تقریر کلام الشیخ الأعظم فی المقام
وهنا تقریبان آخران لدلالة الآیة:
الأوّل: ما یظهر من صدر کلام الشیخ لو لا ذیل کلامه، وبیانه أنّ المتعاملین والمتعاقدین بالعقد ـ معاطاةً کان أو غیرها ـ یمکن أن یتصرّف کلّ منهما فیما انتقل إلی صاحبه بالعقد تارةً: بعنوان أ نّه مال الغیر بغیر إذنه غصباً، واُخری: بداعی نقض العقد والمعاهدة؛ بأن کان غرضه من التصرّف نقض العقد وفسخه، ومقتضی وجوب الوفاء بالعقد حرمة التصرّف الناقض للعقد، فیحرم ذلک التصرّف؛ وذلک لأنّ المراد بالوفاء بالعقد العمل بما اقتضاه العقد من ترتیب آثار ملک الغیر علیه، وعدم أخذه منه، والتصرّف فیه بعنوان نقض ملکیته، فیحرم التصرّف الذی کان نقضاً لمقتضی العقد، وإذا حرم أخذ المالک الأصلی وتصرّفه بعنوان الفسخ والنقض بمقتضی الآیة، یستکشف منه لزوم العقد وضعاً؛ إذ لو کان جائزاً قابلاً للحلّ والنقض فبالأخذ المبرز للفسخ ینحلّ، وبعد انحلاله یصیر ملکاً له، فلا موجب لحرمة تصرّفه فی ماله، وإذا کان مقتضی عموم الآیة وإطلاقها حرمة هذا التصرّف ـ أعنی ما یرید به الفسخ والنقض ـ فلازمه لزوم المعاملة؛ لأنّه تصرّف فی ماله، لا فی مال الغیر حتّی یحرم بالآیة.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 220
إن قلت: الفسخ المعاطاتی ـ أعنی الفسخ بالتصرّف ـ هو أوّل الکلام من حیث الصحّة وعدمها.
قلت أوّلاً: فرغنا من صحّة المعاطاة، والبحث هنا عن لزومها.
وثانیاً: لیس المعاطاة فی غیر البیع من أبواب المعاملات وغیرها، نظیرها فی البیع من حیث البحث والاختلاف، ولعلّه لا إشکال صحّتها فیها؛ لاقتضاء القواعد، وفی البیع ـ من جهة الإجماع المتوهّم فیه ـ یکون محلّ الآراء والنقض والإبرام.
ولکنّ الإنصاف: أنّ التصرّف الناقض إن کان متأخّراً عن الفسخ ـ بأن کان الفسخ آناًمّا قبل التصرّف حاصلاً؛ بحیث کان إیصال الید إلی ماله وإبراز إرادة الفسخ به فسخاً للعقد لو کان هنا فسخ ـ فیقع إشکال التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة؛ إذ بعد حصول الفسخ المشکوک نفوذه فی حلّ العقد، کان وجود العقد لنا مشکوکاً، ومع الشکّ فی الموضوع لا یمکن التمسّک لحرمة التصرّف بالآیة؛ إذ إطلاق وجوب الوفاء یشمل حرمة النقض بالتصرّف الکذائی إذا کان وجود العقد مفروغاً عنه، وأمّا إذا کان وجوده مشکوکاً بعد فسخه ـ یعنی بعد المبرز لإرادة الفسخ والنقض؛ إذ هو فسخ فعلی علی المفروض ـ فلا یشمل إطلاقها التصرّف الواقع بعده حتّی یقتضی حرمته.
وإن کان الفسخ حاصلاً بسبب التصرّف ـ بأن کان سبباً لحصول الفسخ ـ فالتصرّف الواقع فی المال تصرّف فی مال الغیر؛ إذ الفسخ یقع بعده، وهو حرام؛ سواء کان العقد لازماً، أو جائزاً، إذ لا منافاة بین حرمته، ونفوذ الفسخ الواقع به وصیرورته مالاً له بعده، فلا یکشف لزوم العقد به.
