أجوبة المحقّق الشیرازی عن الشبهة ونقدها
وقد اُجیب أیضاً عن الإشکال بوجوه ذکرها المیرزا محمّد تقی الشیرازی فی حاشیته:
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 225
منها: أنّ الموضوع فی الآیة الإنشاء، فالمراد من «العقد» الإنشاء، وهو أمر آنی الحصول والتحقّق، ولیس له بقاء ولا ارتفاع؛ إذ البقاء هو الوجود بعد الوجود، والارتفاع هو العدم بعد الوجود، وهنا لیس وجود بعد الوجود، ولا عدم بعد الوجود، وعلی هذا فلا معنی لبقائه، بل یتحقّق الوفاء به بترتیب الآثار علیه.
ومنها: أنّ المراد من «العقد» سبب الإنشاء؛ وهو ألفاظ الإیجاب والقبول، وهو تدریجی الحصول، وینصرم شیئاً فشیئاً، فبقاؤه عین حدوثه، ولا بقاء له، نظیر إخبار العادل الذی یحدث ویفنی شیئاً فشیئاً، والمراد بوجوب الوفاء به دائماً هو البناء علی تحقّق مدلوله کذلک، کما فی قول العادل الذی یجب العمل به دائماً، ولا استمرار لوجوده دائماً.
أقول: هذا وسابقه نظیر ما یقال فی بحث المشتقّ، حیث استدلّ القائل علی أنّ المشتقّ أعمّ ممّن انقضی عنه المبدأ، بقوله تعالی: «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ» إذ استدلّ بالآیة فی غیر واحد من الأخبار علی عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة، فإنّ الاستدلال بها یصحّ علی القول بأنّ المشتقّ حقیقة للأعمّ، إذ من تصدّی للإمامة لا یعبد صنماً ولا وثناً، بل باعتبار الماضی وعبودیته لهما یصدق علیه الظالم، فلازمه أن یکون حقیقة فیمن انقضی عنه المبدأ.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 226
ویجاب هناک: بأنّ من الموضوعات ما هو بوجوده الآنی موضوع لأحکام، والظلم أیضاً بوجوده الآنی المتحقّق فی الماضی، یکون موضوعاً لحکم استمراری؛ وهو عدم نیل منصب الإمامة، لعظمة ذاک المنصب، وعظیم خطره. وکذلک هنا یکون العقد بوجوده الآنی ـ وهو الإنشاء، أو سبب الإنشاء؛ وهو الألفاظ ـ موضوعاً لحکم استمراری؛ أعنی وجوب الوفاء.
ولکنّ الفرق بین المقامین واضح؛ إذ الظاهر من ترتّب الحکم علی موضوع اتحاد ظرف الحکم والموضوع، فإن دلّ هنا دلیل علی عدم لزومه وکفایة وجوده الآنی ـ کما فی الظلم بالنسبة إلی منصب الإمامة ـ رفعت الید عن ذلک الظهور فی موضعه، وأمّا لو لم یقم علیه دلیل وکان هنا معنیً یصحّ معه ذلک، فلا مجال لرفع الید عن ظهوره، فوجوب الوفاء بالعقد ظاهره اتّحاد ظرفهما زماناً، ولیس هنا دلیل علی عدم اتّحاد ظرفهما، کما فی ظرف الظلم وعدم نیل الإمامة هناک. وللعقد معنیً غیر اللفظ والإنشاء قابل للبقاء وهو المعنی الاعتباری الحاصل بالمعاقدة إذ للعقد عند العقلاء وجود اعتباری قابل للبقاء والارتفاع غیر وجوده الإنشائی واللفظی ولذا یفهمون من قول الشارع مثلاً «البیّعان بالخیار ما لم یفترقا وإذا افترقا وجب البیع»، أنّ هنا معنیً قابلاً لرفعه واعدامه بالخیار وبعد الافتراق لا یقبل ذلک ومع ذلک فلا مجال لجعل العقد بما هو آنی الحصول والتحقّق والإغماض عن الظهور.
ومنها: أنّ الفسخ أیضاً ـ کالعقد ـ یحتاج إلی طرفین، فکما لا یتحقّق العقد إلاّ
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 227
بالطرفین فانحلاله أیضاً بالطرفین، فبالطرف الواحد لا ینحلّ.
إن قلت: کما یحتاج وجود العقد حدوثاً إلی التزام الطرفین، فکذلک وجوده بقاءً یحتاج إلیه، وإذا فسخ لم یبق إلاّ التزام واحد.
