المبحث الثانی: فی أقسام البیع بحسب الأسباب

أجوبة المحقّق الشیرازی عن الشبهة ونقدها

أجوبة المحقّق الشیرازی عن الشبهة ونقدها

‏وقد اُجیب أیضاً عن الإشکال بوجوه ذکرها المیرزا محمّد تقی الشیرازی فی‏‎ ‎‏حاشیته:‏


کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 225
منها:‏ أنّ الموضوع فی الآیة الإنشاء، فالمراد من «العقد» الإنشاء، وهو أمر‏‎ ‎‏آنی الحصول والتحقّق، ولیس له بقاء ولا ارتفاع؛ إذ البقاء هو الوجود بعد‏‎ ‎‏الوجود، والارتفاع هو العدم بعد الوجود، وهنا لیس وجود بعد الوجود، ولا‏‎ ‎‏عدم بعد الوجود، وعلی هذا فلا معنی لبقائه، بل یتحقّق الوفاء به بترتیب‏‎ ‎‏الآثار علیه‏‎[1]‎‏.‏

ومنها:‏ أنّ المراد من «العقد» سبب الإنشاء؛ وهو ألفاظ الإیجاب والقبول،‏‎ ‎‏وهو تدریجی الحصول، وینصرم شیئاً فشیئاً، فبقاؤه عین حدوثه، ولا بقاء له،‏‎ ‎‏نظیر إخبار العادل الذی یحدث ویفنی شیئاً فشیئاً، والمراد بوجوب الوفاء به‏‎ ‎‏دائماً هو البناء علی تحقّق مدلوله کذلک، کما فی قول العادل الذی یجب العمل‏‎ ‎‏به دائماً، ولا استمرار لوجوده دائماً‏‎[2]‎‏.‏

أقول:‏ هذا وسابقه نظیر ما یقال فی بحث المشتقّ، حیث استدلّ القائل علی‏‎ ‎‏أنّ المشتقّ أعمّ ممّن انقضی عنه المبدأ، بقوله تعالی: ‏‏«‏لاَ یَنَالُ عَهْدِی‎ ‎الظَّالِمِینَ‏»‏‎[3]‎‏ إذ استدلّ بالآیة فی غیر واحد من الأخبار‏‎[4]‎‏ علی عدم لیاقة من‏‎ ‎‏عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة، فإنّ الاستدلال بها یصحّ علی القول‏‎ ‎‏بأنّ المشتقّ حقیقة للأعمّ، إذ من تصدّی للإمامة لا یعبد صنماً ولا وثناً، بل‏‎ ‎‏باعتبار الماضی وعبودیته لهما یصدق علیه الظالم، فلازمه أن یکون حقیقة فیمن‏‎ ‎‏انقضی عنه المبدأ.‏


کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 226
‏ویجاب هناک: بأنّ من الموضوعات ما هو بوجوده الآنی موضوع لأحکام،‏‎ ‎‏والظلم أیضاً بوجوده الآنی المتحقّق فی الماضی، یکون موضوعاً لحکم‏‎ ‎‏استمراری؛ وهو عدم نیل منصب الإمامة، لعظمة ذاک المنصب، وعظیم خطره.‏‎ ‎‏وکذلک هنا یکون العقد بوجوده الآنی ـ وهو الإنشاء، أو سبب الإنشاء؛ وهو‏‎ ‎‏الألفاظ ـ موضوعاً لحکم استمراری؛ أعنی وجوب الوفاء‏‎[5]‎‏.‏

