عقولهم من ثبوت الاشتغال إلی أن یعلم الفراغ ربّما یوجب تنفّر الناس وإعراضهم عن أصل الشریعـة ؛ لعدم تحقّق العلم لهم بإتیان التکالیف واجدة لجمیع ما یعتبر فیها ، إلاّ قلیلاً ؛ ضرورة أنّ أکثرهم فی شکّ من ذلک غالباً . فهذه المصلحـة التی هو أقوی المصالح أوجبت رفع الید عن بعض المصالح الضعیفـة ، وإن کان الحکم علی طبقها حکماً فعلیاً ، وکان الإتیان بها محبوباً للمولی فی نفسها ، کما لایخفی .
فتلخّص من جمیع ذلک : أنّ الحکم الواقعی الفعلی عند قیام الأمارة علی خلافـه یخرج عن الفعلیـة ، بمعنی أنّ المولی لایرید إجرائـه ، فیصیر کالأحکام الإنشائیـة التی لایکون المقصود بها عمل الناس علی طبقها ، إلاّ فی زمان ظهور دولـة الحقّ بقیام صاحب الأمر علیه السلام ، کالحکم بنجاسـة العامّـة علی ما فی بعض الروایات .
وأمّا ما أفاده بعض محقّقی العصر ـ علی ما فی تقریرات بحثـه ـ : من أنّـه لایعقل الحکم الإنشائی ، بل الذی یکون فی الواقع هو إنشاء الأحکام ، وهو عبارة عن تشریعها وجعلها علی موضوعاتها المقدّرة وجودها بجمیع ما اعتبر فیها من القیود والشرائط علی نهج القضایا الحقیقیـة . ودعوی أنّ الحکم الواقعی فی مورد
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 423
الأمارة لایکون فعلیاً واضحـة الفساد ، فإنّـه لایمکن أن لایکون الحکم فعلیاً إلاّ إذا اُخذ فی موضوعـه عدم قیام الأمارة علی الخلاف ؛ بحیث یکون قیداً فی ذلک ، ومعـه یعود محذور التصویب .
ففیـه : أنّ المراد بالحکم الإنشائی هو الحکم الذی ینشأه العقلاء المقنّنین للقوانین العرفیـة فی اُمورهم الدنیویـة أیضاً ، ثمّ یخصّصونـه ببعض الأفراد ، أو یقیّدونـه ببعض القیود ؛ ضرورة أنّ العقلاء فی جعل القوانین لیسوا بحیث یجعلون القانون بجمیع خصوصیاتـه ؛ من حیث القیود أو الشمول ، بل ینشأون الأحکام بنحو العموم أو الإطلاق ، ثمّ یخصّصونـه أو یقیّدونـه .
کیف ، ولو قلنا بأنّ الأحکام الواقعیـة کانت مجعولـة علی موضوعاتها بجمیع ما اعتبر فیها من القیود والشرائط لم یبق وجـه للتمسّک بالإطلاق عند الشکّ فی کون الحکم مقیّداً ، أو فی تقیّده بقید آخر ؛ إذ مع فرض کون المتکلّم فی مقام البیان لابدّ لـه من بیان الحکم المتعلّق بالموضوع بجمیع ما اعتبر فیـه ، وعند ذلک لایبقی شکّ فی القید ، ومعـه لایجوز التمسّک بالإطلاق ، کما لایخفی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 424