وهذا التقریب یظهر من صدر عبارة الشیخ رحمه الله هذا عین عبارته رحمه الله:
«والمراد بوجوب الوفاء العمل بما اقتضاه العقد فی نفسه بحسب دلالته
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 221
اللفظیة، نظیر الوفاء بالنذر، فإذا دلّ العقد مثلاً علی تملیک العاقد ماله من غیره، وجب العمل بما یقتضیه التملیک من ترتیب آثار ملکیة ذلک الغیر له، فأخذه من یده بغیر رضاه والتصرّف فیه کذلک، نقض لمقتضی ذلک العهد، فهو حرام».
هذا ما یستفاد منه هذا التقریب بتوضیحٍ ذکرناه.
والثانی: وهو ما یظهر من تمام عبارة الشیخ رحمه الله صدراً وذیلاً؛ وهو أنّ مقتضی وجوب الوفاء بالعقد العمل بما یقتضیه العقد؛ من ترتیب آثار ملک الغیر، وعدم التصرّف فیه بغیر إذنه تصرّفاً ناقضاً للعقد، فالتصرّفات الناقضة للعقد والملکیة له حرام، وإذا حرم بإطلاقها جمیع ما یکون نقضاً لمضمون العقد ـ ومنها التصرّفات الواقعة بعد الفسخ ـ کان هذا لازماً مساویاً للزوم العقد وعدم انفساخه بمجرّد فسخ أحدهما، فیستدلّ بالحکم التکلیفی علی الحکم الوضعی؛ أعنی فساد الفسخ من أحدهما بغیر رضا الآخر، وهو معنی اللزوم.
وعلی هذا فلا یرد: أنّ وجوب الوفاء بما یقتضیه العقد لا یدلّ علی حرمة التصرّف؛ إذ التصرّف من مقتضیات الملک لا العقد، فهو من مقتضیات ما یقتضیه العقد لا نفسه.
إذ لیس مناط الاستدلال وغرض الشیخ رحمه الله حرمة جمیع التصرّفات، بل المراد حرمة التصرّفات الناقضة للملکیة، فالوفاء بالعقد ـ وهو ترتیب آثار ملک الغیر ـ یلزمه حرمة نقضه بالتصرّف الناقض له فیه.
وقد أورد المحقّق الأصفهانی علی الشیخ بما حاصله: أنّ الأمر الانتزاعی ما یکون وجوده بوجود منشأ انتزاعه، ویصحّ حمله علیه، کالفوقیة التی تنتزع من
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 222
السقف مثلاً، والابنیة من الابن والاُبوة من الأب، فیصحّ حمله علیه ویقال: «هذا فوق» أو «ابن» أو «أب» وهکذا، ولا یصحّ حمل الملک علی جواز التصرّف المنتزع منه، أو حمل اللزوم علی حرمة التصرّف المنتزع منه فی المقام.
والجواب عنه: بأنّ المراد بانتزاعیة الأحکام الوضعیة من التکلیفات، لیس الانتزاعیة التکوینیة، بل المراد أنّ الملکیة مثلاً حیث کانت من اعتبارات العقلاء، ولیس اعتبارهم جزافاً وبلا وجه، بل لابدّ من منشأ لاعتبارهم، فإذا کان شیء فاقد الأثر بالنهی عنه ـ کما إذا قال: «یحرم علیک جمیع التصرّفات والتقلّبات فیه» ـ فلا یعتبرون الملکیة فیه؛ لعدم أثر فیه أصلاً، وإذا قال: «یجوز لک التصرّف بأنحاء التصرّف» یعتبرون الملکیة، فالملکیة أمر اعتباری، ولکن لیس اعتبارها مستقلاًّ وقابلاً للجعل المستقلّ، بل اعتبارها عقیب التکلیف بتجویز التصرّف فیه، وکذا النجاسة وغیرها من الأحکام الوضعیة، وفی المقام إذا کان تصرّف المالک الأصلی فیما انتقل إلی صاحبه حراماً تکلیفاً، ولیس له التصرّف فیه، فیعتبرون اللزوم فی المعاملة؛ وذلک لعدم اعتبارهم ملکیته للفسخ، لحرمة التصرّف فیه، وعدم اعتبار الملکیة له لازم مساوٍ لملکیة المالک وبقاء العقد، وهو معنی لزومه، فیکشف من حرمة التصرّف ـ الذی هو مدلول الآیة التزاماً ـ لزوم العقد.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 223