‏ولکنّ الفرق بین المقامین واضح؛ إذ الظاهر من ترتّب الحکم علی موضوع‏‎ ‎‏اتحاد ظرف الحکم والموضوع، فإن دلّ هنا دلیل علی عدم لزومه وکفایة وجوده‏‎ ‎‏الآنی ـ کما فی الظلم بالنسبة إلی منصب الإمامة ـ رفعت الید عن ذلک الظهور‏‎ ‎‏فی موضعه، وأمّا لو لم یقم علیه دلیل وکان هنا معنیً یصحّ معه ذلک، فلا مجال‏‎ ‎‏لرفع الید عن ظهوره، فوجوب الوفاء بالعقد ظاهره اتّحاد ظرفهما زماناً، ولیس‏‎ ‎‏هنا دلیل علی عدم اتّحاد ظرفهما، کما فی ظرف الظلم وعدم نیل الإمامة هناک.‏‎ ‎‏وللعقد معنیً غیر اللفظ والإنشاء قابل للبقاء وهو المعنی الاعتباری الحاصل‏‎ ‎‏بالمعاقدة إذ للعقد عند العقلاء وجود اعتباری قابل للبقاء والارتفاع غیر وجوده‏‎ ‎‏الإنشائی واللفظی ولذا یفهمون من قول الشارع مثلاً ‏«البیّعان بالخیار ما لم‎ ‎یفترقا وإذا افترقا وجب البیع»‎[6]‎‏، أنّ هنا معنیً قابلاً لرفعه واعدامه بالخیار وبعد‏‎ ‎‏الافتراق لا یقبل ذلک ومع ذلک فلا مجال لجعل العقد بما هو آنی الحصول‏‎ ‎‏والتحقّق والإغماض عن الظهور.‏

ومنها:‏ أنّ الفسخ أیضاً ـ کالعقد ـ یحتاج إلی طرفین، فکما لا یتحقّق العقد إلاّ‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 227
‏بالطرفین فانحلاله أیضاً بالطرفین، فبالطرف الواحد لا ینحلّ.‏

‏إن قلت: کما یحتاج وجود العقد حدوثاً إلی التزام الطرفین، فکذلک وجوده‏‎ ‎‏بقاءً یحتاج إلیه، وإذا فسخ لم یبق إلاّ التزام واحد.‏

‏قلت: نعم، ولکن یکفی فی ثبوت الطرفین الالتزام الواقع من الفاسخ قبل‏‎ ‎‏فسخه، فینضمّ ذلک إلی التزام الطرف الآخر المستمرّ من أوّل الأمر إلی زمان‏‎ ‎‏الفسخ وما بعده‏‎[7]‎‏.‏

أقول:‏ إن کان المراد باحتیاج الفسخ والحلّ إلی الطرفین، أنّ العقلاء‏‎ ‎‏یستنکرون ذلک من طرف واحد نظیر استنکارهم للعقد من طرف ـ فلابدّ من‏‎ ‎‏کونه واقعاً بینهما ـ فهو مجرّد ادعاء لا دلیل علیه. مع أنّ المحتمل هنا اعتبار‏‎ ‎‏الشارع لفسخه،  کما فی الخیار من جانب واحد، ومع الاحتمال یجیء الشکّ فی‏‎ ‎‏بقاء العقد. وإن کان المراد به مجرّد إبداء احتمال ذلک فهو لا یدفع محذور الشکّ؛‏‎ ‎‏إذ علیه أیضاً یکون العقد مشکوکاً، للشکّ فی تأثیر فسخه وعدمه.‏

‏ومبنی هذا الجواب علی أنّ الفسخ أیضاً معاقدة جدیدة، والملک به ملک‏‎ ‎‏جدید، وادعاء أنّ الفسخ والحلّ معاقدة جدیدة خلاف اعتبار العقلاء؛ إذ المعتبر‏‎ ‎‏عندهم فی رفع الشرکة مثلاً والمعاهدة بین الشخصین أو الدولتین، رفع أحدهما‏‎ ‎‏وقطع الرابطة من طرف واحد منهم، فیرون رفع المجموع والمرکّب برفع بعض‏‎ ‎‏أفراده وأجزائه صحیحاً؛ إذ المتعارف فی نوع هذه المعاهدات ذلک، ولیس‏‎ ‎‏تفارقهم وانحلال المعاهدة کأصل المعاقدة عندهم.‏

ومنها:‏ ما عن غیر واحد من الأعلام أیضاً؛ من أنّ المعتبر فی بقاء الموضوع‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 228
‏بقاؤه عرفاً، والعقد باقٍ بنظرهم، ولا ینحلّ بمجرّد رجوع أحدهما عن التزامه‏‎ ‎‏من دون حقّ، وإنّما الشکّ فی تأثیره شرعاً، وحیث یجب بمقتضی الآیة‏‎ ‎‏ترتیب الآثار علی هذا الموضوع الباقی بنظر العرف، یستکشف منه عدمه‏‎ ‎‏شرعاً‏‎[8]‎‏.‏

