فصل فی أنّ تخییر العامّی فی الرجوع إلی مجتهدین متساویین بدوی أو استمراری
بعد البناء علی تخیـیر العامّی فی الرجوع إلی مجتهدین متساویـین هل یجوز لـه العدول بعد تقلید أحدهما ؟
اختار شیخنا العلاّمـة التفصیل بین العدول فی شخص واقعـة بعد الأخذ والعمل فیـه ، کما لو صلّی بلا سورة بفتوی أحدهما ، فأراد تکرار الصلاة مع السورة بفتوی الآخر ، وبین العدول فی الوقائع المستقبلـة التی لم تعمل ، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام والأخذ ، فذهب إلی عدم الجواز مطلقاً فی الأوّل ، وعدم الجواز فی الأخیرین إن قلنا بأنّ التقلید هو الالتزام والأخذ ، والجواز إن قلنا بأنّـه نفس العمل مستنداً إلی الفتوی .
ووجّهـه فی الأوّل بأنّـه لا مجال لـه للعدول بعد العمل بالواجب المخیّر ، لعدم إمکان تکرار صرف الوجود وامتناع تحصیل الحاصل ، ولیس کلّ زمان قیداً للأخذ بالفتوی ، حتّی یقال : إنّـه لیس باعتبار الزمان المتأخّر تحصیلاً للحاصل ، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ یکون الزمان ظرفاً لـه بحسب الأدلّـة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 495
نعم یمکن إفادة التخیـیر فی الأزمنـة المتأخّرة بدلیل آخر یفید التخیـیر فی الاستدامـة علی العمل الموجود ورفع الید عنـه والأخذ بالآخر ، وإذ هو لیس فلیس . وإفادتـه بأدلّـة التخیـیر فی إحداث الأخذ بهذا أو ذاک ممتنع ، للزوم الجمع بین لحاظین متنافیـین ، نظیر الجمع بین الاستصحاب والقاعدة بدلیل واحد . ولا یجری الاستصحاب ؛ لأنّ التخیـیر بین الإحداثین غیر ممکن الجرّ إلی الزمان الثانی ، وبالنحو الثانی لا حالـة سابقـة لـه ، والاستصحاب التعلیقی لفتوی الآخر غیر جار ؛ لأنّ الحجّیـة المبهمـة السابقـة صارت معیّنـة فی المأخوذ ، وزالت قطعاً ، کالملکیّـة المشاعـة إذا صارت مفروزة . ووجـه الأخیرین بهذا البیان بعینـه إن قلنا : إنّ المأمور بـه فی مثل قولـه : « فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا » وغیره هو العمل الجوانحی ، أی الالتزام والبناء العقلی ، وإن قلنا : بأنّـه العمل ، فلا إشکال فی بقاء الأمر التخیـیری فی کلا القسمین بلا محذور ، ومع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب ، انتهی ملخّصاً من تقریر بحثـه .
أقول : ما یمکن البحث عنـه فی الصورة الاُولی هو جواز تکرار العمل بعد الإتیان بـه مطابقاً لفتوی الأوّل ، وأ مّا البحث عن بقاء التخیـیر وکذا جواز العدول بعنوانهما ، فأمر غیر صحیح ؛ ضرورة أنّ التخیـیر بین الإتیان بما أتی بـه والعمل بقول الآخـر ممّا لا معنی لـه ، وطرح العمل الأوّل وإعدامـه غیر معقول بعد
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 496
الوجود حتّی یتحقّق ثانیاً موضوع التخیـیر ، وکذا لا یعقل العدول بحقیقتـه بعد العمل ، فلابدّ وأن یکون البحث ممحّضاً فی جواز العمل بقول الثانی بعد العمل بقول الأوّل .
قد یقال بعدم الجواز ؛ لأنّ الإتیان بأحد شقّی الواجب التخیـیری موجب لسقوط التکلیف جزماً ، فالإتیان بعده بداعویّـة الأمر الأوّل ، أو باحتمال داعویّتـه ، أو بداعویّـة المحتمل ، غیر معقول ، ومع العلم بالسقوط لا معنی لإجراء الاستصحاب ، لا استصحاب الواجب التخیـیری ، وهو واضح ، ولا جواز العمل علی طبق الثانی ، لفرض عدم احتمال أمر آخر غیر التخیـیری الساقط ، وکان الظاهر من تقریرات بحث شیخنا ذلک .
وفیـه : إنّ ذلک ناشٍ من الخلط بین التخیـیر فی المسألـة الفرعیّـة والمسألـة الاُصولیّـة فإنّ ما ذکر وجیـه فی الأوّل دون الثانی ، لأنّ الأمر التخیـیری فی الثانی لا نفسیّـة لـه ، بل لتحصیل الواقع بحسب الإمکان بعد عدم الإلزام بالاحتیاط ، فمع الإتیان بأحد شقّی التخیـیر فیـه ، یبقی للعمل بالآخر مجال واسع وإن لم یکن المکلّف ملزماً بـه ، تخفیفاً علیـه .
نعم لو قلنا بحرمـة الاحتیاط أو بالإجزاء فی باب الطرق ولو مع عدم المطابقـة ، لکان الوجـه ما ذکر ، لکنّهما خلاف التحقیق .
وبهـذا یظهر : أنّ استصحاب جـواز الإتیان بمـا لم یأت بـه ، لا مانـع منـه لـو شکّ فیـه .
نعم لا یجری الاستصحاب التعلیقی ؛ لأنّ التعلیق لیس بشرعی .
وأ مّا الصورتان الأخیرتان بناءً علی کون التقلید الالتزام والعقد القلبی ، فقیاسهما علی الصورة الاُولی مع الفارق ، لإمکان إبطال الموضوع وإعدامـه
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 497
بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب ، فصار حینئذٍ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما من غیر ورود الإشکال المتقدّم ـ من لزوم الجمع بین اللحاظین ـ علیـه ، ولیس الکلام هاهنا فی إطلاق الدلیل وإهمالـه ، بل فی إمکانـه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق .
وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما أفاده رحمه الله من أنّ الالتزام وعقد القلب أمر وجدانی ممتدِّ، إذا حصل فی زمان لا یعقل حدوثـه ثانیاً ، غیر وجیـه ؛ لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل إحداث لا إبقاء ، لامتناع إعادة المعدوم .
هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّـة إثباتاً ، وإلاّ فقد مرّ أنّـه لا دلیل لفظی فی باب التقلید یمکن الاتّکال علیـه فضلاً عن الإطلاق بالنسبـة إلی حال التعارض بین فتویـین ، وإنّما قلنا بالتخیـیر للشهرة والإجماع المنقولین وهما معتبران فی مثل تلک المسألـة المخالفـة للقواعد ، والمتیقّن منهما هو التخیـیر الابتدائی ؛ أی التخیـیر قبل الالتزام .
والتحقیق : عدم جریان استصحاب التخیـیر ولا الجواز ، لاختلاف التخیـیر الابتدائی والاستمراری موضوعاً وجعلاً ، فلا یجری استصحاب شخص الحکم ، وکذا استصحاب الکلّی ، لفقدان الأرکان فی الأوّل ، ولکون الجامع أمراً انتزاعیّاً لا حکماً شرعیاً ولا موضوعاً ذا أثر شرعی ، وترتیب أثر المصداق علی استصحاب الجامع مثبت ، ولا فرق فی ذلک بین استصحاب جامع التخیـیرین أو جامع الجوازین الآتیـین من قبلهما .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 498