الکلام فی شروط المتعاقدین

الکلام حول آیة الابتلاء

الکلام حول آیة الابتلاء

‏وأمّا الآیة فقوله تعالی: ‏(وَابْتَلُوا الْیَتَامَی حَتَّی إِذَا بَلَغُوا النِّکَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ ‎ ‎مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أمْوَالَهُمْ وَلا تَأکُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أنْ یَکْبَرُوا وَمَن ‎ ‎کَانَ غَنِیّاً فَلْیَسْتَعْفِفْ وَمَن کَانَ فَقِیراً فَلْیَأکُلْ بِالْمَعْرُوفِ)‎[1]‎‏. ‏

‏وللآیة بحسب مقام التصوّر احتمالات: ‏

أحدها:‏ أن یکون ‏(حَتَّی إِذَا بَلَغُوا)‏ نظیر قوله: جاء الحاجّ حتّی المشاة، ‏‎ ‎‏فیکون المعنی: وابتلوا الیتامی حتّی بعد بلوغهم، فلیس البلوغ غایة للابتلاء، بل ‏‎ ‎‏ظرف له أیضاً، فیجب الاختبار من زمان احتمال الرشد إلی ما بعد البلوغ، فإن ‏‎ ‎‏اُونس منه الرشد قبل البلوغ أو بعده، فیدفع إلیه ماله، وعلیه یکون المیزان ‏‎ ‎‏والموضوع استیناس الرشد، ولا دخل للبلوغ فیه. ویؤیّد هذا الاحتمال ذیل ‏‎ ‎‏الآیة؛ وهو قوله تعالی: ‏(وَلا تَأکُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أن یَکْبَرُوا)‏؛ یعنی لا تأکلوا ‏‎ ‎‏أموالهم مبادرة لکبرهم؛ بأن ینتظروا البلوغ فیأکلوها، بل إن استونس منه الرشد ‏‎ ‎‏یجب الدفع ولو کان قبله. ‏

الثانی: ‏کون حتّی للغایة، فمن زمان احتمال الرشد إلی زمان البلوغ ظرف ‏‎ ‎‏للاختبار والابتلاء، ففی هذا الظرف من الزمان متی اُونس منه رشداً یدفع المال ‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 255
‏إلیه، وأمّا إذا بلغ النکاح فلا یحتاج إلی الاختبار، فیکون الموضوع أحداً من ‏‎ ‎‏الرشد والبلوغ. ‏

‏ثمّ إن کان الغالب فی البالغین هو الرشد بحسب النوع، فیمکن أن یقال: بأنّ ‏‎ ‎‏البلوغ أمارة علی الرشد، حیث کان الغالب نوعاً کذلک وعلیه، فالمیزان علی هذا ‏‎ ‎‏الاحتمال أیضاً هو الرشد، ولکن یحتاج إلی الابتلاء قبل البلوغ ولا یحتاج إلیه ‏‎ ‎‏بعده؛ لأماریة البلوغ له. ‏

الثالث: ‏أنّ البلوغ غایة للابتلاء، ولکن یستمرّ الاختبار من حین احتمال ‏‎ ‎‏الرشد إلی البلوغ، ثمّ عند حصول البلوغ قد یکون رشیداً وقد لا یکون، فإن کان ‏‎ ‎‏رشیداً، فیدفع إلیه ماله، وإلا فلا، فالموضوع لدفع المال کلا الأمرین، وذلک أنّ ‏‎ ‎‏قضیّة دفع الأموال وتمیّز الفطن من غیره فی إصلاح المال وتقلیبه ومصرفه وغیر ‏‎ ‎‏ذلک من شؤون التصرّفات المالیة، وتشخیص المصالح من المفاسد أمر مشکل لا ‏‎ ‎‏یعلم حال الطفل بالنسبة إلیه بقضیّة واحدة، مثل شراء شی ء أو بیع شی ء، بل ‏‎ ‎‏یحتاج إلی زمان طویل ومضیّ أیّام وحالات یختبر فیها رشده، ولا یمکن ذلک ‏‎ ‎‏بعد البلوغ؛ للزوم حبس المال فی تلک المدّة مع فرض بلوغه، فلذا جعل ظرف ‏‎ ‎‏الامتحان قبله مستمرّاً إلی بعد البلوغ. ‏

الرابع: ‏جعل ‏(حتّی)‏ ابتدائیة والجملة عقیبها ـ شرطاً وجزاءً ـ علّة للابتلاء؛ ‏‎ ‎‏نظیر أسلم حتّی تدخل الجنّة، فالمعنی: وابتلوا حتّی یدفع إلیهم المال إن آنستم ‏‎ ‎‏منهم رشداً بعد البلوغ، والمستفاد منه من المعنی عین الثالث. ‏