توضیح ذلک: ‏أنّ موضوعات الأحکام علی أقسام:‏

‏منها: ما کانت من الاُمور التکوینیة، کالتیمّم بالصعید، والغسل بالماء، ونجاسة‏‎ ‎‏الدم، وحرمة المیتة والخمر والنبیذ، وطهارة الحیوان ونجاسته، وغیرها من‏‎ ‎‏الأمور التکوینیة ممّا کانت موضوعاً للحکم.‏

‏وفی هذا القسم من الموضوعات قد یقال: بأنّ الموضوع هو الواقعی من هذه‏‎ ‎‏الاُمور، فیکون العرف طریقاً إلی تشخیص الواقع؛ بحیث لو أخطأناه کان‏‎ ‎‏الموضوع هو الواقع الذی أخطأ العرف فی تشخیصه، مثل ما إذا لم ترَ الدم ـ الذی‏‎ ‎‏بقی منه لون فی الثوب ـ دماً، فإنّه بحسب الدقّة دم، ویکون موضوع النجس‏‎ ‎‏الدم الواقعی وإن کان العرف لا تراه دماً، فیجب الاجتناب عنه، وکذا فی‏‎ ‎‏الهلال وغیره.‏

‏وقد یقال: بأنّ الموضوع هو الواقع الذی تراه العرف واقعاً؛ بأن یقال: إنّ‏‎ ‎‏الشارع کلّم العرف بما أ نّه واحد منهم، فجعل الموضوع ما هو الواقعی العرفی فی‏‎ ‎‏هذه الاُمور، فما تراه العرف صعیداً واقعاً کان موضوع التیمّم، ونحوه غیره، وفی‏‎ ‎‏هذا القسم من الموضوع لا إشکال فی أنّ تقیّد الشارع تقیّد لموضوع حکمه، فإذا‏‎ ‎‏قیّد الصعید مثلاً بالتراب فلا إشکال فی تقیّده عند العرف أیضاً من حیث الحکم،‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 229
‏ولیس تقیّداً لأصل الصعید بحیث غیّر الصعید عندهم من معناه العرفی.‏

‏ومنها: الموضوعات الاعتباریة، کأنواع المعاملات من البیع، والإجارة،‏‎ ‎‏والهبة، والرهن، والصلح، والوقف، والنکاح، وغیرها. ولا إشکال فی أنّ لهذه‏‎ ‎‏الموضوعات الاعتباریة اعتباراً عند العقلاء، فلهم فی البیع مثلاً اعتبار مستقلّ،‏‎ ‎‏وهکذا فی الإجارة وغیرها. وکذا لا إشکال فی أنّ للشارع أیضاً فیها اعتباراً‏‎ ‎‏خاصّاً مستقلاًّ، مثلاً عند العرف یحصل البیع بأیّ کیفیة اتّفق من الفارسی‏‎ ‎‏والعربی والتقدّم والتأخّر وغیره، وعند الشرع یحصل بکیفیة خاصّة من العربی‏‎ ‎‏وتقدّم الإیجاب علی القبول وغیره، وبالجملة للشارع والعرف فیها اعتبار، وقد‏‎ ‎‏یتّفق اعتبارهما، وقد یختلف.‏

‏وقد قلنا فی دلیل السلطنة: إنّ السلطنة عند العقلاء اعتبار معلّق علی عدم‏‎ ‎‏سلطنة من هو سلطان علیهم فی مورد سلطنتهم، وکذا قلنا فی آیة التجارة بأنّ‏‎ ‎‏«‏الْبَاطِلِ‏»‏‏ ـ وهو حقیقة بلا أثر وماهیة لغو عند العقلاء ـ أیضاً معلّق علی‏‎ ‎‏عدم اعتبار الشارع له وعدم جعله ذا أثر، فإن جعله ذا أثر وأخرجه عن اللغویّة‏‎ ‎‏یصیر حقّاً عندهم، ویخرج من الباطل، وینقلب الباطل عن بطلانه إلی الحقّ‏‎ ‎‏بإعمال الشرع.‏

