المبحث الثانی: فی أقسام البیع بحسب الأسباب

التقریبات الثلاثة لدلالة الآیة علی اللزوم

التقریبات الثلاثة لدلالة الآیة علی اللزوم

‏إذا عرفت ذلک فنقول:‏

قد یقال‏ فی تقریب الاستدلال بالآیة: بأنّ الآیة سیقت لإنشاء اللزوم فی العقد‏‎ ‎‏بإیجاب الوفاء بمقتضاه؛ بمعنی أنّ المقصود من وجوب الوفاء بمقتضی العقد‏‎ ‎‏وترتیب آثاره علیه، بیان أنّ العقد لازم، لا بنحو الإخبار؛ بأن کان لازماً‏‎ ‎‏ویکشف عنه، بل بهذا الأمر یجعل العقد لازماً، ویوضع فیه اللزوم.‏

‏ونظیره فی العرف کثیر، کمن قدم علی دار شخص فقال له: «اذبح الدجاجة»‏‎ ‎‏کنایة عن کونه فی منزله للأکل، ولیس مقصوده الذبح، بل قد لا تکون له‏‎ ‎‏دجاجة، وقد لا یأکل منها لو ذبحت، فإنّ الکنایة إطلاق اللازم وإرادة الملزوم‏‎ ‎‏منه، کقوله: «زید کثیر الرماد» أو «طویل النجاد» فإنّ المقصود لیس بیان کثرة‏‎ ‎‏رماده أو طول نجاده، بل قد لا یکون له ذلک، بل بیان سخاوة زید وطول قامته.‏‎ ‎‏وما نحن فیه أیضاً من هذا القبیل؛ إذ لزوم العقد یستلزم وجوب الوفاء بمقتضاه،‏‎ ‎‏فیکون الوفاء به ـ أی العمل علی طبق مقتضاه ـ لازماً؛ للزوم العقد، فاُطلق‏‎ ‎‏اللازم واُرید منه ملزومه؛ وهو اللزوم. نظیر الأوامر الواردة فی وجوب بعض‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 211
‏الأجزاء والشرائط لماهیة العبادات، فإنّ المراد منها جعل الجزئیة والشرطیة‏‎ ‎‏بإیجابهما.‏

‏وحاصل هذا التقریب: أنّ الوفاء بالعقد لیس تکلیفاً وواجباً تعبّدیاً، ولیس‏‎ ‎‏إخباراً عن اللزوم، بل هو إنشاء للزوم العقد بإنشاء لازمه، وبعد صیرورة العقد‏‎ ‎‏لازماً وکون المعاطاة أیضاً عقداً، یتمّ الاستدلال.‏

وقد یقال‏ فی تقریب الآیة: بأنّ الظاهر من الأحکام الموجود نظیرها عند‏‎ ‎‏العرف والعقلاء، أن یکون تأکیداً لما عندهم، لا تأسیساً، ومنها حکم وجوب‏‎ ‎‏الوفاء بالعقد، فإنّ العقلاء یوجبون الوفاء بالمعاهدات والقرارات بینهم، ویکون‏‎ ‎‏غرضهم من هذا وجوب العمل بما یقتضیه العقد، ولیس نفس العقد بما هو‏‎ ‎‏موضوعاً له حتّی یکون الناقض عندهم مستحقّاً لعقابین؛ أوّلهما: نقضه العقد،‏‎ ‎‏وثانیهما: لأجل ترک العمل، نظیر بنائهم فی العمل بقول الثقة، فإنّهم یرتّبون علی‏‎ ‎‏قول الثقة آثار الواقع، ویستحقّ المتخلّف العقاب عندهم لتخلّف الواقع، لا لترک‏‎ ‎‏العمل بقوله وتخلّف الواقع؛ حتّی یستحقّ عقابین، فإذا حکم الشارع بوجوب‏‎ ‎‏العمل بقول الثقة، فحکمه أیضاً یکون عین بناء العقلاء علی عدم موضوعیة الثقة‏‎ ‎‏فی العقاب.‏

‏وکذا یجب الوفاء عندهم، ویلزم العمل بما یقتضیه العقد؛ لأنّ العقد لازم ولا‏‎ ‎‏یقبل الحلّ، وإلاّ فلا یعقل وجوب العمل بمقتضی العقد ولزومه عندهم مع أنّ‏‎ ‎‏زمام العقد بیده، ویقدر علی حلّه، فهذا اللزوم وإن کان واحداً، وغرضهم منه‏‎ ‎‏نفس العمل وترتیب آثار العقد، ولیس لزوم العقد بما هو موضوعاً عندهم، ولا‏‎ ‎‏یستحقّ الناقض عندهم من العقاب إلاّ واحداً لأجل ترک العمل بمقتضاه، لا‏‎ ‎‏عقابین: أحدهما له، والآخر لأجل ترک الوفاء بالعقد، ولکن نفس هذا اللزوم‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 212
‏والوجوب یکشف عن لزوم العقد، وعدم قابلیته للانحلال والفسخ، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فحکم الشارع بوجوب الوفاء بمقتضی العقد، لیس حکماً تعبّدیاً، بل هو تأکید‏‎ ‎‏لما عند العقلاء من لزوم العمل بما یقتضیه العقد وکونه موضوعاً، ولکن‏‎ ‎‏نستکشف من هذا اللزوم والوجوب لزوم العقد أیضاً، وبقاءه وعدم انحلاله.‏

