الأدلّة المانعة عن صحّة عقد المکره المتعقّب بالرضا
وإنّما ذکر له موانع لابدّ من التأمّل فیها:
الأوّل: آیة التجارة، وهی قوله تعالی: إِلا أن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ بتقریب: أنّ المستفاد من الآیة أنّ المعاملات علی قسمین: قسم منها باطل فاسد، وقسم منها صحیح، فالصحیح عبارة عن التجارة الصادرة عن الرضا والباقی باطل کلّها، وحیث کان ظهورها فی التجارة الناشئة عن الرضا کان الملحوق بالرضا من القسم الباطل، فلا یصحّ التمسّک بالإطلاقات لتصحیحه بالرضا لتقیّدها بالآیة. هذا غایة تقریب یمکن فی الاستدلال بالآیة.
وقبل الورود فی کیفیة الاستثناء فی الآیة ودلالته علی الحصر وعدمها نفرض تمامیة الدلالة علی حصر المعاملات عند الشرع فی القسمین: هما التجارة عن التراضی وباقی الأقسام الباطلة.
ولکن نقول: المتفاهم العرفی من الآیة أنّ الصحیح من التجارة فی مقابل باطلها إنّما هو الواقع منها مع الرضا؛ سواء کان سبقه ذلک أو لحقه، ولا یعتبر خصوصیة السبق فیه فالقسم الصحیح من التجارة هو الذی کان مع رضا صاحبه، لا ما صدر عن رضا، فخصوصیة السبق، وإن کان ظاهراً من الآیة، إلا أنّها ملغاة فی نظر العرف، وإلا یلزم بطلان البیع الفضولی ودخوله فی القسم الباطل أو استثنائه من التجارة عن تراضٍ، فیکون المعتبر فی التجارة الصحیحة صدورها عن الرضا إلا فی الفضولی، ویتفرّع علی ذلک دخوله فی القسم الباطل؛ لأنّ
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 422
المفروض حصر المعاملات فی القسمین ولا یلتزم أحد بذلک.
وبالجملة: لا خصوصیة فی متفاهم العرف من الآیة لسابقیة الرضا عن المعاملة.
وأمّا البحث عن کیفیة الاستثناء المنقطع فلابدّ من ملاحظة أنّ الاستثناء فی المنقطع استثناء حقیقة وإخراج من المستثنی منه أو لا، ومعه کیف یتصوّر الإخراج ممّا لم یکن داخلاً فیه؟
والشیخ منع دلالة الآیة علی ذلک بمنع الحصر فیها وذلک لانقطاعه؛ إذ الحصر مستفاد من الاستثناء المتّصل لا المنقطع، وهذا منقطع ولیس بمفرّغ حتّی یکون متّصلاً بلحاظ التقدیر.
وذهب السیّد وبعض آخر إلی اتّصاله ببیان أنّ المستثنی منه إنّما هو الأموال والمقدّر هو لا تأکلوا الأموال بوجه من الوجوه إلا التجارة عن تراضٍ لا المقیّد بالباطل حتّی لا یکون المستثنی داخلاً فیه.
وذهب علی فرض انقطاعه أیضاً إلی إفادته للحصر؛ لرجوعه إلی الاتّصال لبّاً؛ لأنّ عدم إفادته للحصر مبنیّ علی کونه بمعنی «لکن» وهو خلاف لظاهر «إلا»، وأمّا وجه رجوعه إلی المتّصل فلأنّ المنقطع لا یستعمل إلا فیما کان المستثنی مربوطاً بالمستثنی منه، فلا یقال: ما جاء فی القوم إلا حماراً إذا کان الحمار ممّا لا یتعلّق بذلک القوم أصلاً، بل مورد استعماله فیما یکون مرتبطاً بهم، فالمراد بالقوم فی قوله: «ما جاءنی القوم»، هو القوم وما یرتبط بهم، وعلی هذا،
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 423
فیکون جمیع المنقطعات راجعة إلی المتّصل فی اللبّ ویکون حینئذٍ أبلغ فی إفادة الحصر.
والتحقیق: أنّ حقیقة الانقطاع فی أغلب موارده خارجة عن الاستثناء بمعنی الإخراج، والذی أظنّه بحسب عرف العرب وغیره من الألسنة أنّ الانقطاع إنّما هو لإفادة تأکید الجملة السابقة ولیس النظر إلی إخراجه عمّا قبله، فقوله: «جائنی القوم إلا الحمار» لیس غرضه إفادة عدم مجیء الحمار، بل قد لا یکون حمار لهم، وإنّما غرضه إفادة مجیء جمیع القوم وأنّهم جاؤوا جمیعاً وما لم یأت هو حمارهم، وکذا «ما جائنی القوم إلا الحمار»، وهکذا فی الآیة فَسَجَدَ المَلائِکَةُ... إلا إبْلیسَ لیس الغرض الإخراج عمّا یرتبط بهم، بل النظر التأکید فی سجود جمیع الملائکة وأنّ من لا یسجد هو إبلیس لا الملائکة، وهکذا فی المقام؛ فإنّ المراد تأکید النهی عن الأکل بالباطل لا إخراج التجارة عنه.
