نقد کلام صاحب ا‏لکفایة

نقد کلام صاحب الکفایـة

‏ ‏

ثمّ‏ إنّ المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ بعد أن اختار قبح التجرّی ؛ مستدلاًّ بشهادة‏‎ ‎‏الوجدان ، وذهب إلی أنّـه لایوجب تفاوتاً فی الفعل المتجرّی بـه ، بل هو باقٍ علی‏‎ ‎‏ما هو علیـه من الحسن والقبح والوجوب أو الحرمـة ـ لعدم کونـه بما هو مقطوع‏‎ ‎‏الحرمـة اختیاریاً ـ أورد علی نفسـه بقولـه : إن قلت : إذا لم یکن الفعل کذلک فلا‏‎ ‎‏وجـه لاستحقاق العقوبـة علی مخالفـة القطع ، وهل کان العقاب علیها إلاّ عقاباً‏‎ ‎‏علی ما لیس بالاختیار .‏

‏ثمّ أجاب بأنّ العقاب إنّما یکون علی قصد العصیان والعزم علی الطغیان ، لا‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 383
‏علی الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختیار .‏

‏وأورد علی ذلک أیضاً بأنّ العزم والقصد إنّما یکون من مبادئ الاختیار ،‏‎ ‎‏وهی لیست باختیاریـة .‏

‏وأجاب بما حاصلـه : إنّـه ـ مضافاً إلی أنّ الاختیار وإن لم یکن بالاختیار‏‎ ‎‏إلاّ أنّ بعض مبادئـه غالباً یکون وجوده بالاختیار ـ یمکن أن یقال : إنّ صحّـة‏‎ ‎‏المؤاخذة والعقوبـة إنّما هی من آثار بعده عن سیّده بتجرّیـه علیـه ، فکما أنّ‏‎ ‎‏التجرّی یوجب البعد عنـه فکذلک لا غرو فی أن یوجب حسن العقوبـة ، فإنّـه وإن‏‎ ‎‏لم یکن باختیاره إلاّ أنّـه بسوء سریرتـه بحسب نقصانـه ذاتاً ، ومع انتهاء الأمر‏‎ ‎‏إلیـه یرتفع الإشکال ، وینقطع السؤال بلِمَ ، فإنّ الذاتیات ضروری الثبوت للذات .‏

‏ومن هنا أیضاً ینقطع السؤال عن أنّـه لِمَ اختار الکافر الکفر والعاصی‏‎ ‎‏العصیان والمؤمن الإیمان ؟ فإنّـه یساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ یکون ناهقاً ؟‏‎ ‎‏والإنسان لِمَ یکون ناطقاً ؟ وبالجملـة فتفاوت أفراد الإنسان بالأخرة یکون ذاتیاً ،‏‎ ‎‏والذاتی لایعلّل .‏

‏ثمّ قال : إن قلت : علی هذا فلا فائدة فی بعث الرسل وإنزال الکتب والوعظ‏‎ ‎‏والإنذار .‏

‏وأجاب بما حاصلـه : أنّ ذلک لینتفع بـه من حسنت سریرتـه ، ویکون‏‎ ‎‏حجّـة علی من ساءت سریرتـه ؛ لیهلک من هلک عن بیّنـة ، ویحیی من حیّ عن‏‎ ‎‏بیّنـة‏‎[1]‎‏ ، انتهی .‏

وفیـه وجوه من الخلل :

الأوّل‏ : أنّـه من الواضح أنّ الجواب عن الإیراد الثانی بأنّ بعض مبادئ‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 384
‏الاختیار غالباً یکون وجوده بالاختیار ممّا لایتمّ ؛ لأنّـه ینقل الکلام إلی المبادئ‏‎ ‎‏الاختیاریـة ، ویقال : إنّ اختیاریتها هل هی بالاختیار ، فیلزم التسلسل ، وإلاّ فیعود‏‎ ‎‏المحذور .‏

‏والتحقیق فی باب اختیاریـة الإرادة أن یقال : إنّـه لا إشکال فی أنّ الأفعال‏‎ ‎‏الصادرة من الواجب تعالی إنّما تکون صادرة بالإرادة والاختیار ، ولا معنی‏‎ ‎‏لاختیاریتها إلاّ ذلک ، لا کون إرادتها أیضاً بإرادة اُخری ، وإلاّ یلزم أن لاتکون‏‎ ‎‏إرادتـه تعالی عین ذاتـه ، وأن تکون إرادتـه حادثـة ، مع أنّـه مستحیل بداهـة ؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الإرادة من الصفات الکمالیـة ، والواجب مستجمع لجمیعها ، وإلاّ یلزم‏‎ ‎‏النقص فیـه .‏

