تقریب الاستدلال بالمستثنی منه
أمّا المستثنی منه، ففیها احتمالان:
الأوّل: أنّ الآیة سیقت لبیان المنع من نفوذ الأسباب الباطلة عند العرف، کالقمار، والربا، والبیع بالمنابذة، والحصاة، وغیر ذلک من الأسباب الباطلة عندهم؛ بحیث کان قوله: «لاَ تَأْکُلُوا» کنایةً عن عدم نفوذ الأسباب الباطلة ولغویتها عند المنع عنها، وعلی هذا الاحتمال فوجه التمسّک بها ظاهر؛ إذ المعاطاة عند العرف بیع لازم ومعاملة لازمة، ویری فسخ المالک الأصلی باطلاً، وتملّکه به من سبب باطل، ومتی شکّ فی بطلانه عند الشارع أیضاً ـ باحتمال
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 190
تجویز الشارع لهذا السبب وخروجه عن الباطل، کما فی حقّ الشفعة، والمارّة، والفسخ بخیار ـ یتمسّک بعموم الآیة لدفع هذا الاحتمال؛ إذ فسخ المعاطاة من الأسباب الباطلة عند العرف والعقلاء، والآیة قد منعت من نفوذها، فیشمله المنع أیضاً.
والثانی: أن یکون الأکل کنایةً عن التصرّف فی المال، والمعنی: لا تتصرّفوا فی الأموال الحاصلة من أسباب باطلة.
والفرق بین هذا وسابقه: أنّ الآیة علی الاحتمال السابق سیقت لبیان عدم نفوذ الأسباب الباطلة ابتداءً، وهنا لبیان عدم جواز التصرّف فیما یحصل منها من الأموال، ولازمه عدم نفوذ سببها، وإذا کان الفسخ فی المعاطاة عند العرف من الاُمور الباطلة، صار أکل المال الحاصل منه محرّماً، ویلزمه عدم نفوذ سببه.
هذا، ولکن هنا مطلب: وهو أنّ موارد خروج بعض الأسباب الباطلة عند العرف عن الباطل عند الشارع ـ مثل حقّ الشفعة، وحقّ الخیار، والمارّة، ونحوها؛ ممّا یکون باطلاً عرفاً مع قطع النظر عن حکم الشارع بجوازه ـ إن کان بالتخصیص بأن کان باطلاً ومع ذلک أخرجه الشارع عن حکم البطلان وهو عدم النفوذ، فجعله نافذاً مع حفظ موضوع الباطل، فلا إشکال فی التمسّک بالآیة فیما نحن فیه؛ إذ احتمال التخصیص بخروج الفسخ هنا أیضاً عن حکم الباطل، لا یخلّ بالتمسّک بالعامّ.
لکن هذا مستهجن عرفاً؛ إذ لا یقبل الطبع بقاء الباطل علی بطلانه، ومع ذلک جوّزه الشارع، وأنفذه، ورخّص فی ارتکاب هذا الباطل الخاصّ، فلابدّ من أن یکون خروج هذه الموارد علی نحو التخصّص، نظیر ما قلنا فی السلطنة؛ بمعنی أنّ بطلان السبب عند العرف هو مادام لم ینفذه الشارع، وأمّا إذا أنفذه فلیس
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 191
باطلاً حینئذٍ عندهم، فحقّ المارّة مثلاً والخیار والشفعة، باطل قبل جعل الشارع تلک الحقوق، وأمّا إذا جعل من یملک السماوات والأرضین حقّاً فی تلک الموارد، فلا یراه العرف باطلاً، نظیر السلطنة،
وحینئذٍ إن کان ذلک القید والتعلیق فی بطلان الأسباب ظاهراً عند العرف ـ بحیث صار مثل القرائن المحفوفة بالکلام ـ فلا یجوز التمسّک بعموم اُلقی علیهم فی المنع عن نفوذ الأسباب الباطلة؛ لأنّه اُلقی علیهم مقیّداً، ویصیر الشکّ فی المصداق؛ إذ یحتمل أن یکون من مصادیق المخرج من العامّ.
وإن لم یکن بهذه المثابة، بل بمعونة النظر والتأمّل یراه العرف مقیّداً، کما هو الحقّ وقلنا به فی دلیل السلطنة، فلا إشکال فی التمسّک بالعامّ؛ لعدم قید فیه.
وبالجملة: قد یکون التقیّد اللبّی ـ أعنی ما عند العقلاء والعرف من القید ـ من الظهور بحیث صار مثل القید المتّصل بالکلام الذی یمنع من انعقاد الظهور ابتداءً، وقد لا یکون کذلک، بل کان بمثابة القید المنفصل عن الکلام الذی لا یمنع من انعقاد الظهور اللفظی أوّلاً، وما نحن فیه من قبیل الثانی، فلا مانع من التمسّک بظهور العامّ.
ومع هذا فبین الآیة ودلیل السلطنة فرق: وهو أنّ الموضوع فی دلیل السلطنة محفوظ؛ وهو المال، والتعلیق فی حکم السلطنة، وفی الآیة موضوع الحکم أکل المال من سبب باطل؛ إذ الحرمة قد تعلّقت بهذا المرکّب، ومتی شکّ فی کلّ من أجزائه تصیر الشبهة مصداقیة لا یجوز التمسّک بعموم الحکم فیها، فلو کان المال مشکوکاً أو الأکل مشکوکاً فی مورد، لا یصحّ التمسّک بالآیة فیه، وفیما نحن بصدد إثباته ـ أعنی بطلان فسخ المالک ـ کان البطلان مشکوکاً؛ إذ نحتمل عدم بطلانه، لإخراجه شرعاً من الباطل. وقد عرفت أنّ الباطل عند العرف مقیّد بعدم
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 192
نفوذه شرعاً، وحینئذٍ الآیة تفید عدم جواز الأکل من الأموال الحاصلة من الأسباب الباطلة عند العرف. ونحن نشکّ فی بطلان هذا السبب ـ أعنی الفسخ ـ عند العرف وعدمه، ومع الشکّ یکون التمسّک بالآیة فی بطلانه شرعاً وعدم نفوذه، تمسّکاً بالعامّ فی المصداق المشتبه؛ إذ قد عرفت أنّ الشکّ یرجع إلی أنّ هذا السبب هل یکون من الأسباب الباطلة أم لا؟ وهو شکّ فی تحقّق موضوع الحکم فی الآیة، فلا یتمسّک.
وأمّا فی دلیل السلطنة فحیث کان الموضوع ـ أعنی المال ـ محفوظاً، واحتمال التعلیق والتقیّد لیس فی الموضوع، بل فی الحکم، فلا مانع من التمسّک بعمومه لدفع الاحتمال، وأمّا هنا فالتقیّد المحتمل ـ أعنی خروج السبب عن الباطل ـ یکون فی الموضوع؛ وهو أکل المال بالباطل، فتصیر الشبهة مصداقیة. وهذا الإیراد جارٍ علی کلا الاحتمالین، وعلیه فلا مجال للتمسّک بجملة المستثنی منه فی لغویة الفسخ وعدم نفوذه إلاّ علی تقدیر التخصیص، وهو بعید غایة البعد.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 193