قیام ا‏لأمارات وا‏لاُصول مقام ا‏لقطع إثباتاً

قیام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً

‏ ‏

‏المقام الثانی : فیما یدلّ علیـه أدلّـة الأمارات والاُصول ، فنقول :‏

أمّا الأمارات‏ : فقد ذکر فی التقریرات کلاماً طویلاً ، واُسّس بنیاناً رفیعاً‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 398
‏لقیامها بأدلّـة اعتبارها مقام القطع‏‎[1]‎‏ ، ولکنّـه خال عن الدلیل ؛ لعدم دلالـة أدلّـة‏‎ ‎‏حجّیـة الأمارات علی ما ذکره أصلاً .‏

والتحقیق أن یقال‏ : إنّ العمدة فی أدلّـة حجّیـة الأمارات هی بناء العقلاء بما‏‎ ‎‏هم عقلاء علی العمل علی طبقها ، ولیس للشارع فی اعتبارها تأسیس أصلاً ، کما‏‎ ‎‏یظهر بمراجعـة الأخبار الواردة فی حجّیـة خبر الواحد الذی هو من عمدة‏‎ ‎‏الأمارات ، فإنّـه لایظهر من شیء منها ما یدلّ علی حجّیـة خبر الواحد ، أو وجوب‏‎ ‎‏تصدیق العادل ، أو نحوهما ممّا یشعر بکون الشارع جعل خبر الواحد طریقاً إلی‏‎ ‎‏الأحکام ، بل التأمّل فیها یقضی بکون ذلک أمراً مسلّماً عند الناس ؛ بحیث لایحتاج‏‎ ‎‏إلی السؤال ؛ لأنّ بنائهم فی الاُمور الدنیویـة کلّها أیضاً علی العمل بذلک .‏

وبالجملـة‏ : کون الدلیل علی ذلک هو مجرّد بناء العقلاء ، وعمل الشارع بـه‏‎ ‎‏إنّما هو لکونـه منهم ممّا لا مجال للإشکال فیـه . وحینئذٍ فنقول : لا إشکال فی أنّ‏‎ ‎‏الوجـه فی ذلک لیس لکون الظنّ عندهم بمنزلـة القطع ، ویقوم مقامـه ، فإنّ لهم‏‎ ‎‏طرقاً معتبرة یعملون بها فی اُمورهم ، من غیر تنزیل شیء منها مقام الآخر .‏

ومنـه یظهر‏ : أنّ الأثر المترتّب علی القطع الطریقی ـ وهو الحجّیـة‏‎ ‎‏والمنجّزیـة للواقع علی تقدیر الثبوت ـ یترتّب علی تلک الطرق العقلائیـة ، لکن لا‏‎ ‎‏من باب کونها قائمـة مقام القطع ، ومنزّلـة بمنزلتـه . وتقدّم القطع علی سائر الطرق‏‎ ‎‏العقلائیـة لایؤیّد دعوی التنزیل ، فإنّ الوجـه فیـه إنّما هو أنّ العمل علی طبقها‏‎ ‎‏إنّما هو مع فقد العلم ، وذلک لایوجب انحصار الطریق فی القطع ؛ بحیث تکون سائر‏‎ ‎‏الطرق قائمـة مقامـه ، ویکون العمل بها بعنایـة التنزیل .‏

وأمّا القطع الموضوعی‏ : فما کان منـه مأخوذاً فی الموضوع علی نعت‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 399
‏الصفتیـة فلا إشکال فی عدم قیام الظنّ مقامـه ، ولا فی عدم ترتّب آثاره علیـه ،‏‎ ‎‏کما أنّـه لا إشکال فی ذلک فیما لو کان القطع مأخوذاً علی وجـه الطریقیـة التامّـة .‏

‏وأمّا لو کان مأخوذاً فی الموضوع بما أنّـه أحد الکواشف فلاریب فی ترتّب‏‎ ‎‏حکمـه علی الظنّ أیضاً ، لکن لا من باب کونـه قائماً مقامـه ، بل من باب کونـه‏‎ ‎‏أیضاً مأخوذاً فی الموضوع ، فإنّ المفروض أنّ القطع قد اُخذ فیـه بما أنّـه من‏‎ ‎‏الکواشف ، فمرجعـه إلی کون الدخیل فی الموضوع هو الکاشف بما هو کاشف ،‏‎ ‎‏والظنّ أیضاً کالقطع یکون من مصادیقـه ، کما هو واضح ، هذا حال الأمارات .‏

