ا‏لمقام ا‏لأوّل‏: فی تخصیص ا‏لعامّ با‏لمفهوم ا‏لموافق

المقام الأوّل : فی تخصیص العامّ بالمفهوم الموافق

‏ ‏

‏هل یجوز تخصیص العامّ بمفهوم الموافقـة أم لا ؟ وقد ادّعی الإجماع علی‏‎ ‎‏الجواز‏‎[1]‎‏ ، ولکنّـه لایفید فی المسألـة الغیر الشرعیـة ، سواء کانت عقلیّـة أو‏‎ ‎‏عرفیّـة .‏

‏ولابدّ قبل الورود فی محلّ البحث من بیان المراد بمفهوم الموافقـة بعد‏‎ ‎‏ظهور أ نّـه عبارة عن القضیّـة الموافقـة للمنطوق فی الإیجاب والسلب .‏

فنقول‏ : یحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یعبّرون عنـه بإلغاء الخصوصیـة ،‏‎ ‎‏ومرجعـه إلی أنّ الخصوصیّـة المذکورة فی الکلام ممّا لایریٰ لها العرف مدخلیـة‏‎ ‎‏فی ترتّب الحکم بحیث یکون الکلام بنفسـه دالاًّ علیٰ ثبوت الحکم مع انتفاء‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 323
‏الخصوصیـة أیضاً ، مثل قولـه : رجل شکّ بین الثلاث والأربع فعلیـه کذا ، فإنّ‏‎ ‎‏العرف لایفهم منـه اختصاص الحکم بالرجل ، بل یری أنّ ذکره إنّما هو من باب‏‎ ‎‏المثال ، وإلاّ فالمقصود هو المصلّی الذی شکّ بین الثلاث والأربع ، سواء کان رجلاً‏‎ ‎‏أو امرأة .‏

‏ویحتمل أن یکون المراد بـه هو الذی یکون الغرض من إلقاء الکلام إفادتـه‏‎ ‎‏إلی المخاطب ، غایـة الأمر أ نّـه کنّی عنـه بشیء آخر ، ویمکن أن یکون قولـه‏‎ ‎‏تعالیٰ : ‏‏«‏فلاتقل لهما أُفّ‏»‏‎[2]‎‏ من هذا القبیل ، بناءً علی أن لایکون المقصود بـه‏‎ ‎‏هو حرمـة قول «أُفّ» بل الإتیان بـه إنّما هو من باب الکنایـة وإفهام حرمـة‏‎ ‎‏الاُمور الاُخر من الضرب والشتم وغیرهما ، وهذا لاینافی عدم حرمـة ذلک القول ،‏‎ ‎‏کما فی نظائره من أمثلـة الکنایـة .‏

‏ویحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یکون الکلام مسوقاً لإفادتـه أیضاً ،‏‎ ‎‏کالمنطوق ، غایـة الأمر أ نّـه أتیٰ بالفرد الخفی تنبیهاً علی الفرد الجلیّ ، فهما معاً‏‎ ‎‏مقصودان بالإفادة إلاّ أ نّـه اقتصر علی الأوّل مع دخول الثانی فی المراد أیضاً .‏

‏ویمکن أن تکون الآیـة الشریفـة من هذا القبیل ، کما لایخفیٰ .‏

‏ویحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یستفاد من المنطوق بالأولویـة القطعیـة‏‎ ‎‏من غیر أن یکون الکلام مسوقاً لإفادتـه ، والآیـة الشریفـة تحتمل هذا المعنی‏‎ ‎‏أیضاً .‏

‏ویحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یستفاد من العلّـة المنصوصـة فی‏‎ ‎‏المنطوق ، کقولـه : لا تشرب الخمر ؛ لأنّـه مسکر ، فإنّـه یستفاد منـه حرمـة شرب‏‎ ‎‏النبیذ المسکر أیضاً ؛ لأنّ الظاهر من القضیّـة کون تمام العلّـة هو المسکریّـة ، لا‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 324
‏أ نّـه جزء الموضوع ، والخمریـة جزء آخر ، ویعبّر عنـه بمنصوص العلّـة ، وإطلاق‏‎ ‎‏المفهوم علیـه بعید .‏

‏ثمّ إنّ هذه الاحتمالات التی ذکرنا لیس من قبیل مانعـة الجمع ، بل علیٰ‏‎ ‎‏سبیل منع الخلوّ ، فیمکن أن یکون المراد بمفهوم الموافقـة هو الأمر الجامع بینهما ،‏‎ ‎‏وهو القضیّـة الخارجـة عن محلّ النطق المشترکـة فی الإیجاب والسلب .‏

إذا عرفت ذلک‏ : فاعلم أ نّـه لو کان المراد بمفهوم الموافقـة هو الاحتمال‏‎ ‎‏الراجع إلی إلغاء الخصوصیـة ، فلا إشکال فی تقدیمـه علی العامّ إذا کان أخصّ‏‎ ‎‏منـه ؛ لأنّـه بنظر العرف مفاد نفس الکلام الملقی إلیهم ، ولایحتاج فی استفادتـه‏‎ ‎‏إلی إعمال حکم العقل أیضاً ، وکذا لو کان المراد بـه هو الاحتمال الثانی أو الثالث‏‎ ‎‏أو الأخیر ؛ لأنّـه فی جمیع الصور مستفاد من نفس الکلام کما لایخفیٰ فی‏‎ ‎‏الأوّلین .‏