وبالجملة: لیس الاستثناء المنقطع لغواً وبلا جهةٍ، بل لابدّ له من نکتةٍ أدبیة بها تستعمل فی محاورات البلغاء والفصحاء، وهی ما ذکرناه من أنّه لتأکید الجملة السابقة وهذا أبلغ فی التأکید من غیره؛ إذ قد یقال: جاء القوم أجمعون أکتعون. وقد یقال: «جاء القوم إلا الحمار»؛ أی لم یخل من القوم إلا وقد جاء وممّا لم یجئ فهو حماراً وهو لیس من القوم، فلیس النظر فیه إلی إخراجه عن القوم، بل الغرض منه إفادة تأکید مجیء جمیع القوم نظیر کثیر الرماد؛ حیث لم یستعمل لإفادة کثرة رماده، بل کثیراً ما لا رماد له وإنّما اُتی به؛ لإفادة معنیً آخر، وکذا
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 424
سایر موارد الکنایات کطویل النجاد وغیر ذلک، وهکذا فی المقام أیضاً اُتی بـ «إلا» لا لإخراج مدخوله، بل لإفادة تأکید سابقه؛ بأنّهم لم یخرج عنهم أحدٌ، وکما أنّ الکنایة مستعملة فی معناها حقیقةً إلا أنّها لم یتعلّق الجدّ بها، کذا الاستثناء فی المنقطع مستعمل فی معناه وهو الإخراج إلا أنّه غیر مراد جدّاً، بل المراد منه التأکید، وقد یکون النکتة فی الاستثناء ادّعاء دخول المستثنی فی المستثنی منه وإخراجه بعید کسایر المجازات والکنایات المبنیّة علی الادّعاء فیکون للتلاعب بالمعانی لا بالألفاظ، فالحمار فرد من القوم ادّعاءً، ثمّ اُخرج منهم وعلیه، فحقیقة الاستثناء المنقطع یرجع إلی المتّصل ادّعاءً لا حقیقةً، وعلی تسلیم إفادة الاستثناء للحصر فی الآیة؛ سواء کان منقطعاً ومفیداً له، کما فی بعض کلام السیّد، أو متّصلاً مفیداً، کما فی کلام الآخر، فلا دلالة للآیة علی اعتبار مقارنة الرضا للعقد إمّا لما سبق من إلغاء خصوصیة التقارن الظاهر فیه الآیة عند العرف وعدم إفادته عندهم وإمّا لأنّ الظاهر من قوله: لا تَأکُلُوا أمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ أنّ الموضوع للنهی لیس نفس التصرّف فی الأموال، بل ما هو تمام الموضوع له إمّا کونه باطلاً، بحیث یکون الموضوع نفس الباطل، أو کان الباطل جهة تقییدیة أو تعلیلیة للموضوع، فما هو المناط والعلّة للنهی هو الباطل من التصرّفات، ومن المعلوم أنّ الاستثناء الحکمی من الباطل مستهجن بنظر العرف؛ أی لا یمکن إخراج فرد من الباطل عن حکمه حتّی یکون باطلاً موضوعاً وغیر منهیّ عنه؛ لاستهجانه بنظر العرف، فلابدّ من أن یکون استثناء قوله إِلا أنْ تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ استثناءً من موضوع الباطل، لا من حکمه فقط، فلا یکون من الباطل قطعاً. وعلیه، فیکون حقّاً فی مقابل الباطل
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 425
وبما أنّ المناط والموضوع فی المستثنی منه هو نفس الباطل بما هو باطل، یکون المناط والموضوع ـ بقرینة المقابلة ـ فی المستثنی هو الحقّ بما هو حقّ، وکان ذکر التجارة عن تراضٍ لکونه أوضح مصادیق الحقّ، فیستفاد من المقابلة بین الباطل والحقّ فی الحکم أنّ المحرّم ما هو تصرّف باطل عند العرف، وما هو تصرّف حقّ فهو حلال، فتکون الآیة بحسب متفاهم العرف والعقلاء لبیان الکبری الکلّیة فی کلا الطرفین.
وعلیه، فکلّما کان باطلاً عرفاً یکون داخلاً تحت النهی وکلّما کان حقّاً عرفاً یکون داخلاً تحت غیره، ومن المعلوم أنّ التجارة الملحوقة بالرضا، کما فی الفضولی المکره لیس من مصادیق الباطل العرفی، بل کان من مصادیق الحقّ فیشمله الاستثناء، فعلی فرض دلالة الآیة علی الحصر، فالحصر یکون بین النوعین وهو الحقّ والباطل وما نحن فیه من مصادیق المحصور لا من خارجه.
فکأنّ مفاد الآیة هکذا: لا تتصرّفوا فیما یحصل من الأسباب الباطلة؛ لأنّه باطل، إلا أن تکون تجارة عن تراضٍ؛ لأنّه حقّ.
