تحقیق‏: فی ا‏لقضایا ا‏لحقیقیة

تحقیق : فی القضایا الحقیقیّـة

‏ ‏

فنقول‏ : القضایا الحقیقیـة هی القضایا التی یکون الحکم فیها مترتّباً علیٰ‏‎ ‎‏جمیع أفراد الطبیعـة من غیر اختصاص بالأفراد الموجودة خارجاً ، بل کلّ فرد‏‎ ‎‏وُجد مصداقاً لها یترتّب علیـه الحکم ، فإذا قال : کلّ نار حارّة ، فقد جعل الموضوع‏‎ ‎‏هو جمیع أفراد النار أعمّ من الموجودة والمعدومـة ، وذلک لما عرفت سابقاً من أنّ‏‎ ‎‏لفظـة «النار» وکذا سائر الأسماء الموضوعـة للطبیعـة المطلقـة إنّما تدلّ بالوضع‏‎ ‎‏علیٰ نفس الطبیعـة الموضوعـة بإزائها . وکما لایمکن أن تکون الطبیعـة مرآةً‏‎ ‎‏للأفراد والخصوصیّات ، کذلک لایحکی اللّفظ الموضوع بإزائها إلاّ عن نفس‏‎ ‎‏الطبیعـة المجرّدة عن القیود التی منها نفس الوجود ، فکلمـة «النار» حاکیـة عن‏‎ ‎‏نفس ماهیّتها التی هی مقسم للموجودیـة والمعدومیـة .‏

‏وأمّا کلمـة «کلّ» المضافـة إلیها : فقد عرفت سابقاً أ نّها موضوعـة لإفادة‏‎ ‎‏استیعاب أفراد مدخولها ، ولا دلالـة لها علیٰ خصوص الأفراد الموجودة ، بل‏‎ ‎‏مدلولها هو استیعاب الأفراد التی تقبل الاتّصاف بالوجود تارةً وبالعدم اُخریٰ ،‏‎ ‎‏وبهما ثالثةً ، فیقال : أفراد الطبیعة بعضها موجود وبعضها معدوم ، فظهر عدم‏‎ ‎‏اختصاص مدلولها أیضاً بالأفراد الموجودة ، ومن المعلوم أنّ إضافـة کلمـة «کلّ»‏‎ ‎‏إلی اللّفظ الموضوع لنفس الطبیعـة المطلقـة لا تدلّ علی أمر وراء استیعاب أفراد‏‎ ‎‏تلک الطبیعـة الواقعـة مدخولـة لها ، فالموضوع فی أمثال تلک القضایا إنّما هو‏‎ ‎‏جمیع أفراد الطبیعـة بما أ نّها مصداق لها ، فقولـه : أکرم کلّ عالم ، یکون الموضوع‏‎ ‎‏فیـه هو إکرام کلّ عالم بما أ نّـه مصداق لطبیعـة لابما أ نّـه زید أو عمرو أو بکر مثلاً .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 314
‏ولذا قد اشتهر بین أهل الفن أنّ القضیّـة الحقیقیّـة برزخ بین الطبیعـة‏‎ ‎‏الصرفـة والکثرة المحضـة ؛ إذ لایکون الموضوع فیها هی نفس الطبیعـة ؛ لوضوح‏‎ ‎‏الفرق بینها وبین القضیّـة الطبیعیّـة ، ولا الکثرة المحضـة ؛ لعدم ملاحظـة‏‎ ‎‏الکثرات ، بل لایعقل ذلک فی جمیع أفراد الطبیعـة ، کما هو واضح ، بل الموضوع‏‎ ‎‏فیها هو عنوان کلّ عالم مثلاً ، الذی هو عنوان إجمالی لأفراد طبیعـة العالم .‏

