فصل فی اختلاف الحی والمیّت فی مسألة البقاء
إذا قلّد مجتهداً کان یقول بوجوب الرجوع إلی الحی فمات ، فإن غفل المقلّد عن الواقعـة ولوازمها ورجع عنـه بتوهّم جواز تقلیده فی الرجوع فلا کلام إلاّ فی صحّـة أعمالـه وعدمها . وإن تذکّر بعدم جواز تقلیده فی ذلک ، فإنّـه أیضاً تقلید للمیّت ، أو تحیّر ورجع إلی الحی فی هذه المسألـة وکان هو قائلاً بوجوب البقاء ، فمع تقلیده من الحی فیها یجب علیـه البقاء فی سائر المسائل .
وأ مّا فی هذه المسألـة الاُصولیـة ، فلا یجوز لـه البقاء ؛ لأنّـه قلّد فیها الحی ولا تحیّر لـه فیها حتّی قلّد عن المیّت ، ولا یجوز للمفتی الحی الإفتاء بالبقاء فیها ؛ لکون المیّت علی خطأ عنده ، فلا یشکّ حتّی یجری الاستصحاب .
وکذا لا یجوز لـه إجراء الاستصحاب للمقلّد ، لکونـه غیر شاکّ فیها ، لقیام الأمارة لدیـه ، وهی فتوی الحی ، بل لا یجری بالنسبـة إلیـه ولو مع قطع النظر عن فتوی الحی ، لأنّ المجتهد فی الشبهات الحکمیّـة یکون مشخصاً لمجاری الاُصول ، وأ مّا الأحکام ـ اُصولیّةً أو فرعیّة ـ فلا اختصاص لها بالمجتهد ، بل هی مشترکـة بین العالم والجاهل ، فحینئذٍ لو رأی خطأ المیّت وقیام الدلیل علی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 499
خلافـه فلا محالـة یری عدم جریان الاستصحاب ، لاختلال أرکانـه ، وهو أمر مشترک بینـه وبین جمیع المکلّفین .
وبما ذکرناه تظهر مسألـة اُخری ، وهی أنّـه : لو قلّد مجتهداً فی الفروع ، فمات ، فقلّد مجتهداً یری وجوب الرجوع فرجع إلیـه فمات ، فقلّد مجتهداً یری وجوب البقاء یجب علیـه الرجوع إلی فتوی المجتهد الأوّل ، لقیام الأمارة الفعلیّـة علی بطلان فتوی الثانی بالرجوع ، فیری أنّ رجوعـه عن المیّت الأوّل کان باطلاً ، فالمیزان علی الحجّـة الفعلیّـة ؛ وهی فتوی الحی .
والقول بجواز البقاء علی رأی الثانی برأی الثالث غیر صحیح ؛ لأنّ الثالث یری بطلان رأی الثانی فی المسألـة الاُصولیّـة ، وعدم صحّـة رجوع المقلّد عن تقلید الأوّل ، فقامت عند المقلّد فعلاً أمارة علی بطلانـه ، فلا معنی لبقائـه فیها .
وأ مّا شیخنا العلاّمـة أعلی اللّٰه مقامـه ـ بعد نقل کلام شیخنا الأعظم قدس سره من کون المقام إشکالاً وجواباً نظیر ما قیل فی شمول أدلّـة حجّیـة خبر الثقـة لخبر السیّد بعدم حجّیتـه ، وأجاب عنـه بمثل ما أجاب فی ذلک المقام ، وبعد بیان الفرق بین المقامین بأنّـه لم یلزم فی المقام التخصیص المستهجن واللغز والمعمّا ؛ لعدم عموم صادر عن المعصوم فیـه ـ قال ما ملخّصـه :
المحقّق فی المقام فتوی : أنّـه لا یمکن الأخذ بکلیهما ، لأنّ المجتهد بعدما نزّل نفسـه منزلـة المقلّد فی کونـه شاکّاً رأی هنا طائفتین من الأحکام ثابتـتین للمقلّد ، إحداهما : فتوی المیّت فی الفروع ، وثانیتهما : الفتوی فی الاُصول الناظرة إلی الفتاوی فی الفروع والمسقطـة لها عن الحجّیـة ، فیری أرکان الاستصحاب فیهما تامّـة .