وعلی الجملة: لا یکون التجارة المستثنی باطلاً قطعاً حتّی یکون استثناءً فی الحکم، فلابدّ من کونها حقّاً بقرینة المقابلة، وکما أنّ المناط والموضوع فی المستثنی منه الباطل بما هو باطل من غیر دخل للتصرّف فیه، کذا الموضوع فی المستثنی الحقّ بما هو حقّ من التصرّفات، والتجارة عن تراضٍ من أوضح مصادیقه، وکلّ ما یکون حقّاً فیکون حلالاً صحیحاً بحسب الآیة، وما نحن فیه أیضاً منها.
إذا عرفت أنّ النکتة فی الاستثناء المنقطع إمّا التأکید أو الادّعاء فلا یخفی أنّ التأکید أیضاً علی قسمین: قسم یخصّ الإفادة به فقط، وقسم یفید الحکم فی
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 426
المستثنی أیضاً. وإن کان الغرض منه التأکید، فمن الأوّل قوله: جاء القوم إلا الحمار؛ لما عرفت من أنّه سیق لإفادة التأکید فقط، ومن الثانی قوله تعالی: فَسَجَدَ المَلائِکَةُ... إلا إبْلیسَ وقوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظّنِّ.
وأمّا آیة التراضی فلا إشکال فی أنّها خارجة عن الادّعاء، فلیس فیها ادّعاء؛ وکذا لا شبهة فی عدم توهّم دخول التجارة عن تراضٍ فی أنواع الباطل حتّی یکون إخراجه لأجله، بل لابدّ من کونه مسوقاً لإفادة التأکید، وأنّه لیس من الباطل شی ء بخارجٍ عن النهی، لکنّه من القسم الثانی من التأکید الذی کان مفیداً لحکم المستثنی أیضاً.
وأمّا کون «إلا» بمعنی «لکن» فهو خلاف الظاهر، وکذا رجوع الاستثناء فیه إلی المتّصل بأنّ المراد حرمة أکل المال بوجه من الوجوه إلا بالتجارة، وکذا القول بتوهّم دخوله. فالمتعیّن ما ذکرناه من أنّه لإفادة التأکید؛ لعدم خروج فرد من الباطل عن حکمه. وعلیه، فلا یفید الحصر فی مورده؛ لعدم کونه إخراجاً حقیقیاً، بل استعمل فی الإخراج فهو إخراج فی الإرادة الاستعمالیة لا فی الإرادة الجدّیة، فهو إخراج صوری لإفادة تأکید الحکم فی أنواع الباطل وأقسامه، والحصر إنّما یستفاد من المتّصل؛ لوجود الإخراج الحقیقی فیه، فیفید خصوصیة الإخراج حصره فی ما هو الخارج لا فیما لا یکون إخراجاً حقیقةً.
نعم، علی ما قرّرناه من أنّ متفاهم العرف من قوله: بِالْباطِلِ التنویع بین الحقّ والباطل یفید الحصر، لکن لا فی خصوص التجارة عن تراضٍ، بل فی مطلق ما کان حقّاً؛ بمعنی أنّ المحکوم بالصحّة هو الحقّ من التصرّفات المالیة،
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 427
والمحکوم بالفساد والحرمة هو الباطل منها ولیس بینهما واسطة، فهو مفید للحصر بین النوعین، وهذا لا ینافی صحّة غیر المورد ممّا یکون من مصادیق الحقّ.
وأمّا القول بأنّ الباطل هو الباطل الشرعی لا الباطل العرفی فهو خلاف التحقیق؛ فإنّ المراد فیها هو العرفی من الباطل، وما ورد من تفسیره بـ«القمار» مؤیّد له؛ لأنّه من الأباطیل عند العرف والعقلاء.
وأمّا ما ورد مرسلاً من تفسیره بـ «الربا» أیضاً ـ والحال أنّه لیس من الباطل العرفی، بل هو باطل شرعاً ـ فالأمر یدور ـ علی فرض صحّه الروایة ـ بین التغییر فی الآیة والالتزام بأنّ المراد من الباطل هو الشرعی بسبب تلک الروایة وبین القول بأنّ الربا اُلحق بالباطل العرفی ادّعاءً لکثرة مفاسده، فکأنّه ادّعی أنّه باطل عرفاً والثانی أولی.
هذا تمام الکلام فی آیة التجارة، وعرفت: أنّها لا تدلّ علی صرف الإطلاقات عن بیع المکره الملحوق بالرضا إمّا من جهة عدم الخصوصیة فی کیفیة الرضا المعتبر فی التجارة بحسب متفاهم العرف منها، أو من جهة التنویع بین ما هو الحقّ من التصرّفات وما هو الباطل منها، ویکون المورد أیضاً من مصادیقه، أو من جهة عدم الدلالة علی الحصر المدّعی دلالتها، فلا یکون مقیّداً للإطلاقات.
کتابالبیع (ج. ۲): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 428