ا‏لأمر ا‏لأوّل : فی تحریر محل ا‏لنزاع

الأمر الأوّل فی تحریر محل النزاع

‏ ‏

‏وقبل الخوض فی تحریر محلّ النزاع وإقامـة الدلیل نمهِّد مقدّمةً ، وهی :‏‎ ‎‏أنّـه لا إشکال فی أنّـه إذا أراد الإنسان شیئاً لـه مقدّمـة أو مقدّمات فلا محالـة‏‎ ‎‏تتعلّق إرادة اُخریٰ بإتیان المقدّمات ، وهذه الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات لیست‏‎ ‎‏مترشّحةً من الإرادة المتعلّقـة بإتیان ذی المقدّمـة بمعنیٰ أنّـه کما تکون الإرادة‏‎ ‎‏علّةً فاعلیّة لتحقّق المراد فی الخارج کذلک تکون موجدةً لإرادة اُخریٰ مثلها‏‎ ‎‏متعلّقـة بمقدّمات المراد الأوّلی ، بل کما أنّ الإرادة المتعلّقـة بالغرض الأقصیٰ‏‎ ‎‏والمطلوب الأوّلی ـ کلقاء الصدیق مثلاً ـ مخلوقـة للنفس ومتحقّقـة بفعّالیتها‏‎ ‎‏کذلک الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات ـ کالذهاب إلیٰ داره مثلاً ـ موجدة بفاعلیـة‏‎ ‎‏النفس ، غایـة الأمر أنّ الاشتیاق الحاصل بالمراد إنّما هو متعلّق بنفس المراد فیما‏

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15
‏لو کان هو الغرض الأقصیٰ والمطلوب الأصلی ومتعلّق بما یکون المراد من‏‎ ‎‏شرائط وجود شیء آخر فیما لم یکن المراد هو المنظور إلیـه بالذات .‏

‏وبالجملـة فالفائدة المترتّبـة علی المراد ، التی هی من شرائط تحقّق‏‎ ‎‏الإرادة إنّما هی مترتّبـة علیٰ نفس المراد فی الصورة الاُولیٰ ، ومترتّبـة علیٰ شیء‏‎ ‎‏آخر یکون المراد دخیلاً فی تحقّقـه فی الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات .‏

‏هذا فیما لو کان الغرض الإتیان بالفعل بنفسـه ، وأمّا لو کان المقصود إتیان‏‎ ‎‏العبد بـه بتوسیط الأمر فهنا شیئان : البعث والتحریک الصادر من المولیٰ بسبب‏‎ ‎‏الأمر والإرادة المتعلّقـة بهذا البعث .‏

إذا عرفت ما ذکرنا‏ ‏، فنقول‏ : لایخفیٰ أنّ ما ذکره المحقّقین من الاُصولیّین من‏‎ ‎‏أنّ النزاع فی باب المقدّمـة إنّما هو فی الملازمـة لا فی وجوبها لتکون المسألـة‏‎ ‎‏فقهیّةً‏‎[1]‎‏ یحتمل أن یکون المراد بها الملازمة بین البعث الفعلی المتعلّق بذی‏‎ ‎‏المقدّمـة وبین البعث الفعلی نحو المقدّمـة ، وأن یکون المراد الملازمـة بینـه وبین‏‎ ‎‏البعث التقدیری نحو المقدّمـة بمعنیٰ أنّ المقدّمـة یتعلّق بها البعث فی الاستقبال‏‎ ‎‏لامحالـة وإن لم یتعلّق بها فعلاً ، وأن یکون المراد الملازمـة بین الإرادة الحتمیّـة‏‎ ‎‏الفعلیّـة المتعلّقـة بالبعث إلیٰ ذی المقدّمـة وبین الإرادة الفعلیّـة المتعلّقـة بالبعث‏‎ ‎‏إلی المقدّمـة ، وأن یکون المراد الملازمـة بینها وبین الإرادة التقدیریـة المتعلّقـة‏‎ ‎‏بالبعث إلی المقدّمـة .‏

‏وکلٌّ من هذه الاحتمالات المتصوّرة ممّا لایمکن أن یکون محلاًّ للنزاع‏‎ ‎‏ومورداً للنقض والإبرام .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 16
‏أمّا ‏الأوّل :‏ فلأنّـه من الواضح عدم کون کثیر من المقدّمات بل جمیعها‏‎ ‎‏مبعوثاً إلیها بمجرّد البعث إلیٰ ذی المقدّمـة .‏

‏وأمّا ‏الثانی‏ : فلأنّـه لامعنیٰ ـ بناءً علیـه ـ للقول بالملازمـة ؛ إذ لایعقل تحقّق‏‎ ‎‏الملازمـة الفعلیّـة بین المتلازمین اللّذین أحدهما موجود بالفعل والآخر موجود‏‎ ‎‏بالتقدیر بمعنیٰ أنّـه لم یوجد بعدُ وسیوجد فی الاستقبال ؛ إذ الملازمـة من قبیل‏‎ ‎‏الاُبوّة والبنوّة ، فکما أنّـه لایعقل تحقّق الاُبوّة للشخص الذی یصیر ذا ولد فی‏‎ ‎‏الاستقبال للتضایف الحاصل بینها وبین البنوّة ، ومن شأن المتضایفین عدم إمکان‏‎ ‎‏الانفکاک بینهما فی الوجود الخارجی بل الوجود الذهنی ، کذلک تحقّق الملازمـة‏‎ ‎‏الفعلیـة وثبوتها بین الشیئین متوقّف علیٰ تحقّقهما فی الخارج وثبوتهما بالفعل ،‏‎ ‎‏وهذا واضح جدّاً .‏

