المبحث الثانی: فی أقسام البیع بحسب الأسباب

حول کلام المحقّق النائینی فی عدم شمول الآیة للمعاطاة

حول کلام المحقّق النائینی فی عدم شمول الآیة للمعاطاة

ثمّ إنّه‏ قد یتوهّم عدم شمول الآیة لمثل المعاطاة؛ لأنّ العقد هو الربط المشدّد،‏‎ ‎‏أو العهد الأکید، أو أوکد العهود، وعلی أیّ حال یعتبر فی معناه التوکید، کما‏‎ ‎‏مضی فی عبارة «المجمع» ولا توکید فی المعاطاة؛ لعدم اللفظ فیها، وهو‏‎ ‎‏الباعث للتوکید.‏

قال النائینی ‏رحمه الله‏‏: «لا إشکال فی عدم جریان الآیة فی العقود غیر اللفظیة؛‏‎ ‎‏لأنّ اللزوم إمّا تعبّدی، أو حقّی مالکی، والأوّل کما فی النکاح، وهبة ذی الرحم،‏‎ ‎‏والثانی کما فی البیع، والصلح، ونحوهما؛ فإنّ اللزوم فیها إنّما ینشأ من نفس قول‏‎ ‎‏البیّعین من دون تعبّد فیه أصلاً. ووجه ذلک أ نّه بقوله: «بعت» ینشئ أمرین: ‏

‏1 ـ تبدیل ماله بمال الآخر.‏

‏2 ـ التزامه بما أنشأ.‏

‏فیستفاد من نفس الصیغة اللزوم التزاماً، والشارع أمضی ذلک اللزوم، ولذا‏‎ ‎‏قلنا: إنّ اللزوم فیه لیس حکماً تعبّدیاً محضاً.‏

‏ولیس ما ذکرناه فی المعاطاة؛ لعدم دلالة التزامیة فی الفعل، فإنّ المتکفّل‏‎ ‎‏لدلالة الالتزام إنّما هو اللفظ لا الفعل.‏


کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 122
‏نعم، قد یفهم التوکید وهذا المعنی الالتزامی بشیء آخر غیر اللفظ وغیر‏‎ ‎‏التعاطی، کتصفیق البیّعین»‏‎[1]‎‏.‏

أقول:‏ التزامهما بالوفاء الکامل واللزوم، لیس من جهة معنی اللفظ التزاماً،‏‎ ‎‏بل من جهة بنائهما علیه مقارناً للّفظ فی ذلک؛ فإنّ بناء العقلاء علی الوفاء‏‎ ‎‏واللزوم.‏

‏ثمّ إنّ دلالة الالتزام لا تختصّ باللفظ، بل التحقیق أنّ دلالة الالتزام ـ بل‏‎ ‎‏التضمّن أیضاً ـ لیست دلالة لفظیة، وأنّ الدلالة اللفظیة هی المطابقیة فقط،‏‎ ‎‏فالالتزام والتضمّن یحصلان مبنتون حضور نفس المعنی المطابقی فی الذهن بأیّ‏‎ ‎‏وجه حصل.‏

‏ثمّ إنّه قال فی ذیل کلامه: «إنّ التصفیق یدلّ علی ذلک المعنی الالتزامی»‏‎ ‎‏فیلزمه التفصیل بین معاطاة فیها التصفیق، وما لیس فیها.‏

‏وأمّا دعواه التوکید فی معنی العقد، فنقول: لو کان فی معنی العقد توکید وشدّ،‏‎ ‎‏لم یشمل البیع بالصیغة أیضاً؛ لعدم توکید فی اللفظ، فهو مختصّ بما فیه توکید‏‎ ‎‏من القسم، والعتق، والطلاق، کما کان متداولاً فی الجاهلیة، وأمّا العقود المعاملیة‏‎ ‎‏فلیس فیها توکید، واللزوم فیها حکم شرعی، لا عهد توکیدی، وإلاّ یلزم الدور‏‎ ‎‏فی ‏‏«‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏»‏‎[2]‎‏ لصیرورة معناه: أوفوا بالعقود اللازمة، وبالجملة: اللفظ‏‎ ‎‏لا یحصّل التوکید.‏

ثمّ‏ إنّ اعتبار العقد إنّما هو فی المعاملة المسبّبیة، وتوضیحه أ نّا قلنا: إنّ إطلاق‏‎ ‎‏«العقد» علی المعاملات باستعارة من بعض المعانی اللغویّة، وقلنا: الظاهر هو‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 123
‏الربط، ونقول الآن: مصحّح الاستعارة إنّما هو فی المسبّب؛ أی نفس المبادلة بین‏‎ ‎‏المالین، فإنّها التی یقع فیها الارتباط؛ أی ارتباط التبدیلین: تبدیل البائع، وتبدیل‏‎ ‎‏المشتری، واللفظ إنّما کان سببه. ولا فرق من جهة السبب بین کونه لفظاً أو فعلاً‏‎ ‎‏بعد کون اعتبار العقد فی المسبّب.‏