وأمّا الاُصول‏ ‏، فمنها‏ ‏: الاستصحاب‏ ، ولایخفی أنّ مفاد الأخبار الواردة فی‏‎ ‎‏بابـه لیس إلاّ مجرّد البناء العملی علی بقاء المتیقّن سابقاً فی زمان الشکّ ، وترتیب‏‎ ‎‏آثار البقاء فی حالـه ، فهو أصل تعبّدی مرجعـه إلی مجرّد بقاء المتیقّن تعبّداً ،‏‎ ‎‏والحکم بثبوتـه شرعاً ، وهذا المعنی لا ارتباط لـه بباب التنزیل وإقامتـه مقام‏‎ ‎‏القطع أصلاً ، کما هو واضح .‏

‏نعم ، لو کان مفاد أخبار الاستصحاب هی إطالـة عمر الیقین ووجوب عدم‏‎ ‎‏نقضـه ؛ بحیث یکون مرجعها إلی کون الشاکّ فعلاً متیقّناً شرعاً وتعبّداً لکان الظاهر‏‎ ‎‏هو قیام الاستصحاب مقام القطع بجمیع أقسامـه . لکن الأمر لیس کذلک ، کما‏‎ ‎‏سنحقّقـه إن شاء اللّٰـه تعالی فی موضعـه‏‎[2]‎‏ .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 400
ومنها‏ ‏: قاعدتا التجاوز والفراغ‏ ، ولایخفی أنّ التأمّل فی الأخبار الواردة‏‎ ‎‏فیهما یعطی أنّ مفادها لیس إلاّ مجرّد البناء عملاً علی تحقّق المشکوک ، والحکم‏‎ ‎‏بثبوتـه فی محلّـه .‏

‏فانظر إلی ما ورد فی روایـة حمّاد ، بعد سؤالـه عنـه ‏‏علیه السلام‏‏ أشکّ ، وأنا‏‎ ‎‏ساجد ، فلا أدری رکعت أم لا من قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«قد رکعت»‎[3]‎‏ . فهذا المضمون‏‎ ‎‏ونظائره ظاهر فی مجرّد فرض تحقّق الشیء المشکوک ، والبناء علیـه عملاً ، ولا‏‎ ‎‏نظر فی أدلّتهما إلی جعل المکلّف مقام القاطع ، والحکم بکونـه مثلـه ؛ بحیث لو‏‎ ‎‏ورد دلیل کان القطع مأخوذاً فی موضوعـه ، کقولـه مثلاً : إذا قطعت بالرکوع فعلیک‏‎ ‎‏کذا وکذا یکون مفاده شاملاً للمکلّف الشاکّ فی الرکوع المتجاوز عن محلّـه ، أو‏‎ ‎‏الفارغ عن العمل ؛ نظراً إلی تلک الأدلّـة .‏

وبالجملـة‏ : فالظاهر عدم الإشکال فی أنّـه لیس شیء من أدلّـة الاُصول‏‎ ‎‏ناظراً إلی التنزیل ، وبصدد جعل المکلّف قاطعاً تعبّداً . نعم ، لو فرض کون مفادها‏‎ ‎‏ذلک فالظاهر أنّـه لا فرق بین القطع الطریقی والموضوعی ، ولا فرق فی الثانی‏‎ ‎‏أیضاً بین ما کان مأخوذاً علی وجـه الصفتیـة وما کان مأخوذاً علی نعت‏‎ ‎‏الطریقیـة ، کما هو واضح .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 401

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 15 .
  • )) ومنها : أصالـة البراءة الشرعیـة التی هی مقتضی مثل حدیث الرفع ، ومن الواضح أنّ مفادها رفع التکلیف من جهـة عدم تعلّق العلم بـه ، وکونـه مجهولاً ، ولا دلالـة لها علی التنزیل منزلـة الیقین بوجـه .     ومنها : الاُصول العملیـة العقلیـة ، کأصالـة البراءة ، وأصالـة التخییر ، ومن المعلوم أنّ مقتضاها مجرّد الحکم بقبح العقاب مع فرض الجهل بالحکم ، وعدم ثبوت البیان بالإضافـة إلیـه ، ولا معنی لاقتضائها التنزیل ، کما إنّ مقتضی أصالـة التخییر ثبوتـه لأجل الجهل ، وعدم ثبوت الترجیح بوجـه ، وهو لایرتبط بالتنزیل أصلاً ، کما لایخفی . [المقرّر حفظـه اللّٰـه ] .
  • )) تهذیب الأحکام 2 : 151 / 594 ، وسائل الشیعـة 6 : 317 ، کتاب الصلاة ، أبواب الرکوع ، الباب 13 ، الحدیث 2 .