هذا‏ ‏، ولایتوهّم ممّا ذکرنا‏ : من أنّ الحکم علیٰ جمیع الأفراد أعمّ من‏‎ ‎‏الموجودة والمعدومـة أنّ ذلک مستلزم لإثبات شیء علی المعدوم فی حال عدمـه ؛‏‎ ‎‏لأنّ المعدوم لایکون شیئاً حتّیٰ یکون فرداً للماهیـة ، فما دام لم تنصبغ الماهیّـة‏‎ ‎‏بصبغـة الموجود لا تکون ماهیّةً أصلاً ، فالنار المعدوم بالفعل لا تکون ناراً حتّیٰ‏‎ ‎‏یترتّب علیها الحکم المترتّب علیٰ جمیع أفراد النار ، فاعتبار الوجود فی ترتّب‏‎ ‎‏الحکم علیـه إنّما هو لعدم کونـه مصداقاً لها بدون ذلک ، لا لکون الاتّصاف بـه‏‎ ‎‏مأخوذاً فی الموضوع ، کیف وقد عرفت أ نّـه لیس فی الموضوع ما یدلّ علی‏‎ ‎‏الاختصاص بالأفراد الموجودة .‏

وممّا ذکرنا ظهر‏ : أنّ ما وقع فی التقریرات المنسوبـة إلی المحقّق النائینی‏‎ ‎‏من تفسیر القضیّـة الحقیقیـة بما إذا لوحظ الأفراد المعدومـة بمنزلـة الأفراد‏‎ ‎‏الموجودة تنزیلاً للمعدوم منزلـة الموجود ثمّ جعلها موضوعاً للحکم‏‎[1]‎‏ ، ممّا‏‎ ‎‏لایرتبط بمعنی القضیّـة الحقیقیّـة المذکورة فی فنّها ، بل الوجدان أیضاً یأبیٰ عن‏‎ ‎‏ذلک ؛ لأنّا لا نریٰ فی أنفسنا حین إلقاء هذا النحو من القضایا فرض المعدومین‏‎ ‎‏بمنزلـة الموجودین ، وتنزیلهم منزلتهم ، کما لایخفیٰ .‏

إذا عرفت ذلک‏ : فاعلم أنّ القوانین المجعولـة فی العالم التی یوضعها العقلاء‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 315
‏المقنّنین لها إنّما هو علیٰ هذا النحو الذی عرفت ؛ لأنّ بناءهم علیٰ جعلها لیعمل بها‏‎ ‎‏الأفراد ، وأکثرها خالیـة عن المخاطبـة ، والقانون الإسلامی المجعول فی شریعتنا‏‎ ‎‏إنّما هو علیٰ هذا النحو مع خصوصیّـة زائدة ، وهو عدم إمکان المخاطبـة فیـه‏‎ ‎‏بالنسبـة إلی الناس ، ضرورة عدم قابلیّـة البشر العادی لأن یصیر مخاطباً للّٰـه‏‎ ‎‏تعالیٰ ؛ إذ طریق ذلک الوحی ، وهو منحصر بالأنبیاء العظام  ‏‏علیهم السلام‏‏ وباقی الناس أبعد‏‎ ‎‏من هذه المرحلـة بمراحل ، وإظهار الوحی الجاری بلسان الرسول ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ إنّما هو‏‎ ‎‏علیٰ طریق التبلیغ لابنحو المخاطبـة ، فالخطاب بنحو ‏‏«‏یا أیّها الذین آمنوا أوفوا‎ ‎بالعقود‏»‏‎[2]‎‏ مثلاً لایکون المخاطب فیها أحد من المؤمنین أصلاً ، بل إنّما هو‏‎ ‎‏خطاب کتبی حفظ بالکتب لیعمل بـه کلّ مَنْ نظر إلیـه ، نظیر الخطابات الواقعـة‏‎ ‎‏فی قوانین العقلاء المکتوبـة المنتشرة بین الناس لیطّلعوا علیها فیعملوا بها .‏

ومن هنا یظهر‏ : أنّ هذه الخطابات الواقعـة فی الشریعـة لاتشمل الحاضرین‏‎ ‎‏أیضاً بنحو یکونوا هم المخاطبین فضلاً عن أن تکون منحصرةً بهم أو عامّةً لجمیع‏‎ ‎‏المکلّفین ، والتعبیر بالخطابات الشفاهیة أیضاً مسامحة ؛ لما عرفت من عدم کون‏‎ ‎‏واحد من المکلّفین مخاطباً بها أصلاً ، بل إنّما هی قوانین کلّیـة بصورة المخاطبـة‏‎ ‎‏أوحی اللّٰه تعالیٰ بها نبیّه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ وهو بلّغها إلی الناس کما اُنزلت علیٰ قلبه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 316

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 550 .
  • )) المائدة (5) : 1 .