‏مع أ نّا لا نسلّم أنّ معنی «العقد» هو الربط المشدّد، أو العهد المؤکَّد، وقد‏‎ ‎‏سبق‏‎[3]‎‏ جهة أخذ العهد فی معناه.‏

‏فلنلاحظ اللّغة، هل یعتبر فی معناه الشدّة والتوکید حتّی یلزم فی العقد‏‎ ‎‏الاستعاری أیضاً التوکید والشدّة؟‏

فنقول:‏ ظاهر معنی «العقد» هو الربط من دون اعتبار التوثیق والشدّة فیه؛ فإنّ‏‎ ‎‏اللغویـین یقولون: «تعاقدا، تعاهدا، المتعاقدان، المتعاهدان» ولیس من التوکید‏‎ ‎‏فیها عین ولا أثر، وانظر «المنجد»‏‎[4]‎‏ حیث رسم صورة العقدة بنحو لا یکون فی‏‎ ‎‏محلّ عقدتها شدّة وتوثیق. ومن معانی العقود فی ‏‏«‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏»‏‏ ـ عند‏‎ ‎‏«مجمع البیان» ـ هذه العقود المتعارفة‏‎[5]‎‏، ولیس فیها تأکید، بل لا یتصوّر؛ لما‏‎ ‎‏ذکرنا من أنّ اعتبار العقد فیها من جهة المسبّب، أی المبادلة، وأمرها دائر بین‏‎ ‎‏الوجود والعدم، لا الشدّة والضعف، وإصرار صاحب «لسان العرب»‏‎[6]‎‏ علی‏‎ ‎‏إثبات التوکید لا یثبته فی المعنی الحقیقی، ولو أراده لا نقبله . والظاهر أ نّه لا‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 124
‏یتوجّه إلی المعنی الاستعاری والحقیقی، وإنّما یذکر موارد الاستعمال.‏

‏والعجب من صاحب «الکشّاف» حیث قال: «یقال: وفی بالعهد، وأوفی به،‏‎ ‎‏ومنه ‏‏«‏وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ...‏»‏‏ ‏‎[7]‎‏، والعقد: العهد الموثّق، شبّه بعقد الحبل ونحوه،‏‎ ‎‏قال الحُطَیْئة:‏

‏ ‏

‏قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم‏

‏ ‏‏شدّوا العناج وشدّوا فوقه الکربا»‏‎[8]‎

‏ ‏

‏هذا مع أنّ الشعر الذی استشهد به، یکون علیه لا له؛ فإنّه لو کان فی‏‎ ‎‏معنی العقد شدّة وتوثیق، لم یکن احتیاج إلی التقیید بقوله: «شدّوا العناج...»‏‎ ‎‏إلی آخره.‏

‏وبالجملة: لیس فی معنی العقد شدّة واستیثاق.‏

‏إن قلت، نعم، ولکنّه یحتمل استعارة العقد للمعاملات فی أحد قسمی العقد؛‏‎ ‎‏وهو الذی فیه الاستیثاق.‏

‏قلت: هذا وإن أمکن، لکنّه بعید غایته؛ للزوم الادّعاء فی الادّعاء، بأن یدّعی‏‎ ‎‏أوّلاً أنّ العقد الذی فیه الاستیثاق هو الذی یستحقّ إطلاق اسم «العقد» علیه، ثمّ‏‎ ‎‏یدّعی أنّ المعاملات عقد کذائی وإن لم یکن فیها ربط حسّی. هذا تمام الکلام‏‎ ‎‏فی معنی العقد.‏

وأمّا معنی الوفاء،‏ فهل هو الإتمام وعدم حلّ العقد، أو العمل بمقتضی العقد‏‎ ‎‏من التسلیم والتسلّم؟‏

‏فنقول: الاعتبارات مختلفة، فإنّه قد ترد مادّة الوفاء متعلّقة بالعمل، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فالوفاء بمعنی إتیان ذلک العمل، وقد تتعلّق بنتیجة العمل، کالبیع ونحوه .‏


کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 125
وقد وقع ‏الإشکال فیه، فقیل: «الوفاء فیه بمعنی الإتمام؛ أی عدم حلّه‏‎ ‎‏وفسخه، فلا ارتباط له بالعمل بمقتضاه‏‎[9]‎‏».‏

ولکنّ‏ الظاهر أ نّه لا یختلف الحال بذلک؛ فإنّ القرار تعلّق فی القسم الأوّل‏‎ ‎‏بالعمل، والوفاء به بالعمل علی طبقه، وتعلّق فی القسم الثانی بالنتیجة، والوفاء‏‎ ‎‏بها بالعمل أیضاً علی طبقها، فالوفاء بالبیع الواقع لیس إلاّ بالعمل علی طبق‏‎ ‎‏القرار. فمجرّد أنّ الوفاء فی اللغة بمعنی الإتمام، لا یکون سبباً لما نفهم عرفاً من‏‎ ‎‏الوفاء المتعلّق بالنتائج.‏

