التقریبات الثلاثة لدلالة الآیة علی اللزوم
إذا عرفت ذلک فنقول:
قد یقال فی تقریب الاستدلال بالآیة: بأنّ الآیة سیقت لإنشاء اللزوم فی العقد بإیجاب الوفاء بمقتضاه؛ بمعنی أنّ المقصود من وجوب الوفاء بمقتضی العقد وترتیب آثاره علیه، بیان أنّ العقد لازم، لا بنحو الإخبار؛ بأن کان لازماً ویکشف عنه، بل بهذا الأمر یجعل العقد لازماً، ویوضع فیه اللزوم.
ونظیره فی العرف کثیر، کمن قدم علی دار شخص فقال له: «اذبح الدجاجة» کنایة عن کونه فی منزله للأکل، ولیس مقصوده الذبح، بل قد لا تکون له دجاجة، وقد لا یأکل منها لو ذبحت، فإنّ الکنایة إطلاق اللازم وإرادة الملزوم منه، کقوله: «زید کثیر الرماد» أو «طویل النجاد» فإنّ المقصود لیس بیان کثرة رماده أو طول نجاده، بل قد لا یکون له ذلک، بل بیان سخاوة زید وطول قامته. وما نحن فیه أیضاً من هذا القبیل؛ إذ لزوم العقد یستلزم وجوب الوفاء بمقتضاه، فیکون الوفاء به ـ أی العمل علی طبق مقتضاه ـ لازماً؛ للزوم العقد، فاُطلق اللازم واُرید منه ملزومه؛ وهو اللزوم. نظیر الأوامر الواردة فی وجوب بعض
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 211
الأجزاء والشرائط لماهیة العبادات، فإنّ المراد منها جعل الجزئیة والشرطیة بإیجابهما.
وحاصل هذا التقریب: أنّ الوفاء بالعقد لیس تکلیفاً وواجباً تعبّدیاً، ولیس إخباراً عن اللزوم، بل هو إنشاء للزوم العقد بإنشاء لازمه، وبعد صیرورة العقد لازماً وکون المعاطاة أیضاً عقداً، یتمّ الاستدلال.
وقد یقال فی تقریب الآیة: بأنّ الظاهر من الأحکام الموجود نظیرها عند العرف والعقلاء، أن یکون تأکیداً لما عندهم، لا تأسیساً، ومنها حکم وجوب الوفاء بالعقد، فإنّ العقلاء یوجبون الوفاء بالمعاهدات والقرارات بینهم، ویکون غرضهم من هذا وجوب العمل بما یقتضیه العقد، ولیس نفس العقد بما هو موضوعاً له حتّی یکون الناقض عندهم مستحقّاً لعقابین؛ أوّلهما: نقضه العقد، وثانیهما: لأجل ترک العمل، نظیر بنائهم فی العمل بقول الثقة، فإنّهم یرتّبون علی قول الثقة آثار الواقع، ویستحقّ المتخلّف العقاب عندهم لتخلّف الواقع، لا لترک العمل بقوله وتخلّف الواقع؛ حتّی یستحقّ عقابین، فإذا حکم الشارع بوجوب العمل بقول الثقة، فحکمه أیضاً یکون عین بناء العقلاء علی عدم موضوعیة الثقة فی العقاب.
وکذا یجب الوفاء عندهم، ویلزم العمل بما یقتضیه العقد؛ لأنّ العقد لازم ولا یقبل الحلّ، وإلاّ فلا یعقل وجوب العمل بمقتضی العقد ولزومه عندهم مع أنّ زمام العقد بیده، ویقدر علی حلّه، فهذا اللزوم وإن کان واحداً، وغرضهم منه نفس العمل وترتیب آثار العقد، ولیس لزوم العقد بما هو موضوعاً عندهم، ولا یستحقّ الناقض عندهم من العقاب إلاّ واحداً لأجل ترک العمل بمقتضاه، لا عقابین: أحدهما له، والآخر لأجل ترک الوفاء بالعقد، ولکن نفس هذا اللزوم
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 212
والوجوب یکشف عن لزوم العقد، وعدم قابلیته للانحلال والفسخ، وحینئذٍ فحکم الشارع بوجوب الوفاء بمقتضی العقد، لیس حکماً تعبّدیاً، بل هو تأکید لما عند العقلاء من لزوم العمل بما یقتضیه العقد وکونه موضوعاً، ولکن نستکشف من هذا اللزوم والوجوب لزوم العقد أیضاً، وبقاءه وعدم انحلاله.