ثمّ قال : لا محیص من الأخذ بالفتوی الاُصولیّـة ، فإنّـه لو اُرید فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 500
الفرعیّـة استصحاب الأحکام الواقعیّـة فالشکّ فی اللاحق موجود دون الیقین السابق ؛ أ مّا الوجدانی فواضح ، وأ مّا التعبّدی فلارتفاعـه بموت المفتی ، فصار کالشکّ الساری ، وإن اُرید استصحاب الحکم الظاهری الجائی من قبل دلیل اتّباع المیّت ، فإن اُرید استصحابـه مقیّداً بفتوی المیّت فالاستصحاب فی الاُصولیّـة حاکم علیـه ، لأنّ الشکّ فی الفروعیّـة مسبّب عن الشکّ فیها ، وإن اُرید استصحاب ذات الحکم الظاهری وجعل کونـه مقول قول المیّت جهـة تعلیلیـة فاحتمال ثبوتـه إمّا بسبب سابق ، فقد سدّ بابـه الاستصحاب الحاکم ، أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم ، إذ مفروض الکلام صورة مخالفـة فتوی المیّت للحی .
نعم ، یحتمل بقاء الحکم الواقعی ، لکن لا یکفی ذلک فی الاستصحاب ، لأنّـه مع الحکم الظاهری فی رتبتین وموضوعین ، فلا یکون أحدهما بقاءً للآخر ، لکن یجری استصحاب الکلّی بناءً علی جریانـه فی القسم الثالث .
وإن اُرید استصحاب حجّیـة فتاوی الفرعیّـة فاستصحاب الحجّیـة فی الاُصولیّـة حاکم علیـه ، لأنّ شکّـه مسبّب عنـه ، لأنّ عدم حجّیـة تلک الفتاوی أثر لحجّیـة هذه ، ولیس الأصل مثبتاً ، لأنّ هذا من الآثار الثابتـة لذات الحجّـة الأعمّ من الظاهریّـة والواقعیّـة .
ثمّ رجع عمّا تقدّم واختار عدم جریان الاستصحاب فی الاُصولیّـة ، فإنّ مقتضی جریانـه الأخذ بخلاف مدلولـه ، ومثلـه غیر مشمول لأدلّـة الاستصحاب ، فإنّ مقتضی الأخذ باستصحاب هذا الفتوی ، سقوط فتاویـه عن الحجّیـة ، ومقتضی سقوطها الرجوع إلی الحی ، وهو یفتی بوجوب البقاء ، فالأخذ بالاستصحاب فی الاُصولیّـة ـ التی مفادها عدم الأخذ بفتاویـه فی الفرعیّات ـ لازمـه الأخذ فی الفرعیّات بها .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 501
وهذا باطل ، وإن کان اللزوم لأجل الرجوع إلی الحی لا لکون مفاد الاستصحاب ذلک ؛ إذ لا فرق فی الفساد بین الاحتمالین .
هذا مضافاً إلی أنّ المسؤول عنـه فی الفرعیّات المسألـة الاُصولیـة ؛ أعنی من المرجع فیها ، فلاینافی مخالفـة الحی للمیّت فی نفس الفروع مع إفتائـه بالبقاء فی المسألـة الاُصولیّـة ، وأ مّا الفتوی الاُصولیّـة فنفسها مسؤول عنها ویکون الحی هو المرجع فیها ، وفی هذه المسألـة لا معنی للاستصحاب بعد أن یری الحی خطأ المیّت ، فلا حالـة سابقـة حتّی تستصحب ، انتهی .
وفیـه محالّ للنظر :
منها : أنّ الاستصحاب فی الأحکام الواقعیـة فی المقام لا یجری ولو فرض وجود الیقین السابق ، لعدم الشکّ فی البقاء ، فإنّ الشکّ فیـه إمّا ناشٍ من احتمال النسخ أو احتمال فقدان شرط أو وجدان مانع ، والکلّ مفقود . بل الشکّ فیـه ممحّض فی حجّیـة الفتوی وجواز العمل بها ، وإنّما یتصوّر الشکّ فی البقاء إذا قلنا بالسببیّـة والتصویب .
ومنها : أنّ حکومـة الأصل فی المسألـة الاُصولیّـة علیـه فی الفرعیّـة ممنوعـة ؛ لأنّ المجتهد إذا قام مقام المقلّد ـ کما هو مفروض الکلام ـ یکون شکّـه فی جواز العمل علی فتاوی المیّت فی الاُصول والفروع ، ناشئاً من الشکّ فی اعتبار الحیاة فی المفتی ، وجواز العمل فی کلّ من الطائفتین مضادّ للآخر ومقتضی جواز کلِّ، عدم جواز الآخر .