قلت: نعم، ولکن یکفی فی ثبوت الطرفین الالتزام الواقع من الفاسخ قبل فسخه، فینضمّ ذلک إلی التزام الطرف الآخر المستمرّ من أوّل الأمر إلی زمان الفسخ وما بعده.
أقول: إن کان المراد باحتیاج الفسخ والحلّ إلی الطرفین، أنّ العقلاء یستنکرون ذلک من طرف واحد نظیر استنکارهم للعقد من طرف ـ فلابدّ من کونه واقعاً بینهما ـ فهو مجرّد ادعاء لا دلیل علیه. مع أنّ المحتمل هنا اعتبار الشارع لفسخه، کما فی الخیار من جانب واحد، ومع الاحتمال یجیء الشکّ فی بقاء العقد. وإن کان المراد به مجرّد إبداء احتمال ذلک فهو لا یدفع محذور الشکّ؛ إذ علیه أیضاً یکون العقد مشکوکاً، للشکّ فی تأثیر فسخه وعدمه.
ومبنی هذا الجواب علی أنّ الفسخ أیضاً معاقدة جدیدة، والملک به ملک جدید، وادعاء أنّ الفسخ والحلّ معاقدة جدیدة خلاف اعتبار العقلاء؛ إذ المعتبر عندهم فی رفع الشرکة مثلاً والمعاهدة بین الشخصین أو الدولتین، رفع أحدهما وقطع الرابطة من طرف واحد منهم، فیرون رفع المجموع والمرکّب برفع بعض أفراده وأجزائه صحیحاً؛ إذ المتعارف فی نوع هذه المعاهدات ذلک، ولیس تفارقهم وانحلال المعاهدة کأصل المعاقدة عندهم.
ومنها: ما عن غیر واحد من الأعلام أیضاً؛ من أنّ المعتبر فی بقاء الموضوع
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 228
بقاؤه عرفاً، والعقد باقٍ بنظرهم، ولا ینحلّ بمجرّد رجوع أحدهما عن التزامه من دون حقّ، وإنّما الشکّ فی تأثیره شرعاً، وحیث یجب بمقتضی الآیة ترتیب الآثار علی هذا الموضوع الباقی بنظر العرف، یستکشف منه عدمه شرعاً.
توضیح ذلک: أنّ موضوعات الأحکام علی أقسام:
منها: ما کانت من الاُمور التکوینیة، کالتیمّم بالصعید، والغسل بالماء، ونجاسة الدم، وحرمة المیتة والخمر والنبیذ، وطهارة الحیوان ونجاسته، وغیرها من الأمور التکوینیة ممّا کانت موضوعاً للحکم.
وفی هذا القسم من الموضوعات قد یقال: بأنّ الموضوع هو الواقعی من هذه الاُمور، فیکون العرف طریقاً إلی تشخیص الواقع؛ بحیث لو أخطأناه کان الموضوع هو الواقع الذی أخطأ العرف فی تشخیصه، مثل ما إذا لم ترَ الدم ـ الذی بقی منه لون فی الثوب ـ دماً، فإنّه بحسب الدقّة دم، ویکون موضوع النجس الدم الواقعی وإن کان العرف لا تراه دماً، فیجب الاجتناب عنه، وکذا فی الهلال وغیره.
وقد یقال: بأنّ الموضوع هو الواقع الذی تراه العرف واقعاً؛ بأن یقال: إنّ الشارع کلّم العرف بما أ نّه واحد منهم، فجعل الموضوع ما هو الواقعی العرفی فی هذه الاُمور، فما تراه العرف صعیداً واقعاً کان موضوع التیمّم، ونحوه غیره، وفی هذا القسم من الموضوع لا إشکال فی أنّ تقیّد الشارع تقیّد لموضوع حکمه، فإذا قیّد الصعید مثلاً بالتراب فلا إشکال فی تقیّده عند العرف أیضاً من حیث الحکم،
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 229
ولیس تقیّداً لأصل الصعید بحیث غیّر الصعید عندهم من معناه العرفی.