‏مضافاً إلی أنّـه لو کانت الإرادة حادثـة فیـه تعالی لکان حدوثها کاشفاً عن‏‎ ‎‏قابلیتـه واستعداده لأن یحدث فیـه هذه الصفـة ، وقد قرّر فی محلّـه أنّ القابلیـة‏‎ ‎‏والاستعداد إنّما یکون محلّها المادّة والهیولی‏‎[2]‎‏ فیلزم أن یکون مرکّباً من الجهـة‏‎ ‎‏الفعلیـة والمادّة ، والترکیب مساوق للاحتیاج الذی هو عین ذات الممکن ،‏‎ ‎‏فالواجب تعالی یکون مریداً للأفعال الصادرة منـه ، قادراً علیها ، بمعنی أنّـه یصدر‏‎ ‎‏منـه بالإرادة ، لا أنّـه یصدر إرادتها أیضاً بالإرادة ، وإلاّ یلزم ما ذکر .‏

‏ونظیر ذلک یمکن أن یقال فی الإنسان ، بمعنی أنّ الأفعال الاختیاریـة‏‎ ‎‏الصادرة منـه إنّما تصدر منـه مع سبق الإرادة ، وهی قائمـة بالنفس ، مخلوقـة لها ،‏‎ ‎‏موجودة بإیجادها ، فهی أمر اختیاری صادرة عن إرادة واختیار ، لابإرادة اُخری .‏

‏مضافاً إلی أنّـه لایعتبر فی صحّـة العقوبـة والمؤاخذة علی الفعل أزید من‏‎ ‎‏کون الفعل صادراً عن علم وإرادة ، کما یظهر بملاحظـة سیرة العقلاء ، فإنّهم‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 385
‏یحکمون باستحقاق عبیدهم للعقوبـة بمجرّد ما إذا صدر منـه فعل مخالف للمولی‏‎ ‎‏اختیاراً ، ولایستندون فی ذلک إلاّ إلی مجرّد صدوره منـه کذلک ـ أی عن علم‏‎ ‎‏وإرادة ـ ولایلتفتون إلی کون مبادئ الإرادة هل هی تکون اختیاریـة أم لا ؟‏

‏کیف ولو کان الفعل الاختیاری عبارة عمّا یکون مبادئـه اختیاریـة فلا‏‎ ‎‏وجـه لاختصاص الاختیاریـة بالإرادة ، بل لابدّ من القول بلزوم أن یکون جمیع ما‏‎ ‎‏لـه دخل فی وجود الفعل اختیاریاً ـ کوجود الفاعل وعلمـه وشوقـه ـ فیلزم أن‏‎ ‎‏لایتحقّق فعل اختیاری ، حتّی من الواجب تعالی ، وهو ضروری البطلان .‏

الثانی‏ : أنّ القرب والبعد بالنسبـة إلی اللّٰـه تعالی قد یکون المراد منـه هو‏‎ ‎‏کمال الوجود ونقصـه ، بمعنی أنّ کلّ ما کان وجوده تامّاً کاملاً یکون قریباً من مبدء‏‎ ‎‏الکمال ، کالعقول المجرّدة ، وکلّ ما کان ناقصاً یکون بعیداً عنـه ، کالموجودات‏‎ ‎‏المادّیـة ؛ حیث إنّ کمالها عین النقص وفعلیتها عین القوّة ، ومن الواضح أنّ القرب‏‎ ‎‏والبعد بهذا المعنی لایکونان مناط الثواب والعقاب .‏

‏وقد یکون المراد منهما هما الأمرین اللذین ینتزعان من استکمال العبد‏‎ ‎‏بسبب الطاعـة وفعل القربات ، وانحطاطـه وبعده بسبب العصیان ، فهما وإن کانا‏‎ ‎‏مناطین للثواب والعقاب ـ بمعنی أنّ فعل القربات یوجب استحقاق الجنان ،‏‎ ‎‏وارتکاب المبعّدات یوجب استحقاق النیران ـ إلاّ أنّـه لیس استحقاق المثوبـة‏‎ ‎‏والعقوبـة من تبعات نفس القرب والبعد ، بل هما ینتزعان من الطاعـة والمعصیـة ،‏‎ ‎‏والعقل إنّما یحکم باستحقاق العاصی للعقاب والمطیع للثواب ، من دون توجّـه إلی‏‎ ‎‏القرب والبعد .‏

‏وبالجملـة : القرب والبعد ، وکذا استحقاق المثوبـة والعقوبـة کلّها منتزعات‏‎ ‎‏من الطاعـة والمعصیـة فی رتبـة واحدة ، بلا تقدّم لأحدهما علی الآخر ، کما‏‎ ‎‏لایخفی .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 386
الثالث‏ : أنّ ما ذکره من انتهاء الأمر بالأخرة إلی الذاتی ، وهو لایعلّل ممّا‏‎ ‎‏لایتمّ أصلاً ، وذلک یتوقّف علی بیان المراد من قولهم : «الذاتی لایعلّل» لیظهر‏‎ ‎‏الحال ویرتفع الإشکال .‏

