ا‏لتنبیه ا‏لثا‏لث‏: فی منشأ عبادیة ا‏لطهارات

التنبیـه الثالث : فی منشأ عبادیّـة الطهارات

‏ ‏

‏والحقّ فی المقام أن یقال : إنّ عبادیـة الطهارات الثلاث لیست لأجل الأمر‏‎ ‎‏الغیری المتعلّق بها ، بل إنّما هو من جهـة قابلیتها وصلوحها للعبادة ، کما هو‏‎ ‎‏المسلّم من الشرع مع الإتیان بها للّٰـه وبداعی التقرّب إلیـه .‏

‏توضیحـه : أنّـه لایشترط فی عبادیـة الأشیاء تعلّق الأمر النفسی بها ، ولا‏‎ ‎‏الأمر الغیری ، بل یکفی فی صیرورة شیء عبادةً کونـه صالحاً لها مع الإتیان بها‏‎ ‎‏بداعی التقرّب ، ومن هنا یقال بعدم الفرق بین التیمّم الذی لایکون مورداً لفتوی‏‎ ‎‏الأصحاب باستحبابـه النفسی وبین الوضوء والغسل المستحبّین ، کما أفتوا بـه ،‏‎ ‎‏فإنّ مجرّد کونـه منطبقاً علیـه بعض العناوین الحسنـة فی حال الإتیان بـه مقدّمـة‏‎ ‎‏للصلاة یکفی فی صلاحیتها للعبادة فی ذلک الحال ، ولایشترط تعلّق الأمر بـه‏‎ ‎‏أصلاً ، وأمّا فی غیر ذلک الحال فعدم عبادیتـه إمّا لأجل عدم انطباق تلک العناوین‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 73
‏الحسنـة علیـه فی غیر ذلک الحال أو لمزاحمتها من بعض العناوین الغیر الحسنـة‏‎ ‎‏المخرجـة لـه عن العبادیـة ، کما لایخفیٰ .‏

‏والدلیل علیـه ما هو المرتکز فی أذهان المتشرّعـة عند الإتیان بالطهارات‏‎ ‎‏الثلاث ، فإنّهم لایلتفتون إلی استحبابها النفسی أصلاً .‏

وما ذکره فی الإشکال‏ : من کفایـة الإتیان بها بداعی الأمر الغیری المتعلّق‏‎ ‎‏بها إن اُرید الإتیان بها کالستر والاستقبال للصلاة بمعنیٰ أنّـه کما یکفی تحصیل‏‎ ‎‏الستر لأجل الصلاة کذلک یکفی مجرّد الإتیان بالوضوء لأجل الصلاة .‏

ففیـه‏ : أنّـه لایکون بینهما فرق حینئذٍ ، فیکون الوضوء باطلاً ، مضافاً إلیٰ ما‏‎ ‎‏نراه من المتشرّعـة من اختلاف نحوی الإتیان بالوضوء وبالستر عندهم ، فإنّ فی‏‎ ‎‏حال الإتیان بالأوّل لهم حالـة اُخریٰ لا توجد عند الإتیان بالثانی .‏

‏فظهر أنّ عبادیـة الطهارات الثلاث إنّما هو لکونها صالحةً للعبادة مع الإتیان‏‎ ‎‏بها بداعی القربـة من دون توقّف علی الأمر النفسی ولا الغیری أصلاً ، ولذا نقول‏‎ ‎‏کما قالوا : بعبادیـة التیمّم فی حال الإتیان بـه مقدّمـة للصلاة ، مع أنّـه لایکون‏‎ ‎‏متعلّقاً لأمر نفسی ، کما ذهبوا إلیـه ، ولا لأمر غیری ، کما سنحقّقـه من عدم وجوب‏‎ ‎‏المقدّمـة ، فانتظر .‏

‏ثمّ إنّ بما ذکرناه فی تحقیق عبادیـة الطهارات الثلاث یرتفع جمیع‏‎ ‎‏المحذورات المتقدّمـة والإیرادات السابقـة ، فإنّـه لایبقیٰ حینئذٍ مجال للإشکال‏‎ ‎‏فی ترتّب الثواب علیها ، فإنّ ترتّبـه علیها لیس لأجل تعلّق الأمر الغیری بها ، بل‏‎ ‎‏لکونها مطلوبةً نفساً وعبادةً ذاتاً ، والکلام إنّما هو بعد الفراغ عن ترتّب الثواب علی‏‎ ‎‏الواجبات النفسیـة ، فلا وجـه حینئذٍ للإشکال أصلاً ، کما هو واضح لایخفیٰ .‏

‏وکذا یرتفع بـه محذور الدور ، فإنّ الأمر الغیری وإن تعلّق بما تکون عبادةً ،‏‎ ‎‏إلاّ أنّ عبادیتها لا تتوقّف علی الأمر الغیری أصلاً ، کما ظهر بما حقّقناه لک .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 74
وما ذکره العراقی ‏قدس سره‏‏ فی دفع محذور ال‏دور‏ : من کلامـه المتقدّم‏‎[1]‎‏ وإن کان‏‎ ‎‏یکفی فی دفع ذلک المحذور إلاّ أنّـه لایرتفع بـه ما هی العمدة فی المقام من‏‎ ‎‏الإشکال ، وهو أنّـه کیف یمکن أن یکون الأمر الغیری مصحّحاً لعبادیـة متعلّقـه ؟ !‏‎ ‎‏کما لایخفیٰ ، کما أنّـه بما ذکرنا یرتفع سائر المحذورات ، فإنّک قد عرفت أنّ‏‎ ‎‏عبادیـة التیمّم لیس لأجل تعلّق الأمر النفسی الاستحبابی بـه حتّیٰ یقال بأنّهم‏‎ ‎‏لایقولون بـه ، وکذلک لایبقیٰ مجال للإشکال باستحالـة اجتماع الأمر الغیری مع‏‎ ‎‏الأمر النفسی علیٰ شیء واحد ، فإنّـه قد ظهر بما ذکرنا أنّ المأمور بـه بالأمر الأوّل‏‎ ‎‏هو ما یکون متعلّقاً للأمر الثانی بوصف کونـه کذلک ، وبعبارة اُخریٰ : العبادة‏‎ ‎‏المستحبّـة جُعلت مقدّمةً ومتعلّقةً للأمر الغیری ، نظیر ما إذا نذر الإتیان بصلاة‏‎ ‎‏اللیل مثلاً ، فإنّ الوفاء بالنذر وإن کان واجباً إلاّ أنّـه لاینافی استحباب صلاة اللیل‏‎ ‎‏ولایخرجها عنـه إلی الوجوب ، بل یجب علیـه الإتیان بها بما أنّها مستحبّـة ، کما‏‎ ‎‏لایخفیٰ .‏