ولو قیل : إنّ مقتضی إرجاع الحی إیّاه إلی المیّت سببیّة شکّه فی الاُصولیّـة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 502
قلنا : هذا خلاف المفروض ، وإلاّ فلا یبقی مجال للشکّ لـه فی هذه المسألـة ، ففرض الشکّ فیما لم یقلد عن الحی فیها .
هذا مضافاً إلی أنّ مطلق کون الشکّ مسبّباً عن الآخر ، لا یوجب التحکیم ، کما قرّرنا فی محلّـه مستقصی ، وملخّصـه : أنّ وجـه تقدّم الأصل السببی أنّ الأصل فی السبب منقّح لموضوع دلیل اجتهادی ینطبق علیـه بعد التنقیح ، والدلیل الاجتهادی بلسانـه حاکم علی الأصل المسبّبی ، فإذا شکّ فی طهارة ثوب غسل بماء شکّ فی کرّیتـه فاستصحاب الکرّیـة ینقّح موضوع الدلیل الاجتهادی الدالّ علی أنّ ما غسل بالکرّ یطهر ، وهو حاکم علی الأصل المسبّبی بلسانـه .
وإن شئت قلت : إنّـه لا مناقضـة بین الأصل السببی والمسبّبی ، لأنّ موضوعهما مختلفان ، والمناقض للأصل المسبّبی إنّما هو الدلیل الاجتهادی بعد تنقیح موضوعـه حیث دلّ بضمّ الوجدان وتطبیقـه علی الخارج « أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر » والاستصحاب فی المسبّبی مفاده « أنّ هذا الثوب المشکوک فی نجاستـه وطهارتـه نجس » ومعلوم أنّ لسان الأوّل حاکم علی الثانی .
وتوهّم : أنّ مقتضی الأصل السببی هو ترتیب جمیع آثار الکرّیـة علی الماء ، ومنها ترتیب آثار طهارة الثوب .
مدفوع أوّلاً : بأنّ مفاد الاستصحاب لیس إلاّ عدم نقض الیقین بالشکِّ، فإذا شکّ فی کرّیـة ماء کان کرّاً لا یکون مقتضی دلیل الاستصحاب إلاّ التعبّد بکون الماء کرّاً ، وأ مّا لزوم ترتیب الآثار فبدلیل آخر وهو الدلیل الاجتهادی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 503
والشاهد علیـه ـ مضافاً إلی ظهور أدلّتـه ـ أنّ لسان أدلّتـه فی استصحاب الأحکام والموضوعات واحد ، فکما أنّ استصحاب الأحکام لیس إلاّ البناء علی تحقّقها لا ترتیب الآثار ، فکذلک استصحاب الموضوعات . نعم لابدّ فی استصحابها من دلیل اجتهادی ینقّح موضوعـه بالاستصحاب .
وثانیاً : بأنّ لازم ذلک عدم تقدّم السببی علی المسبّبی ، فإنّ قولـه : « کلّما شککت فی بقاء الکرّ فابنِ علی طهارة الثوب المغسول بـه » لا یقدّم علی قولـه : « إذا شککت فی طهارة الثوب الکذائی فابنِ علی نجاستـه » ولا یراد باستصحاب نجاسـة الثوب سلب الکرّیـة ، حتّی یقال : إنّ استصحاب النجاسـة لا یسلبها إلاّ بالأصل المثبت ، بل یراد إبقاء النجاسـة فی الثوب فقط ، ولا یضرّ فی مقام الحکم الظاهری التفکیک بین الآثار ، فیحکم ببقاء کرّیـة الماء وبقاء نجاسـة الثوب المغسول بـه .
إذا عرفت ذلک اتّضح لک عدم تقدّم الأصل فی المسألـة الاُصولیّـة علی الفرعیـة ، لعدم دلیل اجتهادی موجب للتحکیم ، ومجرّد کون مفاد المستصحب فی الاُصولیّـة « أنّـه لا یجوز العمل بفتاوای عند الشکِّ» لا یوجب التقدّم علی ما کان مفاده « یجوز العمل بفتاوای الفرعیـة لدی الشکِّ» فإنّ کلاًّ منهما یدفع الآخر وینافیـه .