‏والفرق بین هذا وسابقه: أنّ فی السابق کان اللزوم المجعول أوّلاً فی العقد،‏‎ ‎‏وکان لزوم الوفاء بما یقتضیه آلةً له، وطریقاً إلی جعله، وفی هذا یکون الموضوع‏‎ ‎‏نفس العمل بما یقتضیه العقد، ویکون اللزوم مجعولاً فیه، ویلزمه لزوم العقد‏‎ ‎‏وبقاؤه. هذا علی فرض عدم کون الوفاء أمراً تکلیفیاً تعبّدیاً.‏

وقد یقال:‏ بأنّ الأمر بالوفاء أمر تکلیفی تعبّدی، وهنا احتمالان:‏

‏أحدهما: أن یکون وجوب الوفاء بمقتضی العقد والعمل علی طبقه؛ لأجل‏‎ ‎‏وجوب العمل بالعقد وجوباً تکلیفیاً وعدم جواز حلّه، بأن کان هنا وجوبان؛‏‎ ‎‏أحدهما: فی العقد، والآخر: فیما یقتضیه من العمل، وکان الثانی متولّداً من‏‎ ‎‏الأوّل؛ بأن کان متفرّعاً علیه، وذلک لعدم صحّة إیجاب العمل بما یقتضیه العقد‏‎ ‎‏وترتیب آثاره علیه مع عدم وجوب الوفاء بنفس العقد؛ بمعنی جواز فسخه‏‎ ‎‏وحلّه من رأس.‏

‏وثانیهما: أن یکون هذا الوجوب التکلیفی فی مقتضی العقد، ناشئاً من‏‎ ‎‏لزوم العقد وضعاً؛ بأن ینتزع منه لزوم العقد وضعاً، ویکون وجوب العمل بما‏‎ ‎‏یقتضیه؛ لأجل عدم قابلیته للحلّ والفسخ وکونه لازماً وضعاً وجعلاً، وهو أیضاً‏‎ ‎‏ـ کسابقه ـ لأجل المنافاة وعدم الصحّة بین الإیجاب المذکور وقابلیة حلّ العقد‏‎ ‎‏وکون زمامه بید العاقد.‏

‏والظاهر قوّة الاحتمال الثانی وضعف الأوّل؛ لأنّ الوجدان حاکم بعدم ثبوت‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 213
‏وجوبین وتکلیفین حتّی یکون المتخلّف معاقباً علیهما بعقابین، بل هو تکلیف‏‎ ‎‏وأمر واحد بالوفاء بما یقتضیه العقد من العمل علی طبقه وترتیب آثاره علیه،‏‎ ‎‏ویکشف ذلک عن لزومه وضعاً.‏

ثمّ اعلم:‏ أ نّه لا فرق فی الاستدلال بالآیة بین التقریبات الثلاثة، فتدلّ علی‏‎ ‎‏لزوم العقد؛ سواء قلنا بأ نّه بیان اللازم وإرادة الملزوم؛ أعنی لزوم العقد، أو قلنا‏‎ ‎‏بأنّ مفادها اللزوم واللابدّیة العقلائیة، ولازمه لزوم العقد، أو قلنا بأ نّها لإفادة‏‎ ‎‏حکم تکلیفی، ویلزمه الوضعی، فإنّه علی کلّ هذه التقادیر یثبت لزوم العقد بلا‏‎ ‎‏فرق بینها.‏

نعم،‏ مقتضی الجمود علی اللفظ والظاهر من الأمر الاحتمال الأخیر؛ وهو‏‎ ‎‏بیان التکلیف، ولکن لم یلتزم أحد ـ فیما لم یردّ المبیع وحبسه ـ بأ نّه معاقب‏‎ ‎‏بعقابین ومرتکب لحرامین؛ أحدهما: من أجل حبس مال الغیر، والآخر: من جهة‏‎ ‎‏مخالفة الأمر وعدم الوفاء، بل الظاهر أ نّه یعاقب علی حبس مال الغیر فقط، ‏‎ ‎‏وهذا دلیل علی أنّ الأمر بالوفاء لیس تکلیفیاً، وإلاّ لاستحقّ العقاب علی ‏‎ ‎‏مخالفته، خصوصاً مع اعتبار مثله عند العقلاء، فهو عین ما یعتبر عندهم من لزوم ‏‎ ‎‏العقد، ووجوب التسلیم والتسلّم، والعمل بمقتضی المعاقدة.‏

‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 214