المبحث الأوّل: فی ماهیة البیع

إشکال ودفع

إشکال ودفع

‏لا یخفی: أنّ التملیک المجرّد من التملّک لیس مؤثّراً، ولیس بیعاً، فلا تأثیر‏‎ ‎‏لنفس الإنشاء المجرّد من القبول، فوقوع البیع موقوف علی القبول.‏

‏ولا یخفی أیضاً: أنّ الإرادة للفعل إنّما تنقدح فیما علم عدم استحالة وقوعه،‏‎ ‎‏وأمّا فیما علم استحالته فلا تنقدح إرادة إیجاده.‏

فعلی هذا‏، فکیف ینشئ البائع الملکیة ویوجب البیع بإیجابه مع علمه بعدم‏‎ ‎‏تحقّق المنشأ والموجَب بمجرّد إیجابه وإنشائه؟!‏

‏وبعبارة أوضح: إذا علم البائع بعدم تأثیر إیجابه وعدم تحقّق إنشائه مجرّداً‏‎ ‎‏عن القبول، فکیف تنقدح الإرادة فیه لإنشاء البیع مع علمه بعدم تحقّقه‏‎ ‎‏واستحالته فی عالم الاعتبار؟! فماذا یراد بإیجاده، وکیف یستعمل «ملّکت هذا‏‎ ‎‏بهذا» فی المعنی الإیجادی الإیقاعی مع العلم بعدم وجوده ووقوعه‏‎[1]‎‏؟‏

وقد یوجّه ذلک:‏ بأنّ العناوین القصدیة تابعة للقصد واعتبار المعتبر، فالتملیک‏‎ ‎‏فی عالم الاعتبار والإنشاء، یتحقّق بنظر المنشئ وباعتباره وإنشائه؛ وإن لم یؤثّر‏‎ ‎‏ولم یقع فی نظر العرف والشرع إلاّ بتعقّب القبول، کما قیل فی التعظیم‏‎ ‎‏والاستهزاء: من أ نّهما تابعان للقصد ومن العناوین القصدیة، وأ نّه قد یکون فعل‏‎ ‎‏تعظیماً إن قصد به التعظیم، وقد یکون ذاک إهانة بقصد الإهانة، کالقیام، فإنّه یقع‏‎ ‎‏تعظیماً وإهانة حسب القصد.‏

وفیه:‏ أ نّه خلاف التحقیق؛ فإنّ ما لیس آلة للتعظیم، کیف یقصد به التعظیم‏‎ ‎‏حتّی یقع تعظیماً، وما لیس آلة للإهانة والاستهزاء، کیف یقصد به الإهانة؟!‏


کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 20
‏وحقیقة ذلک: أنّ المنشأ والموجب للتعظیم، إدراک عظمة الطرف، فیوجب‏‎ ‎‏ذلک الإدراک أن یوجد ما یُعظّم به؛ أعنی آلة التعظیم، مثل القیام مثلاً، وقد لا‏‎ ‎‏یُدرک للطرف عظمةً وقدراً، بل یدرک ما یوجب التحقیر والإهانة، فیستعمل تلک‏‎ ‎‏الآلة أیضاً فی مقام الاستهزاء، کما أنّ الألفاظ أیضاً کذلک، فإنّ قول القائل: «هو‏‎ ‎‏أسد» قد یستعمل فی مقام التوصیف بالشجاعة، وقد یطلق فی مقام الاستهزاء‏‎ ‎‏والتوصیف بالجبن والخوف.‏

‏وعلیه فلیست حقیقة التعظیم والاستهزاء وتحقّقهما، تابعة للقصد؛ حتّی یقع‏‎ ‎‏بما لیس من خاصّیته ذلک، فیصیر القیام تعظیماً تارةً، وإهانةً اُخری بحسب‏‎ ‎‏القصد، بل المبادئ المحرّکة للتعظیم والعلل الموجبة له وللاستهزاء مختلفة،‏‎ ‎‏فتوجب تارةً تعظیم الشخص، واُخری إهانته، لا أنّ القصد یوجب تحقّقه تارةً،‏‎ ‎‏وعدم تحقّقه اُخری حتّی یکون مع إدراک عظمته استهزاءً وإهانةً، وکذا العکس.‏

و أمّا الجواب عنه، فمن وجهین: 

‏أوّلهما:‏‏ أنّ ما یحصل بالبیع وکذا سائر أبواب المعاملات ـ کالإجارة، والهبة،‏‎ ‎‏والصلح ـ لیس أمراً واقعیّاً خارجیّاً؛ بحیث کان من الأعراض أو الجواهر؛ فإنّ‏‎ ‎‏إضافة المال إلی زید مثلاً، لیست حقیقة من الحقائق وشیئاً موجوداً فی الخارج،‏‎ ‎‏بل الملکیة وما بحذائها من الاُمور الاعتباریة التی یعتبرها العقلاء.‏