‏وقد یقال فی مقام الاستظهار من الآیة: بأنّ الظاهر هو الثالث؛ بوجهین:‏

‏الأوّل: فلأنّه سبحانه لمّا أمر بإیتاء الأیتام أموالهم بقوله عزّ شأنه: ‏(وَآتُوا ‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 256
الْیَتَامَی أمْوَالَهُمْ)‎[2]‎‏ ونهی عن دفع المال إلی السفیه بقوله: ‏(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ ‎ ‎أمْوَالَکُمْ)‎[3]‎‏ بیّن الحدّ الفاصل بین ما یحلّ ذلک للولیّ وبین ما لا یحلّ، فجعل ‏‎ ‎‏لجواز الدفع شرطین البلوغ وإیناس الرشد، فلا یجوز قبلهما. ‏

‏والثانی: أنّه لو لم یکن قوله: ‏(فَادْفَعُوا)‏ تفریعاً علی إحراز الرشد بعد البلوغ ‏‎ ‎‏لم یکن وجه لجعل غایة الابتلاء هو البلوغ، وکان المناسب أن یقال: وابتلوا ‏‎ ‎‏الیتامی فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إلیهم أموالهم‏‎[4]‎‏.‏

‏نقول: لا نعرف وجهاً فی الآیتین لترجیح هذا الاحتمال، بل لو کان فیستفاد ‏‎ ‎‏منها ترجیح الاحتمال الثانی فی کلامنا الذی هو الأوّل فی کلامه رحمه الله‏؛ إذ المستفاد ‏‎ ‎‏من قوله: ‏(وَآتُوا الْیَتَامَی أمْوَالَهُمْ)‏ وجوب إیتاء الیتامی أموالهم، ومقتضی قوله: ‏‎ ‎(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَکُمْ)‏ بناءً علی أن یکون المعنی: أموالهم ـ کما قیل‏‎[5]‎‏ ـ ‏‎ ‎‏عدم جواز إعطاء من لیس برشید منهم ماله، فیستفاد منها أنّ المیزان عدم وجود ‏‎ ‎‏السفه ووجود الرشد فی الیتم، وبیّن سبحانه طریق تمیّز الرشد من غیره فی ‏‎ ‎‏الآیة، فضمّ الآیتین بآیة الابتلاء یفید أنّ المیزان لیس إلا الرشد، فیرجّح الثانی، ‏‎ ‎‏ولا ینافی کون البلوغ میزاناً آخر؛ إذ الموضوع فی الآیات هو الیتم، وهو غیر ‏‎ ‎‏البالغ، فلا ینافی جعل البلوغ موضوعاً آخر. ‏

‏وأمّا الثانی فقد عرفت أنّ فائدة الغایة فی قوله: ‏(حَتَّی إِذَا بَلَغُوا)‏ علی هذا ‏‎ ‎‏الاحتمال انتهاء لزوم الاختبار وأمده، ولازمه عدم اعتباره بعد البلوغ، فیدفع إلیه ‏‎ ‎‏بدونه فرضاً. ‏


کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 257
‏والتحقیق أنّ الاحتمال الأوّل والرابع بعید، وأنّ الثانی والثالث أقرب من بین ‏‎ ‎‏الأربعة، وکذا أقربیّة الثالث من الثانی، لکن لا لما ذکر، بل لأنّ الظاهر من الغایة ‏‎ ‎‏أنّ ما قبل الغایة لیس ظرفاً لوجود المغیّی، أعنی الابتلاء؛ بحیث یکفی صرف ‏‎ ‎‏الوجود فیه مع تحقّق شرطه؛ أی استیناس الرشد، بل یلزم استمراره من زمان ‏‎ ‎‏یمکن رشدهم فیه إلی زمان بلوغهم. ‏

‏وبالجملة: ظاهر الغایة هو الاستمرار من ذلک الزمان إلی أن ینتهی إلی البلوغ ‏‎ ‎‏والوجه فیه هو ما ذکرنا من الاحتیاج بمثل هذا الزمان لمثله. ‏

‏ویستفاد منها استمرار ولایة الأب أو الجدّ بعد البلوغ لو کان سفیهاً وعدم رفع ‏‎ ‎‏أمره إلی الحاکم. ‏

‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 258

  • ـ النساء (4): 6.
  • ـ النساء (4): 2.
  • ـ النساء (4): 5.
  • ـ منیة الطالب 1: 367.
  • ـ اُنظر: التبیان فی تفسیر القرآن 3: 114؛ مجمع البیان 3: 14؛ منیة الطالب 1: 367.