ومنها: الموضوعات الاعتباریة، کأنواع المعاملات من البیع، والإجارة، والهبة، والرهن، والصلح، والوقف، والنکاح، وغیرها. ولا إشکال فی أنّ لهذه الموضوعات الاعتباریة اعتباراً عند العقلاء، فلهم فی البیع مثلاً اعتبار مستقلّ، وهکذا فی الإجارة وغیرها. وکذا لا إشکال فی أنّ للشارع أیضاً فیها اعتباراً خاصّاً مستقلاًّ، مثلاً عند العرف یحصل البیع بأیّ کیفیة اتّفق من الفارسی والعربی والتقدّم والتأخّر وغیره، وعند الشرع یحصل بکیفیة خاصّة من العربی وتقدّم الإیجاب علی القبول وغیره، وبالجملة للشارع والعرف فیها اعتبار، وقد یتّفق اعتبارهما، وقد یختلف.
وقد قلنا فی دلیل السلطنة: إنّ السلطنة عند العقلاء اعتبار معلّق علی عدم سلطنة من هو سلطان علیهم فی مورد سلطنتهم، وکذا قلنا فی آیة التجارة بأنّ «الْبَاطِلِ» ـ وهو حقیقة بلا أثر وماهیة لغو عند العقلاء ـ أیضاً معلّق علی عدم اعتبار الشارع له وعدم جعله ذا أثر، فإن جعله ذا أثر وأخرجه عن اللغویّة یصیر حقّاً عندهم، ویخرج من الباطل، وینقلب الباطل عن بطلانه إلی الحقّ بإعمال الشرع.
وإنّما الکلام فی أنّ اعتبارات العقلاء فی المعاملات ـ مثل البیع والصلح والإجارة وغیرها ـ هل تکون مثل الموضوعات التکوینیة التی لا تقبل التقیّد ولا تتغیّر من حقیقتها، کما لا ینقلب الصعید عن موضوعه بتقیّد الشارع، أم یکون مثل الباطل؛ بأن ینقلب عن حقیقته بتغیّر الشارع؟ فاعتبار الشارع مثلاً فی البیع مع قیود وخصوصیات، هل یغیّر ویقلب اعتبار العقلاء فی البیع؛ بأن کان تقیّدات الشارع وتخصیصاته فی المعاملات تغیّراً لموضوعاتها، فمثل النهی عن
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 230
البیع الربوی مثلاً راجع إلی إخراجه عن حقیقة البیع، فکما یکون الباطل عند العرف والعقلاء منقلباً إلی الحقّ بعد جعل الشارع إیّاه حقّاً، کذلک اعتبار العقلاء فی البیع وغیره ما لم یجعله الشارع لا اعتبار له، فإذا نهی عنه وجعله فاسداً یعدم اعتبارهم، أو ینقلب؟
فإن کان من قبیل الأوّل ـ بأن لم ینقلب اعتبار العقلاء فی المعاملات بنهی الشارع عنها ـ فالبیع الربوی عندهم بیع، ولکنّه منهیّ عنه، فیمکن الاستدلال بالآیة؛ إذ لو کان فسخه مؤثّراً واقعاً عند الشرع، لکن عند العقلاء لیس بمؤثّر، ویبقی معه العقد عرفاً، فیتمسّک فی رفع الشکّ بالنسبة إلی بقائه شرعاً بالآیة؛ لبقاء موضوعه عند العرف، إذ الفرض استقلال اعتبار العقلاء فی المعاملات وعدم تعلیقه علی عدم اعتبار الشارع فیها.
وإن کان من قبیل الباطل فلا یتمسّک بها؛ إذ لو شکّ فی بقاء العقد شرعاً ـ لتأثیر فسخه وعدمه ـ فیرجع الشکّ إلی بقائه عرفاً؛ إذ الفرض أنّ اعتبار العقلاء فی العقد لیس مستقلاًّ، بل یکون إذا لم یردع عنه الشرع.
ولا شکّ فی أ نّه من قبیل الأوّل وأنّ اعتبارات العقلاء فی أبواب المعاملات اعتبارات مستقلّة، وما ردع الشارع عنها کان تخصیصاً، لا مغیّراً لموضوعه، ولیس من قبیل الباطل؛ إذ الباطل ما لیس له أثر ونتیجة عقلائیة، وإذا جعله الشارع ذا أثر ونتیجة ینقلب إلی مقابله، فإذا کان الأمر کذلک فلا إشکال فی بقاء العقد عرفاً؛ فإنّ له اعتباراً عقلائیاً باقیاً عندهم، ولا ینحلّ بالفسخ ولو کان مؤثّراً شرعاً وواقعاً، والحکم ـ وهو وجوب الوفاء ـ دائر مدار موضوعه العرفی، فیتمسّک به فی رفع الشکّ عن الفسخ.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 231