فی منشأ ا‏لفرق بین مُرادَی ا‏لأمر وا‏لنهی

فی منشأ الفرق بین مُرادَی الأمر والنهی

‏ ‏

‏ثمّ إنّـه لا إشکال عند العقلاء فی ثبوت الفرق بین الأوامر والنواهی بکفایـة‏‎ ‎‏الإتیان بفرد من الطبیعـة المأمور بها فی تحقّق امتثال الأمر المتعلّق بـه وسقوطـه ؛‏‎ ‎‏لحصول الغرض ، وهو تحقّقها بإیجاد فرد منها فی الخارج ، وأنّـه لایحصل الغرض‏‎ ‎‏بتمامـه إلاّ بترک جمیع أفراد الطبیعـة المنهی عنها فی باب النواهی ، إنّما الإشکال‏‎ ‎‏فی وجـه الفرق ، فقد یقال بأنّ الحاکم بـه إنّما هو العقل ؛ نظراً إلی أنّ وجود‏‎ ‎‏الطبیعـة إنّما هو بوجود فرد واحد ، وعدمها لایکاد یتحقّق إلاّ بعد انعدام جمیع‏‎ ‎‏الأفراد‏‎[1]‎‏ .‏

هذا‏ ‏، ولکن لایخفیٰ‏ : أنّ هذا الکلام بمعزل عن التحقیق ؛ فإنّ معنیٰ تحقّق‏‎ ‎‏الطبیعـة بوجود فرد ما کون کلّ واحد من الأفراد هو تمام تلک الطبیعـة ، ولاینقص‏‎ ‎‏عنها أصلاً ؛ إذ لو کانت الطبیعـة متحصّصـة بحصص عدیدة حسب تعدّد الأفراد ،‏‎ ‎‏لکان وجودها فی الخارج متوقّفاً علیٰ وجود جمیع الأفراد ؛ لکی یتحصّل جمیع‏‎ ‎‏الحصص ، فوجودها بوجود فرد واحد مساوق لکون کلّ فرد تمام طبیعتـه ، فزید‏‎ ‎‏تمام الإنسان ، وکذا عمرو ، وبکر ، فإذا کان وجود زید کافیاً فی وجود حقیقـة‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 166
‏الإنسان فکیف یعقل أن لایکون عدمـه کافیاً فی عدمها ، وهل هذا إلاّ المناقضـة‏‎ ‎‏فی القول من غیر التفات ؟‏

‏وتوهّم أنّ لازم ما ذکر کون طبیعـة واحدة موجودةً ومعدومةً معاً فیما إذا‏‎ ‎‏وجد زید وعدم عمرو ، مع أنّ ذلک غیر معقول ، یدفعـه أنّ الطبیعـة إنّما تتکثّر‏‎ ‎‏حسب تکثّر الأفراد ، فزید وعمرو إنسانان لا إنسان واحد ، وحینئذٍ فلابأس‏‎ ‎‏باتّصافها بالوجود من ناحیـة وجود بعض الأفراد وبالعدم من قِبَل انعدام بعضها‏‎ ‎‏الآخر ، کما أنّـه یتّصف بالبیاض والسواد ، وبالطول والقصر ، وبالحرکـة‏‎ ‎‏والسکون ، وبالقیام والقعود فی آنٍ واحد ، ولیس ذلک إلاّ لکونـه متکثّراً ومتعدّداً‏‎ ‎‏حسب تکثّر الوجودات وتعدّد الأفراد .‏

فالإنصاف‏ : أنّـه لا فرق بین وجود الطبیعـة وعدمها من هذه الحیثیـة فی‏‎ ‎‏نظر العقل أصلاً ، وکما أنّ وجود بعض الأفراد یکفی فی تحصّل الطبیعـة فکذلک‏‎ ‎‏عدمـه کافٍ فی انعدامها ، فاستناد الفرق بین الأوامر والنواهی إلی حکم العقل ممّا‏‎ ‎‏لا مجال لـه أصلاً ، کما لایخفیٰ ، کما أنّ دعویٰ کون ذلک مستنداً إلیٰ فهم العرف من‏‎ ‎‏الألفاظ بحسب معانیها اللغویـة وحقائقها التی وُضعت تلک الألفاظ بإزائها ممّا لم‏‎ ‎‏یعرف لـه وجـه ، کما هو واضح ، فانحصر أن یکون منشأ ذلک حکم العقلاء بذلک‏‎ ‎‏من غیر ارتباط لـه بباب الألفاظ .‏

‏ثمّ إنّ دلالـة النهی علی الزجر بعد المخالفـة أیضاً إنّما هو لکون مدلولـه‏‎ ‎‏هو الزجر عن الطبیعـة المتعلّقـة لـه ، لا العدم حتّیٰ یقال بأنّـه متیٰ تحقّقت‏‎ ‎‏المخالفـة فقد انتقض إلی الوجود ، ولا مجال لبقائـه بعد تحقّق عصیانـه ، بل النهی‏‎ ‎‏لأجل کونـه دالاًّ علی الزجر عن جمیع وجودات الطبیعـة ، لا مجال لسقوطـه‏‎ ‎‏بمجرّد تحقّق بعض وجوداتـه ، ولا دلیل علیٰ کون المخالفـة والعصیان مسقطاً .‏

‏نعم لو کان متعلّق النهی هو أوّل الطبیعـة ، فبمجرّد تحقّقـه یسقط ، لا لکون‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 167
‏المخالفـة من حیث هی مسقطاً ، بل لأجل أنّـه لایمکن امتثالـه فیما بعد أصلاً ؛‏‎ ‎‏لأنّ المفروض أنّ المبغوض إنّما هو أوّل وجود الطبیعـة ، وقد حصل ، وحینئذٍ فلو‏‎ ‎‏فرض عدم تقییده بذلک ـ کما فی أکثر النواهی ـ إذ المتعلّق فیها الطبیعـة بجمیع‏‎ ‎‏وجوداتها ، فلاوجـه لسقوطـه بعد تحقّقها ببعض وجوداتها ، فالنهی مع أنّـه تکلیف‏‎ ‎‏واحد وحکم فارد لـه عصیانات متعدّدة وإطاعات متکثّرة ، کما لایخفیٰ .‏

‏ثمّ إنّـه قد تصدّیٰ بعض من المحقّقین لإثبات بقاء النهی بکون مدلولـه علی‏‎ ‎‏نحو العموم الاستغراقی ، کما فی تقریرات المحقّق النائینی‏‎[2]‎‏ ، أو بکون المجعول‏‎ ‎‏هی الملازمـة بین طبیعی الطلب وطبیعی المتعلّق ، کما فی حاشیـة بعض‏‎ ‎‏المحقّقین فی محشّی الکفایـة‏‎[3]‎‏ .‏

‏ولکن کلّ ذلک ممّا لا دلیل علیـه ، لو لم نقل بثبوت الدلیل علی خلافـه .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 168

  • )) نفس المصدر : 182 ـ 183 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 395 .
  • )) نهایـة الدرایـة 2 : 290 ـ 291 .