هل یمکن عدّ مسألـة ا‏لتجرّی من ا‏لمسائل ا‏لفقهیة‏؟

هل یمکن عدّ مسألـة التجرّی من المسائل الفقهیـة ؟

‏ ‏

ثمّ‏ إنّـه قد استشکل فی جعل النزاع فی حرمـة التجرّی ؛ بحیث صار من‏‎ ‎‏المسائل الفقهیـة بوجهین :‏

أحدهما‏ : ما ذکره فی «الکفایـة» من أنّ الفعل المتجرّی بـه أو المنقاد بـه بما‏‎ ‎‏هو مقطوع الحرمـة أو الوجوب لایکون اختیاریاً ، فإنّ القاطع لایقصده إلاّ بما قطع‏‎ ‎‏أنّـه علیـه من عنوانـه الواقعی الاستقلالی ، لابعنوانـه الطارئ الآلی ، بل لایکون‏‎ ‎‏غالباً بهذا العنوان ممّا یلتفت إلیـه .‏

‏فکیف یکون من جهات الحسن أو القبح عقلاً ، ومن مناطات الوجوب أو‏‎ ‎‏الحرمـة شرعاً ، ولایکاد یکون صفـة موجبـة لذلک إلاّ إذا کانت اختیاریـة . وزاد‏‎ ‎‏فی ذیل کلامـه : أنّ المتجرّی قد لایصدر منـه فعل بالاختیار ، کما فی التجرّی‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 378
‏بارتکاب ما قطع أنّـه من مصادیق الخمر‏‎[1]‎‏ .‏

ویرد علیـه‏ : وضوح إمکان الالتفات إلی العلم ؛ لأنّـه لیس من العناوین‏‎ ‎‏التی لایمکن الالتفات إلیها ، کعنوان التجرّی مثلاً ؛ حیث إنّ التوجّـه والالتفات‏‎ ‎‏إلیـه یخرج الملتفت عن کونـه متجرّیاً ، کما هو واضح . وأمّا العلم ونظائره من‏‎ ‎‏العناوین ـ کعنوان القصد ـ فیمکن الالتفات إلیـه .‏

‏وحینئذٍ فلا إشکال فی اختصاص الخطاب بـه ، فإنّ العالم بالخمر ـ بعدما‏‎ ‎‏التفت إلی أنّ معلومـه بما أنّـه معلوم یکون موضوعاً للحرمـة ـ یتوجّـه بالتوجّـه‏‎ ‎‏الثانوی إلی علمـه ، توجّهاً استقلالیاً . ویدلّ علی ذلک وقوع العلم فی الشریعـة‏‎ ‎‏متعلّقاً للأحکام کثیراً ، کقولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«کلّ شیء طاهر‏ ‏، حتّی تعلم أنّـه قذر»‎[2]‎‏ .‏

‏وأمّا ما أفاده فی ذیل کلامـه ففساده أظهر من أن یخفی ؛ ضرورة أنّ شرب‏‎ ‎‏المایع فی المثال کان اختیاریاً لـه بلا إشکال ؛ ولذا یترتّب علیـه بطلان الصوم‏‎ ‎‏ونظائره ، کما لایخفی .‏

ثانیهما‏ : ما فی تقریرات المحقّق المتقدّم من أنّ توجیـه الخطاب بمثل‏‎ ‎‏«لاتشرب معلوم الخمریـة» مستلزم لاجتماع المثلین فی نظر العالم دائماً ، وإن لم‏‎ ‎‏یلزم ذلک واقعاً ؛ لأنّ النسبـة بین الخمر الواقعی والخمر المعلوم هی العموم من‏‎ ‎‏وجـه ، وفی مادّة الاجتماع یتأکّد الحکمان ، کما فی مثل «أکرم العالم ، وأکرم‏‎ ‎‏الهاشمی» إلاّ أنّـه فی نظر العالم دائماً یلزم اجتماع المثلین ؛ لأنّ العالم لایحتمل‏‎ ‎‏المخالفـة ، ودائماً یری مصادفـة علمـه للواقع ، فدائماً یجتمع فی نظره حکمان .‏