‏وأمّا ‏الثالث‏ : فلأنّـه کثیراً ما یکون جمیع المقدّمات أو بعضها مغفولاً عنها ،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فلایمکن تعلّق الإرادة بالبعث إلیها ؛ إذْ لایعقل أن یکون المراد مغفولاً‏‎ ‎‏عنـه .‏

وقد عرفت بما مهّدناه لک‏ : أنّ الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات إنّما تتحقّق‏‎ ‎‏بفعّالیـة النفس ، ولیست مترشّحةً وموجدةً بالإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة ، فراجع ،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فلایعقل أن یکون الشیء متّصفاً بأنّـه مراد مع کونـه مغفولاً عنـه بالنسبـة‏‎ ‎‏إلی المرید ، کیف ومن مقدّمات الإرادة تصوّر الشیء والتصدیق بفائدتـه‏‎ ‎‏والاشتیاق إلیـه ، ولایمکن اجتماع هذه مع الغفلـة أصلاً ، کما هو واضح لایخفیٰ .‏

‏وأمّا ‏الرابع‏ : فلما ذکر فی الاحتمال الثانی من أنّـه یستحیل تحقّق الملازمـة‏‎ ‎‏بین الموجود بالفعل والموجود بالتقدیر .‏

فانقدح بما ذکرنا‏ : أنّ جعل النزاع فی الملازمـة بالوجوه المذکورة ممّا‏‎ ‎‏لاوجـه لـه ؛ إذ لایمکن أن یکون ذلک محلّ النزاع ، کما عرفت .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 17
والتحقیق أن یقال‏ : إنّ محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام هی الملازمـة‏‎ ‎‏بین الإرادة الفعلیـة المتعلّقـة بذی المقدّمـة وبین الإرادة الفعلیـة المتعلّقـة بما‏‎ ‎‏یراه المرید مقدّمـة .‏

‏توضیح ذلک : أنّـه لاشبهـة فی أنّ الإرادة قد تتعلّق بما لایترتّب علیـه فائدة‏‎ ‎‏بل ربّما یرجع بسببـه ضرر إلی الفاعل المرید ، ولیس ذلک إلاّ لکون المرید معتقداً‏‎ ‎‏بترتّب فائدة علیـه ، کما أنّـه قد یأبیٰ عن الإتیان بفعل بتخیّل أن المترتّب علیـه‏‎ ‎‏ضرر راجع إلیـه مع کونـه فی الواقع ذا نفع عائد إلیـه .‏

‏وبالجملـة فالإنسان ربّما یشتاق إلیٰ فعل ؛ لتخیّلـه أنّـه ذو نفع فیریده ،‏‎ ‎‏وربّما ینزجر عن فعل آخر ؛ لتوهّمـه أنّـه بلا نفع ، فینصرف عنـه ، مع أنّ الأمر فی‏‎ ‎‏الواقع بالعکس ، فلیس تحقّق الإرادة متوقّفاً علی النفع الواقعی ، وعدمها علیٰ‏‎ ‎‏عدمـه .‏

‏هذا فی الإرادة المتعلّقـة بنفس الفعل ، وأمّا الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات‏‎ ‎‏فهی أیضاً کذلک بمعنیٰ أنّـه قد یتخیّل المرید بأنّ مراده متوقّف علیٰ شیء فیریده مع‏‎ ‎‏أنّـه لم یکن من شرائط وجوده فی الواقع ، کما أنّـه ربّما لایرید المقدّمات‏‎ ‎‏الواقعیـة ؛ لتوهّمـه أنّها لاتکون مقدّمات .‏

‏هذا فی إرادة الفاعل ، وأمّا الآمر : فإذا أمر بشیء لـه مقدّمات ، فالنزاع واقع‏‎ ‎‏فی تحقّق الملازمـة بین الإرادة المتعلّقـة بذی المقدّمـة وبین الإرادة المتعلّقـة بما‏‎ ‎‏یراه مقدّمـة لا المقدّمات الواقعیـة .‏

‏نعم لو أخطأ فی تشخیص المقدّمات ، فیجب علی العبد تحصیل المقدّمات‏‎ ‎‏الواقعیـة مع علمـه بخطأ المولیٰ لا من باب تعلّق إرادة المولیٰ بالمقدّمات‏‎ ‎‏الواقعیـة ، کیف وهی غیر متوجهـة إلیها ، فلایمکن أن تصیر مرادةً ، بل من باب‏‎ ‎‏وجوب تحصیل غرض المولیٰ مع الاطّلاع علیـه وإن لم یتعلّق بـه أمر أصلاً .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 18
‏هذا ، وحیث إنّ العمدة فی مورد البحث هی المقدّمات الشرعیـة ، ومن‏‎ ‎‏المعلوم أنّ ما یراه الشارع مقدّمـة لیس متخلّفاً عن الواقع ، فیصحّ النزاع فی‏‎ ‎‏الملازمـة بین الإرادة المتعلّقـة بذی المقدّمـة وبین الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات‏‎ ‎‏الواقعیـة .‏

‏هذا غایـة ما یمکن أن یقال فی تحریر محلّ النزاع .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 19

  • )) مطارح الأنظار : 37 / السطر 6 ، کفایة الاُصول : 114 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 216 ، نهایة الأفکار 1 : 259 .