‏وأمّا کفایـة الإتیان بالطهارات بداعی الأمر الغیری المتعلّق بها فقد عرفت‏‎ ‎‏ما فیـه من أنّـه لو کان المراد کفایـة الإتیان بها للصلاة ، فلا نسلّم صحّتها وکون‏‎ ‎‏الإجماع منعقداً علیها ؛ لما عرفت من الفرق عند المتشرّعـة فی مقام الإتیان بها أو‏‎ ‎‏بسائر المقدّمات غیر العبادیـة .‏

ثمّ إنّ ما یظهر من بعض‏ : من تصحیح عبادیـة الطهارات الثلاث مع قطع‏‎ ‎‏النظر عن تعلّق الأمر الغیری بها بأنّ الأمر المتعلّق بالصلاة ، کما أنّـه یدعو إلیٰ‏‎ ‎‏متعلّقها کذلک لـه نحو داعویـة إلیٰ مقدّماتها ، فعبادیـة الطهارات إنّما هو لاعتبار‏‎ ‎‏الإتیان بها بتلک الداعویـة ، لا کما ذکره النائینی ‏‏قدس سره‏‏ من انبساط الأمر النفسی علی‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75
‏المقدّمات أیضاً حتّیٰ تکون عبادیتها لأجل تعلّق الأمر النفسی الضمنی بذواتها‏‎[2]‎‏ ،‏‎ ‎‏بل نقول : إنّ متعلّق الأمر النفسی هی نفس الصلاة ، ولکن لایخلو من الداعویـة‏‎ ‎‏إلی المقدّمات أیضاً .‏

‏والفرق بین الطهارات وغیرها من المقدّمات أنّ المعتبر فی صحّتها الإتیان‏‎ ‎‏بها بتلک الداعویـة ، بخلاف سائر المقدّمات ، فإنّـه لایعتبر فی صحّتها هذا المعنیٰ .‏

‏نعم لو أتیٰ بها أیضاً بذلک الداعی تصیر عبادةً ، ویترتّب علیـه الثواب ، کما‏‎ ‎‏هو الشأن فی جمیع الواجبات التوصّلیّـة .‏

فجوابـه أظهر من أن یخفیٰ‏ ، فإنّـه کیف یمکن أن یکون الأمر المتعلّق‏‎ ‎‏بالصلاة داعیاً إلیٰ مقدّماتها مع ما ثبت من أنّ الأمر لایدعو إلاّ إلیٰ متعلّقـه ،‏‎ ‎‏والمفروض عدم کون المقدّمات متعلّقةً للأمر المتعلّق بذیها ، کما ذکره المحقّق‏‎ ‎‏النائینی ‏‏قدس سره‏‏ ودخول التقیّدات فی متعلّق الأمر النفسی لایستلزم کون القیود أیضاً‏‎ ‎‏کذلک ، وحینئذٍ فلا وجـه لکون الأمر بذی المقدّمـة داعیاً إلیها أصلاً ، کما هو أظهر‏‎ ‎‏من أن یخفیٰ .‏

‏فالتحقیق فی عبادیـة الطهارات الثلاث ما ذکرناه لک ، وعلیـه فکلّما توضّأ‏‎ ‎‏مثلاً بداعی الأمر الاستحبابی المتعلّق بـه سواء کان متعلّقاً للأمر الغیری أیضاً ـ کما‏‎ ‎‏إذا توضّأ بعد دخول الوقت ـ أو لم یکن ـ کما إذا توضّأ قبل دخولـه یکون وضوؤه‏‎ ‎‏صحیحاً یجوز الإتیان بجمیع الغایات المشروطـة بها ، کما أنّـه لو توضّأ بداعی‏‎ ‎‏الأمر الغیری فقط من دون التوجّـه إلیٰ عبادیتـه یکون فاسداً مطلقاً قبل الوقت‏‎ ‎‏وبعده .‏

‏ثمّ إنّـه قد اُجیب عن إشکال الطهارات الثلاث وأنّها کیف تکون عبادةً مع‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76
‏کونها متعلّقةً للأمر الغیری بوجوه شتّیٰ بعضها یرجع إلیٰ ما ذکرناه بنحو من‏‎ ‎‏التصرّف والتأویل ، وبعضها الآخر یظهر بطلانها ممّا ذکرنا فی هذا المقام ، وعلیک‏‎ ‎‏بالتأمّل التامّ فی کلمات الأعلام لیظهر لک الصحیح عن سقیم المرام ، فإنّ المقام‏‎ ‎‏من مزالّ الأقدام ، فتأمّل جیّداً .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77

  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 379 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 228 .