وممّا ذکرناه یظهر النظر فی ما أفاده من حکومـة استصحاب حجّیـة الفتوی فی المسألـة الاُصولیّـة علی استصحاب حجّیتها فی المسائل الفرعیّـة ، فإنّ البیان والإیراد فیهما واحد لدی التأ مّل . هذا مضافاً إلی ما تقدّم من عدم جریان
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 504
استصحاب الحجّیـة ؛ لا العقلائیّـة منها ولا الشرعیّـة .
ومنها : أنّ ما أفاده من تقدیم الأصل فی الفتوی الاُصولیّـة ولو اُرید استصحاب الحکم الظاهری بجهـة تعلیلیّـة ، غیر وجیـه وإن قلنا بتقدیم الأصل السببی فی الفرض المتقدّم علی الأصل المسبّبی ؛ لأنّ نفی المعلول باستصحاب نفی العلّـة مثبت وإن کانت العلّـة شرعیّـة ، فإنّ ترتّب المسبّب علی السبب عقلی ولو کان السبب شرعیّاً .
نعم لو ورد دلیل علی « أنّـه إذا وجد ذا وجد ذاک » لا یکون الأصل مثبتاً ، کقولـه : « إذا غلی العصیر أو نشّ حرم » وهو فی المقام مفقود .
ومنها : أنّ بنائـه علی جریان استصحاب الکلّی الجامع بین الحکم الظاهری والواقعی غیر وجیـه :
أ مّا أوّلاً : فلما مرّ من عدم الشکّ فی بقاء الحکم الواقعی .
وثانیاً : أنّـه بعـد فرض حکومـة الأصل السببی علی المسبّبی یسقط الحکم الظاهری ، وبسقوطـه لا دلیل فعلاً علی ثبوت الحکم الواقعی ، لسرایـة الشکّ إلی السابق کما مرّ منـه قدس سره فلا یقین فعلاً علی الجامع بینهما ، فاستصحاب الکلّی إنّما یجری إذا علم بالجامع فعلاً وشکّ فی بقائـه ، وهـو غیر نظیر المقام الذی بانعدام أحد الفردین ینعدم الآخر مـن الأوّل ، إذ ینعدم الدلیل علی ثبوتـه مـن الأوّل ، هذا مع الغضّ عن الإشکال فی استصحاب الجامع فی الأحکام کما مرّ منّا کراراً .
ومنها : أنّ إنکـاره جریـان الاستصحاب فـی المسألـة الاُصولیّـة ، معلّلاً بأنّـه یلزم من جریانـه الأخذ بخلاف مفاده ، ومثلـه غیر مشمول لأدلّتـه ، غیر وجیـه ؛ لأنّ مفاد الاستصحاب هو سقوط حجّیـة الفتاوی الفرعیّـة ، وهو غیر
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 505
اعتبار فتاواه ولا لازمـه ذلک ولا الأخذ بفتوی الحی ، لإمکان العمل بالاحتیاط بعد سقوطها عن الحجّیـة .
وبالجملـة : سقوط الفتاوی عن الحجّیـة أمر جاء من قبل الاستصحاب ، والرجوع إلی الحی أمر آخر غیر مربوط بـه وإن کان لازم الرجوع إلیـه البقاء علی قول المیّت . والعجب أنّـه قدس سره تنبّـه علی هذا الإشکال ولم یأت بجواب مقنع .
ولو ادّعی انصراف أدلّـة الاستصحاب من مثل المقام لکان انصرافها عن الأصل السببی وعـن الأصلیـن المتعـارضین أولی ، لأنّ إجـراء الاستصحـاب للسقوط أسوء حـالاً من إجرائـه فی مـورد کـان المکلّف ملـزماً بالأخـذ بدلیل آخـر مقابـل لـه فـی المفاد . والحـلّ فی الکـلّ أنّـه لا فـرق بین ورود دلیل لخصوص مورد من تلک الموارد وبین ما شملها بإطلاقـه ، والإشکال متّجـه فیها علی الأوّل لا الثانی .
ومنها : أنّ ما ذکره أخیراً فی وجـه عدم جریان الاستصحاب فی المسألـة الاُصولیّـة من أنّ المفتی الحی کان یری خطأ المیّت ، إنّما یصحّ لو کان المفتی أراد إجراء الاستصحاب لنفسـه ، وقد فرض فی صدر المبحث أنّـه نزّل نفسـه منزلـة العامّی فی الشکّ فی الواقعـة ، والتحقیق هـو مـا عرفت مـن عـدم جریان الأصل ـ لا بالنسبـة إلی المفتی ولا بالنسبـة إلی العامّی ـ فی المسألـة الاُصولیّـة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 506