‏وأمّا الأخیر فلأنّ التعلیل لایتمّ بدون انضمام کبریٰ کلّیـة مطویّـة ؛ فإنّـه لو‏‎ ‎‏لم یکن «کلّ مسکر حرام» لما یصحّ تعلیل الحرمـة فی الخمر بأ نّـه مسکر‏‎ ‎‏فالکبری التی یکون مورد المفهوم من صغریاتها ، مستفادة من نفس الکلام‏‎ ‎‏ولایحتاج إلیٰ شیء آخر اصلاً .‏

‏وأمّا لو کان المراد بـه هو الاحتمال الرابع الذی مرجعـه إلی استفادتـه من‏‎ ‎‏القضیّـة المنطوقیـة بضمیمـة حکم العقل بالأولویـة القطعیـة ، فقد یقال ـ کما فی‏‎ ‎‏تقریرات المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ ـ بأ نّـه لایعقل أن یکون المفهوم معارضاً للعامّ من‏‎ ‎‏دون معارضـة منطوقـه ؛ لأنّا فرضنا أنّ المفهوم موافق للمنطوق ، وأ نّـه یستفاد‏‎ ‎‏حکمـه منـه ، فکیف یعقل أن یکون المنطوق أجنبیّاً عن العامّ وغیر معارض لـه مع‏‎ ‎‏کون المفهوم معارضاً ؟ ! فالتعارض یقع ابتداء بین المنطوق والعامّ ، ویتبعـه وقوعـه‏‎ ‎‏بین المفهوم والعامّ ، وحینئذٍ فلابدّ أوّلاً من علاج التعارض بین المنطوق والعامّ ،‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 325
‏ویلزمـه العلاج بین المفهوم والعامّ‏‎[3]‎‏ .‏

أقول‏ : هذه الدعویٰ بنحو الکلّیـة ممنوعـة ؛ لعدم التلازم بین کون المفهوم‏‎ ‎‏معارضاً للعامّ وکون المنطوق أیضاً کذلک ، بل یمکن الانفکاک بینهما فی بعض‏‎ ‎‏الموارد .‏

مثالـه‏ : ما لو قال : لا تکرم العلماء ، ثمّ قال : أکرم جهّال خدّام النحویّین ،‏‎ ‎‏فإنّ المنطوق فی المثال لایعارض العامّ ؛ لأنّ الجهّال غیر داخل فی العلماء مع أنّ‏‎ ‎‏المفهوم ـ وهو وجوب إکرام علماء خدّام النحویّین ، وکذا إکرام النحویّین ـ معارض‏‎ ‎‏للعامّ ، کما هو واضح .‏

‏وحینئذٍ فالموارد مختلفـة ، فلو کانت المعارضـة بین المنطوق والعامّ أیضاً ،‏‎ ‎‏فلابدّ أوّلاً من علاج التعارض بینـه وبین العامّ ، ویلزمـه العلاج بین المفهوم‏‎ ‎‏والعامّ .‏

‏وأمّا لو کانت المعارضـة منحصرةً بالمفهوم ، فقد یقال فی وجـه ترجیحـه‏‎ ‎‏علی العامّ ولو کان التعارض بالعموم والخصوص من وجـه : بأنّ الأمر هنا یدور‏‎ ‎‏بین رفع الید عن العموم وتخصیصـه بالمفهوم ، وبین رفع الید عن المنطوق‏‎ ‎‏المستلزم للمفهوم عقلاً ، وبین رفع الید عن المفهوم مع ثبوت الحکم فی المنطوق ،‏‎ ‎‏والثانی لا سبیل إلیـه بعد کون المنطوق أجنبیّاً عن العامّ ، وغیر معارض لـه ، کما‏‎ ‎‏هو المفروض ، والثالث کذلک ؛ لأنّ رفع الید عن خصوص المفهوم یوجب نفی‏‎ ‎‏الملازمـة ورفع الید عنها مع کونها عقلیّةً قطعیّةً ، فینحصر فی الأوّل الذی مرجعـه‏‎ ‎‏إلی رفع الید عن ظهور لفظی .‏

ولکن لایخفیٰ‏ : أنّ الملازمـة تقتضی عدم الانفکاک بین المنطوق والمفهوم ،‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 326
‏فإذا کانت المعارضـة بین المفهوم والعامّ ، فالملازمـة بین المنطوق والمفهوم‏‎ ‎‏توجب سرایتها إلیـه ، وکونـه معارضاً للعامّ بالتبع ، وحینئذٍ فلابأس بتقدیم العامّ‏‎ ‎‏علی المفهوم ، والحکم برفع الید عن المنطوق أیضاً بسبب الملازمـة ، فلم یستلزم‏‎ ‎‏تقدیم العامّ علی المفهوم الإخلال بالملازمـة ، وکذا رفع الید عن المنطوق بلا‏‎ ‎‏وجـه أمّا الأوّل : فواضح ، وأمّا الثانی : فلأنّ رفع الید عنـه إنّما هو لرفع الید عن‏‎ ‎‏المفهوم الملازم لـه ، کما لایخفیٰ .‏

‏هذا کلّـه فی المفهوم الموافق .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 327

  • )) قوانین الاُصول 1 : 304 / السطر 5 ، کفایـة الاُصول : 272 .
  • )) الإسراء (17) : 23 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 556 .