فنقول‏ : المراد بالذاتی المذکور فی هذه الجملـة ـ قبالاً للعرضی ـ هو‏‎ ‎‏الذاتی المتداول فی باب البرهان ، وهو ما لایمکن انفکاکـه عن الذات ، سواء کان‏‎ ‎‏من أجزاء الماهیـة أو خارجاً عنها ملازماً لها .‏

‏والوجـه فی عدم کونها معلّلـة وکونها مستغنیـة عن العلّـة هو أنّ مناط‏‎ ‎‏الافتقار والاحتیاج إلیها هو الإمکان المساوق لتساوی الطرفین ، من دون ترجیح‏‎ ‎‏لأحدهما علی الآخر ؛ ضرورة أنّ الواجب والممتنع مستغنیان عن العلّـة ؛ لکون‏‎ ‎‏الوجود للأوّل والعدم للثانی ضروریاً لایمکن الانفکاک عنهما .‏

وبالجملـة‏ : فالمفهوم إذا قیس ولوحظ مع شیء آخر فإمّا أن یکون ذلک‏‎ ‎‏الشیء ضروری الثبوت لـه ، أو ضروری العدم لـه ، أو لا ضروری الثبوت ولا‏‎ ‎‏ضروری اللاثبوت لـه ، فإذا فرض کونـه ضروری الثبوت لـه ـ کالوجود بالنسبـة‏‎ ‎‏إلی الواجب تعالی ، وکأجزاء الماهیـة ولوازمها بالنسبـة إلیها ـ فلایعقل أن یکون‏‎ ‎‏فی اتصافـه بذلک الشیء مفتقراً إلی العلّـة ، وکذلک لو فرض کونـه ضروری‏‎ ‎‏اللاثبوت لـه ـ کالوجود بالنسبـة إلی شریک الباری ـ وأمّا لو فرض کون ثبوتـه‏‎ ‎‏لـه وعدمـه متساویـین بلاترجیح لأحدهما علی الآخر فهو الذی یحتاج إلی علّـة‏‎ ‎‏مرجّحـة ؛ لأنّ ترجّح أحد الطرفین علی الآخر بذاتـه مستحیل بداهـة ، ولایقول‏‎ ‎‏بـه أحد ، حتّی القائلین بجواز الترجیح من دون مرجّح .‏

فانقدح‏ : أنّ مناط الافتقار هو الإمکان ، ومن الواضح أنّ جمیع الموجودات‏‎ ‎‏عدا واجب الوجود ـ عزّ شأنـه ـ لا مناص لهم من الاتصاف بالإمکان ، فالوجود‏‎ ‎‏فیهم وجود إمکانی معلول ، فلایکون ذاتیاً لهم ؛ للاحتیاج إلی العلّـة .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 387
‏نعم ، قد عرفت : أنّ ثبوت أجزاء الماهیـة ولوازمها لذاتها ممّا لایحتاج إلی‏‎ ‎‏الجعل والعلّـة ، إلاّ أنّـه قد قرّر فی محلّـه‏‎[3]‎‏ أنّ الماهیات اُمور اعتباریـة ینتزعها‏‎ ‎‏العقل بعد ملاحظـة الوجودات ، وهی محرومـة عن الجعل ممنوعـة عنـه ، ولا‏‎ ‎‏تکون منشأ للآثار ، ولا علّیـة ولا معلولیـة بینها أصلاً .‏

إذا عرفت ذلک فاعلم‏ : أنّ السعادة والشقاوة هل هما من سنخ الوجودات أو‏‎ ‎‏من قبیل لوازم الماهیات ، فعلی الأوّل لایعقل کونهما من الذاتیات ؛ لما عرفت من‏‎ ‎‏أنّ الوجود فی غیر الواجب تعالی وجود إمکانی محتاج إلی الجعل . ودعوی‏‎ ‎‏کونهما ذاتیین تنافی ما قامت علیـه البراهین القاطعـة والأدلّـة الساطعـة من‏‎ ‎‏وحدة الواجب تعالی . وعلی الثانی لایکونان منشأ للآثار . فاختیار الکفر‏‎ ‎‏والعصیان ، وکذا الإرادة التی هی أمر وجودی لایعقل أن یکون مستنداً إلی الذات‏‎ ‎‏والذاتیات التی هی اُمور اعتباری ومخترعات عقلی .‏

‏فالحقّ أنّهما من الاُمور الاعتباریـة المنتزعـة عن فعل القربات ، وارتکاب‏‎ ‎‏المبعّدات ، ولایکونان من الذاتیات أصلاً ، کما هو واضح لایخفی .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 388

  • )) کفایـة الاُصول : 298 ـ 301 .
  • )) الحکمـة المتعالیـة 3 : 49 ـ 56 ، شرح المنظومـة ، قسم الحکمـة : 77 ـ 79 .
  • )) الحکمـة المتعالیـة 1 : 38 ـ 75 و396 ـ 423 ، شرح المنظومـة ، قسم الحکمـة : 10 ـ 15 .