‏وإنّما الکلام فی أنّ اعتبارات العقلاء فی المعاملات ـ مثل البیع‏‎ ‎‏والصلح والإجارة وغیرها ـ هل تکون مثل الموضوعات التکوینیة التی لا تقبل‏‎ ‎‏التقیّد ولا تتغیّر من حقیقتها، کما لا ینقلب الصعید عن موضوعه بتقیّد الشارع، أم‏‎ ‎‏یکون مثل الباطل؛ بأن ینقلب عن حقیقته بتغیّر الشارع؟ فاعتبار الشارع مثلاً فی‏‎ ‎‏البیع مع قیود وخصوصیات، هل یغیّر ویقلب اعتبار العقلاء فی البیع؛ بأن کان‏‎ ‎‏تقیّدات الشارع وتخصیصاته فی المعاملات تغیّراً لموضوعاتها، فمثل النهی عن‏‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 230
‏البیع الربوی مثلاً راجع إلی إخراجه عن حقیقة البیع، فکما یکون الباطل عند‏‎ ‎‏العرف والعقلاء منقلباً إلی الحقّ بعد جعل الشارع إیّاه حقّاً، کذلک اعتبار العقلاء‏‎ ‎‏فی البیع وغیره ما لم یجعله الشارع لا اعتبار له، فإذا نهی عنه وجعله فاسداً‏‎ ‎‏یعدم اعتبارهم، أو ینقلب؟‏

‏فإن کان من قبیل الأوّل ـ بأن لم ینقلب اعتبار العقلاء فی المعاملات بنهی‏‎ ‎‏الشارع عنها ـ فالبیع الربوی عندهم بیع، ولکنّه منهیّ عنه، فیمکن الاستدلال‏‎ ‎‏بالآیة؛ إذ لو کان فسخه مؤثّراً واقعاً عند الشرع، لکن عند العقلاء لیس بمؤثّر،‏‎ ‎‏ویبقی معه العقد عرفاً، فیتمسّک فی رفع الشکّ بالنسبة إلی بقائه شرعاً بالآیة؛‏‎ ‎‏لبقاء موضوعه عند العرف، إذ الفرض استقلال اعتبار العقلاء فی المعاملات‏‎ ‎‏وعدم تعلیقه علی عدم اعتبار الشارع فیها.‏

‏وإن کان من قبیل الباطل فلا یتمسّک بها؛ إذ لو شکّ فی بقاء العقد شرعاً ـ‏‎ ‎‏لتأثیر فسخه وعدمه ـ فیرجع الشکّ إلی بقائه عرفاً؛ إذ الفرض أنّ اعتبار العقلاء‏‎ ‎‏فی العقد لیس مستقلاًّ، بل یکون إذا لم یردع عنه الشرع.‏

‏ولا شکّ فی أ نّه من قبیل الأوّل وأنّ اعتبارات العقلاء فی أبواب المعاملات‏‎ ‎‏اعتبارات مستقلّة، وما ردع الشارع عنها کان تخصیصاً، لا مغیّراً لموضوعه،‏‎ ‎‏ولیس من قبیل الباطل؛ إذ الباطل ما لیس له أثر ونتیجة عقلائیة، وإذا جعله‏‎ ‎‏الشارع ذا أثر ونتیجة ینقلب إلی مقابله، فإذا کان الأمر کذلک فلا إشکال فی بقاء‏‎ ‎‏العقد عرفاً؛ فإنّ له اعتباراً عقلائیاً باقیاً عندهم، ولا ینحلّ بالفسخ ولو کان مؤثّراً‏‎ ‎‏شرعاً وواقعاً، والحکم ـ وهو وجوب الوفاء ـ دائر مدار موضوعه العرفی،‏‎ ‎‏فیتمسّک به فی رفع الشکّ عن الفسخ.‏

‎ ‎

کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 231

  • ـ حاشیة المکاسب، المحقّق محمد تقی الشیرازی 2: 71 / السطر 12 .
  • ـ نفس المصدر: 72 / السطر 19.
  • ـ البقرة (2): 124.
  • ـ الکافی 1: 174 / 1؛ معانی الأخبار: 131؛ الخصال: 310 / 84 .
  • ـ درر الفوائد، المحقّق الحائری: 63 .
  • ـ الکافی 5: 170/7؛ الفقیه 3: 126/550؛ تهذیب الأحکام 7: 20/86؛ وسائل الشیعة  18: 6، کتاب التجارة، أبواب الخیار، الباب 1، الحدیث 4.
  • ـ حاشیة المکاسب، المحقّق محمّد تقی الشیرازی 2: 71 / السطر 15 .
  • ـ حاشیة المکاسب، المحقّق محمّد تقی الشیرازی 2: 72 / السطر 11؛ اُنظر حاشیة المکاسب، المحقّق الأصفهانی 4: 32 .