‏ولایصلح کلّ من هذین الحکمین لأن یکون داعیاً ومحرّکاً لإرادة العبد‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 379
‏بحیال ذاتـه ، فإنّـه لو فرض أنّ للخمر حکماً ، ولمعلوم الخمریـة أیضاً حکماً‏‎ ‎‏فبمجرّد العلم بخمریـة شیء یعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، الذی فرض أنّـه رتّب‏‎ ‎‏علی ذات الخمر ، فیکون هو المحرّک والباعث للاجتناب ، والحکم الآخر المترتّب‏‎ ‎‏علی معلوم الخمریـة لایصلح لأن یکون باعثاً ، ویلزم لغویتـه . ولیس لـه مورد‏‎ ‎‏آخر یمکن استقلالـه فی الباعثیـة ، فإنّ العلم بالخمریـة دائماً ملازم للعلم بوجوب‏‎ ‎‏الاجتناب عنـه ، المترتّب علی الخمر الواقعی ، وذلک واضح بعدما کان العالم‏‎ ‎‏لایحتمل المخالفـة . فتوجیـه خطاب آخر علی معلوم الخمریـة لایصحّ‏‎[3]‎‏ . انتهی .‏

وفیـه ما لایخفی‏ ؛ لأنّ تعلّق الحکمین بالخمر الواقعی وبمعلوم الخمریـة‏‎ ‎‏لایکاد یکون مستلزماً لاجتماع المثلین ، بعد وضوح کون النسبـة بین المتعلّقین‏‎ ‎‏هی العموم من وجـه . ومجرّد اجتماعهما فی نظر القاطع لایوجب اجتماع المثلین‏‎ ‎‏عنده ، بعد ثبوت الاختلاف بین المفهومین فی نظر القاطع أیضاً ؛ لأنّـه لایری إلاّ‏‎ ‎‏مصادفـة قطعـه للواقع ، وهذا لایستلزم اتحاد المفهومین فی عالم المفهومیـة ،‏‎ ‎‏الذی هو عالم تعلّق الأحکام ، کما حقّقناه فی المباحث السابقـة بما لا مزید‏‎ ‎‏علیـه .‏

‏مضافاً إلی أنّ الحکم لاینحصر بهذا القاطع ؛ ضرورة اشتراک الکلّ فی‏‎ ‎‏الأحکام ، فهذا القاطع ـ مع أنّـه یری مصادفـة قطعـه للواقع ، المستلزمـة لاجتماع‏‎ ‎‏المثلین عنده ، بناءً علی ما ذکره ‏‏قدس سره‏‏ ـ یحتمل الخطأ بالنسبـة إلی القاطع الآخر ،‏‎ ‎‏فلم یجتمع الحکمان بالنسبـة إلیـه فی نظر هذا القاطع ، کما هو واضح .‏

‏وأمّا ما ذکره من عدم صلاحیـة کلّ من الحکمین لأن یکون داعیاً ومحرّکاً‏‎ ‎‏فیرد علیـه وضوح أنّ المکلّف قد لاینبعث بأمر واحد ، وینبعث بأمرین أو أکثر .‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 380
‏ومجرّد تحقّق الإطاعـة بترک فعل واحد والعصیان بإتیانـه لایوجب اللغویـة بعد‏‎ ‎‏وجود مادّة الافتراق بینهما ، کما لایخفی .‏

‏هذا ، ولکن الظاهر عدم کون النزاع فی حرمـة التجرّی ؛ لأنّ تعلّق الحرمـة‏‎ ‎‏بعنوانـه قد عرفت بطلانـه ، وتعلّقـه بمعلوم الخمریـة مقیّداً بعدم مصادفـة العلم‏‎ ‎‏للواقع ـ مضافاً إلی استحالتـه ـ ممنوع ؛ لعدم اختصاص ملاک التحریم بـه ، فلابدّ‏‎ ‎‏من أن یکون متعلّقاً بمعلوم الخمریـة مطلقاً ، ومن غیر تقیید . وتعلّقـه بـه مستلزم‏‎ ‎‏للتسلسل ؛ لأنّ تعلّق الحرمـة بمعلوم الخمریـة معلوم أیضاً ، فیتحقّق نهی آخر‏‎ ‎‏متعلّق بمعلوم الحرمـة ، وتعلّق النهی الثانی بـه أیضاً معلوم ، فیتحقّق نهی آخر ،‏‎ ‎‏إلی ما لا نهایـة لـه ، وهذا ممّا یقطع بخلافـه .‏

فانقدح‏ : أنّ المسألـة عقلیـة کلامیـة ، یکون محلّ النزاع فیها هو حکم‏‎ ‎‏العقل باستحقاق المتجرّی للعقاب وعدمـه ، فلا تغفل .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 381

  • )) کفایـة الاُصول : 299 ـ 302 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 284 / 832 ، وسائل الشیعـة 3 : 467 ، کتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحدیث 4 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 45 ـ 46 .