‏وبعبارة اُخری: لیست الملکیة من الأعراض؛ بحیث تکون إضافة المالکیة‏‎ ‎‏القائمة بالشیء، شیئاً فی الخارج، بل العقلاء یعتبرون ـ من البدو إلی الختم ـ فی‏‎ ‎‏حیاتهم الاجتماعیة، إضافات للأشخاص وعلائق بالأشیاء المحتاج إلیها فی‏‎ ‎‏معایشهم، ومنها ما یسمّی بالملکیة، فهی صرف اعتبار. نعم، یکون متعلّق المعتبَر‏‎ ‎‏ـ بالفتح ـ فی الخارج، کالدار، والثوب، ونحو ذلک. ومن المعلوم أنّ اعتبار‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 21
‏العقلاء قائم بنفوسهم، وهو أمر حقیقی وصفة قائمة بالنفس.‏

‏ولا یخفی أیضاً: أنّ الاعتبار کما کان فی أوّل المجتمع الإنسانی، کان ثابتاً فی‏‎ ‎‏جمیع أدواره وأزمانه، فلیس اعتبارهم تلک الإضافات والعلائق مرّة فی ابتداء‏‎ ‎‏الأمر، کافیاً فی تحقّقها بعدُ، بل کلّما تحقّق بیع أو إجارة ونحوهما یحتاج إلی‏‎ ‎‏اعتبارهم، وقد لا یعتبرون، کبیع منّ من تراب مثلاً.‏

‏وأیضاً: فإنّ من المعلوم البدیهی، أنّ المعتبَر ـ کالملکیة مثلاً ـ کما لم یکن قبل‏‎ ‎‏الاعتبار شیئاً موجوداً خارجاً، لا یصیر بعد الاعتبار شیئاً موجوداً عرضیاً‏‎ ‎‏خارجیاً، بل هو نفس الإضافة والعلقة الاعتباریة.‏

‏إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ ألفاظ المعاملات لم توضع للإیجاد والجعل؛ لأنّ‏‎ ‎‏الملکیة الموجدة بها لا واقعیة لها، ولا تکون شیئاً حتّی توجد بها، واعتبار‏‎ ‎‏العقلاء أیضاً لیس قابلاً للإیجاد والتصرّف فیه، فلا یمکن إیجاد شیء بالإیجاب‏‎ ‎‏والقبول، فقولک: «بعت» إن کان موجداً للملکیة ـ أعنی الماهیة المتقوّمة باعتبار‏‎ ‎‏العقلاء ـ یکون موجداً لاعتبار العقلاء، فیلزم عدم قوام اعتبارهم بنفوسهم، وهو‏‎ ‎‏خلف؛ إذ المفروض أنّ الملکیة لیست بشیء حتّی توجد به، بل هی صرف‏‎ ‎‏اعتبارهم، فیلزم إیجاد اعتبارهم إضافة المالکیة، وهو خلاف الفرض.‏

‏بل لا تأثیر للعقد برمّته ـ أعنی الإیجاب والقبول ـ إذ لا یعقل إیجاد شیء‏‎ ‎‏لا تحقّق له فی الخارج بالإیجاب والقبول، ولا یمکن التأثیر فی نفوس‏‎ ‎‏العقلاء أیضاً.‏

‏فالعقد وکذا الحیازة وغیرهما من أسباب المالکیة، لیست بنفسها مؤثّرة‏‎ ‎‏وموجدة لشیء، بل تکون موضوعاً لاعتبار العقلاء، فالتملیک والتملّک‏‎ ‎‏الإنشائیان إذا وجدا عن جدٍّ وکذا الحیازة، فقد تحقّق موضوع اعتبارهم، فإذا‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 22
‏قال: «ملّکت هذا بهذا» وصدر عنه الإیجاب، فلیس فی مقام إیجاد شیء وإن‏‎ ‎‏کان ذلک إنشاء تملیک، إلاّ أ نّه یعلم أنّ إنشاءه لیس مؤثّراً وإن تعقّب بالقبول، بل‏‎ ‎‏غرضه من الإیجاب إیجاد جزء الموضوع لاعتبار العقلاء، فإذا انضمّ إلیه القبول‏‎ ‎‏والتملّک، فقد حصل تمام الموضوع، فیعتبرون الملکیة علی العوضین للمتبایعین.‏

‏والحاصل: أنّ الإشکال دائر مدار کون الألفاظ للإیجاد والتأثیر، فإنّه حینئذٍ‏‎ ‎‏مع علمه بعدم التأثیر والوجود، فماذا یقصد بها؟! وأمّا بناءً علی عدم التأثیر‏‎ ‎‏والإیجاد للألفاظ قبولاً وإیجاباً، فلا إشکال؛ فإنّ غرضه وقصده من استعمالها‏‎ ‎‏لیس إیجاد شیء، بل تحقّق الموضوع لاعتبارهم. لا نقول بعدم الإنشاء وتجرید‏‎ ‎‏الألفاظ منه، بل نقول بأنّ إنشاء الموجب وقبول القابل، لیس مؤثّراً فی شیء‏‎ ‎‏وموجداً لشیء، بل هما ـ أعنی إنشاء التملیک والتملّک ـ موضوعان لاعتبار‏‎ ‎‏العقلاء.‏