‏هذا مع أنّ الإتمام فی النتائج أیضاً بمعنی العمل؛ فإنّ العقد الواقع لا إتمام له‏‎ ‎‏سوی العمل بمقتضاه، فاللغة أیضاً موافقة.‏

وحینئذٍ‏ یرد إشکال: وهو أنّ الوفاء لو کان بمعنی العمل علی مقتضی العقد،‏‎ ‎‏وکان المراد بالعمل هو التسلیم والتسلّم، فهذا لا یتصوّر فی المعاطاة؛ لحصول‏‎ ‎‏التسلیم والتسلّم بالتعاطی.‏

‏اللّهمّ إلاّ فی المعاطاة بالأخذ والإعطاء فی أحد العوضین فقط کما فی السلم‏‎ ‎‏والنسیئة.‏

أو‏ یقال: المراد بالعمل الذی هو الوفاء، معنی أوسع؛ بحیث یشمل عدم‏‎ ‎‏استرجاع ما سلّمه بعنوان الاسترجاع، وردّ ما أعطاه، لا بعنوان الغصب ونحوه،‏‎ ‎‏وحینئذٍ یتصوّر الوفاء فی التعاطی أیضاً. والظاهر هو الأخیر.‏

ثمّ إنّه‏ یمکن أن یقال: الوفاء بحسب الاستعمالات، مشترک لفظاً بین الإتمام‏‎ ‎‏والعمل؛ لأنّا نری استعمال «الوفاء» فی بعض الموارد مع الباء، وهو فیما إذا‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 126
‏استعمل فی العقود، نحو: ‏‏«‏أَوْفُوا بالْعُقُودِ‏»‏‏، ‏‏«‏أَوْفُوا بِعَهْدِی أُوْفِ بِعَهْدِکُمْ...‏»‏‎[10]‎‏.‏

‏نعم، فی مورد واحد قال تعالی: ‏‏«‏وَلْیُوفُوا نُذُورَهُمْ‏»‏‎[11]‎‏ بدون الباء.‏

‏وأمّا إذا استعمل فی الکیل والمکیال، فیستعمل بدون الباء؛ بحیث لا یشذّ عن‏‎ ‎‏هذا مورد، نحو ‏‏«‏أَوْفُوا الْکَیْلَ‏»‏‎[12]‎‏، ‏‏«‏أوْفُوا الْمِکْیَالَ‏»‏‎[13]‎‏، وغیر ذلک.‏

‏والمنساق إلی الذهن الفرق بین الاستعمالین؛ ففی الأوّل بمعنی العمل، وفی‏‎ ‎‏الثانی بمعنی الإتمام، وحینئذٍ فإن تعلّق النذر بالعمل کخیاطة ثوب عالم، أو‏‎ ‎‏بالنتیجة کنذر أن یکون هذا ملک زید ـ لو قلنا بصحّته فی النتیجة ـ فالوفاء‏‎ ‎‏بمعنی واحد؛ وهو العمل فیهما.‏

ومن‏ هنا نقول بوهن التمسّک بالآیة فی باب الخیار؛ إذ لیس الوفاء بمعنی‏‎ ‎‏عدم الحلّ، والسرّ فی ذلک أنّ فی موارد استعمال الوفاء مع الباء، کأ نّه جعل‏‎ ‎‏وجود العقد ـ مع قطع النظر عن الوفاء به ـ مفروغاً عنه، وأوجب العمل بمقتضاه،‏‎ ‎‏کما یقال فی الوفاء بالصداقة: «إنّه العمل بلوازمها ومقتضیاتها» ومن لا یعمل‏‎ ‎‏بلوازمها لا یعدم الصداقة. وقد ظهر بما ذکرنا إثبات صحّة المعاملات بالآیة‏‎ ‎‏الشریفة.‏

بقیت إشکالات‏ فی عموم الآیة لو دفعناها، لزمت صحّة جمیع المعاملات‏‎ ‎‏التی لم یردع عنها الشارع؛ حتّی المستحدثات التی لم یکن منها فی السابق عین‏‎ ‎‏ولا أثر.‏

‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 127

  • ـ منیة الطالب 1: 123.
  • ـ المائدة (5): 1.
  • ـ تقدّم فی الصفحة 120 .
  • ـ اُنظر المنجد، الطبعة التاسعة: 542 وقد حذفت صورة العقدة من الطبعة المتداولة  الجدیدة.
  • ـ مجمع البیان 3: 233.
  • ـ لسان العرب 9: 309.
  • ـ البقرة (2): 177.
  • ـ الکشّاف 1: 600؛ دیوان الحطیئة: 16.
  • ـ حاشیة المکاسب، المحقّق الأصفهانی 1: 145 .
  • ـ البقرة (2 ): 40.
  • ـ الحج (22): 29.
  • ـ الأنعام (6): 152؛ الأعراف (7): 85؛ الإسراء (17): 35؛ الشعراء (26): 181.
  • ـ هود 11: 85.