والفرق بین هذا وسابقه: أنّ فی السابق کان اللزوم المجعول أوّلاً فی العقد، وکان لزوم الوفاء بما یقتضیه آلةً له، وطریقاً إلی جعله، وفی هذا یکون الموضوع نفس العمل بما یقتضیه العقد، ویکون اللزوم مجعولاً فیه، ویلزمه لزوم العقد وبقاؤه. هذا علی فرض عدم کون الوفاء أمراً تکلیفیاً تعبّدیاً.
وقد یقال: بأنّ الأمر بالوفاء أمر تکلیفی تعبّدی، وهنا احتمالان:
أحدهما: أن یکون وجوب الوفاء بمقتضی العقد والعمل علی طبقه؛ لأجل وجوب العمل بالعقد وجوباً تکلیفیاً وعدم جواز حلّه، بأن کان هنا وجوبان؛ أحدهما: فی العقد، والآخر: فیما یقتضیه من العمل، وکان الثانی متولّداً من الأوّل؛ بأن کان متفرّعاً علیه، وذلک لعدم صحّة إیجاب العمل بما یقتضیه العقد وترتیب آثاره علیه مع عدم وجوب الوفاء بنفس العقد؛ بمعنی جواز فسخه وحلّه من رأس.
وثانیهما: أن یکون هذا الوجوب التکلیفی فی مقتضی العقد، ناشئاً من لزوم العقد وضعاً؛ بأن ینتزع منه لزوم العقد وضعاً، ویکون وجوب العمل بما یقتضیه؛ لأجل عدم قابلیته للحلّ والفسخ وکونه لازماً وضعاً وجعلاً، وهو أیضاً ـ کسابقه ـ لأجل المنافاة وعدم الصحّة بین الإیجاب المذکور وقابلیة حلّ العقد وکون زمامه بید العاقد.
والظاهر قوّة الاحتمال الثانی وضعف الأوّل؛ لأنّ الوجدان حاکم بعدم ثبوت
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 213
وجوبین وتکلیفین حتّی یکون المتخلّف معاقباً علیهما بعقابین، بل هو تکلیف وأمر واحد بالوفاء بما یقتضیه العقد من العمل علی طبقه وترتیب آثاره علیه، ویکشف ذلک عن لزومه وضعاً.
ثمّ اعلم: أ نّه لا فرق فی الاستدلال بالآیة بین التقریبات الثلاثة، فتدلّ علی لزوم العقد؛ سواء قلنا بأ نّه بیان اللازم وإرادة الملزوم؛ أعنی لزوم العقد، أو قلنا بأنّ مفادها اللزوم واللابدّیة العقلائیة، ولازمه لزوم العقد، أو قلنا بأ نّها لإفادة حکم تکلیفی، ویلزمه الوضعی، فإنّه علی کلّ هذه التقادیر یثبت لزوم العقد بلا فرق بینها.
نعم، مقتضی الجمود علی اللفظ والظاهر من الأمر الاحتمال الأخیر؛ وهو بیان التکلیف، ولکن لم یلتزم أحد ـ فیما لم یردّ المبیع وحبسه ـ بأ نّه معاقب بعقابین ومرتکب لحرامین؛ أحدهما: من أجل حبس مال الغیر، والآخر: من جهة مخالفة الأمر وعدم الوفاء، بل الظاهر أ نّه یعاقب علی حبس مال الغیر فقط، وهذا دلیل علی أنّ الأمر بالوفاء لیس تکلیفیاً، وإلاّ لاستحقّ العقاب علی مخالفته، خصوصاً مع اعتبار مثله عند العقلاء، فهو عین ما یعتبر عندهم من لزوم العقد، ووجوب التسلیم والتسلّم، والعمل بمقتضی المعاقدة.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 214