وثانیهما:‏ أ نّا لو سلّمنا بأنّ الألفاظ وضعت للإیجاد والتأثیر، فلا نسلّم أنّ لفظ‏‎ ‎‏الإیجاب تمام المؤثّر وتمام العلّة للإیجاد حتّی یضرّ العلم بعدم تأثیره، بل هو‏‎ ‎‏جزء المؤثّر والعلّة، والجزء الآخر قبول المشتری، فهما معاً یؤثّران فی إیجاد‏‎ ‎‏الملکیة، فالعلم بعدم التأثیر لا یضرّ؛ فإنّه مع علمه بأ نّه جزء المؤثّر، یقصد به‏‎ ‎‏إیجاد جزء العلّة.‏

‏وبالجملة: هنا ثلاثة احتمالات:‏

‏أوّلها: کون الإیجاب والقبول موضوعاً لاعتبار العقلاء؛ من دون تأثیر لهما‏‎ ‎‏فی شیء.‏

‏ثانیها: تأثیرهما معاً فی الملکیة؛ علی أن یکون کلّ منهما جزء المؤثّر.‏

‏ثالثها: أن یکون الإیجاب تمام المؤثّر لا بنحو العلّیة التامّة، بل بنحو‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 23
‏المقتضی، فیکون القبول شرطاً متأخّراً عنه، فالإیجاب مؤثّر بضمیمة القبول،‏‎ ‎‏وعلیه فلا إشکال أیضاً فی حصول الأثر بعد الشرط، فینشأ التملیک بضمیمة‏‎ ‎‏القبول؛ بمعنی أنّ المنشأ لیس التملیک فعلاً، بل التملیک فی ظرف القبول، لا بنحو‏‎ ‎‏التعلیق حتّی یرد إشکال التعلیق، بل یکون ظرف إنشائه فی ذلک الوقت، نظیر‏‎ ‎‏الوصیة، فإنّ الموصی إذا أوصی «بأنّ مالی بعد وفاتی لزید» أو «للخیرات» مثلاً،‏‎ ‎‏فقد أنشأ التملیک لزید فی ذلک الزمان؛ بمعنی أنّ ظرف المنشأ ـ أعنی التملیک ـ‏‎ ‎‏ذلک الوقت، ولیس هذا تعلیقاً.‏

‏وکذا مثل الفضولی، فإنّ إنشاء الفضولی مع علمه بتوقّف التأثیر علی الإذن‏‎ ‎‏فی ظرف حصول الإذن؛ بحیث ینشئ ملکیته فی ذاک الظرف، ولم یخلّ عدم‏‎ ‎‏تحقّق منشئه فعلاً فی إنشائه وصحّته؛ لأنّه لم ینشأ فعلاً.‏

وأمّا‏ قول الشیخ ‏‏رحمه الله‏‏: «بأ نّه من قبیل الإیجاب والوجوب، لا الکسر‏‎ ‎‏والانکسار»‏‎[2]‎‏ بمعنی أنّ إنشاءه التملیک، واقع فی نظره ومؤثّر فی اعتباره وإن لم‏‎ ‎‏یقع خارجاً، فهو نظیر إیجاب السافل مع عدم تحقّق الوجوب عند العقلاء،‏‎ ‎‏ولیس من قبیل الکسر والانکسار؛ لأنّه من الاُمور التکوینیة القابلة للانفعال،‏‎ ‎‏وهذه من الاعتباریة القابلة لاختلاف الأنظار فیها؛ بحیث کان واقعاً ومؤثّراً بنظر‏‎ ‎‏دون نظر آخر.‏

فلا ‏محصّل له؛ لأنّ من المعلوم عدم وقوعه وتأثیره بنظره؛ فإنّه یعلم قطعاً بأنّ‏‎ ‎‏المال باقٍ علی ملکیّته، وبعدم تحقّق الملکیة للمشتری مادام لم یقبل، وعدم‏‎ ‎‏جواز التصرّف فی العوض، ومع هذا فکیف یکون واقعاً بنظره واعتباره؟!‏


کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 24
و کذا‏ قول النائینی ‏‏رحمه الله‏‏: «بأنّ اسم المصدر لا محالة واقع بعد إیجابه وإنشائه،‏‎ ‎‏فهو نظیر الکسر والانکسار من هذه الجهة؛ أی من جهة وقوع اسم المصدر فی‏‎ ‎‏نظره، ومن قبیل الإیجاب والوجوب من جهة وقوعه خارجاً»‏‎[3]‎‏.‏

فإنّ‏ اسم المصدر هو الملکیة، ولو کانت واقعة فی نظره، فلِمَ لا تترتّب علیها‏‎ ‎‏الآثار ـ من التصرّف والانتقال ـ مادام لم یقبل المشتری؟! فلا معنی لحصوله‏‎ ‎‏ووقوعه عنده.‏

‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 25

  • ـ مقابس الأنوار: 115 / السطر 7.
  • ـ المکاسب، ضمن تراث الشیخ الأعظم 16: 18.
  • ـ منیة الطالب 1: 95.