فیما استدلّ به علی ترجیح قول الأفضل
واستدلّ علی ترجیح قول الأفضل مع العلم بالمخالفـة تارة : بالإجماعات المنقولـة ، وهو کما تری فی مثل المسألـة العقلیّـة مع تراکم الأدلّـة .
واُخری : بالأخبار کالمقبولـة وغیرها ، بأن یقال : إنّ الشبهـة فرضت حکمیّـة فی المقبولـة ، فنفوذ حکمـه تعینیّاً ملازم لنفوذ فتواه کذلک فی تلک المسألـة ، فتعدّی إلی غیرها بإلغاء الخصوصیـة أو القطع بالملاک سیّما مع تناسب الأفقهیّـة والأصدقیّـة فی الحدیث لذلک .
وفیـه : ـ مضافاً إلی أنّ ظاهر المقبولـة أنّ الأوصاف الأربـع مجتمعـة توجب التقدیم بمقتضی العطف بالواو ، وفرض الراوی صورة التساوی لا یکشف عن کون المراد وجود أحدها ـ بمنع التلازم هاهنا ، لأنّ الملازمـة إنّما تکون فی صورة إثبات النفوذ لا سلبـه ، لأنّ سلب المرکّب أو ما بحکمـه بسلب أحد أجزائـه ، فسلب نفوذ حکمـه کما یمکن أن یکون لسلب حجّیـة فتواه ، یمکن أن یکـون لسلب صلاحیّـة حکمـه للفصل ، وعـدم جـواز الأخـذ بالفتوی فـی المقام لیس لعـدم صلاحیتـه للحجّیـة ، بل لعدم کونـه فاصلاً ، بل فتوی الأعلم أیضاً لیس بفاصـل ، والتناسب بیـن الأفقهیّـة وذلـک لم یصـل إلی حـدّ کشف العلّیـة التامّـة .
هذا کلّـه مع أنّ إلغاء الخصوصیّـة عرفاً أو القطع بالملاک ممّا لا وجـه لهما بعد وضوح الفرق بین المقامین ، ولعلّ الشارع لاحظ جانب الاحتیاط فی حقوق الناس ، فجعل حکم الأعلم فاصلاً لأقربیّـة الواقع بنظره ، ولم یلاحظـه فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 463
أحکامـه توسعـة علی الناس ، فدعوی إلغاء الخصوصیـة مجازفـة ، ودعوی القطع أشدّ مجازفـة .
وثالثـة : بأنّ فتوی الأعلم أقرب إلی الصواب ، لأنّ نظره طریق محض إلی الواقع سواء الأوّلیات منـه ، أو الثانویات ، أو الأعذار الشرعیّـة والعقلیّـة ، فحینئذٍ تلازم الأعلمیّـة للأقربیـة وهو المتعیّن فی مقام الإسقاط والأعذار ، وجواز الرجوع إلی غیره یساوق الموضوعیّـة .
والجواب عن الصغری : بمنع کلّیتها ، لأنّ رأی غیر الأعلم قد یوافق رأی الأعلم من الأموات أو الأحیاء إذا لم یجز تقلیدهم لجهـة ، بل إذا کان رأی غیر الأعلم موافقاً لجمیع الفقهاء ویکون الأعلم منفرداً فی الأحیاء فی الفتوی مع کون مخالفیـه کثیراً جدّاً .
وتنظّر بعض أهل النظر فی الصغری بأنّ حجّیـة الفتوی لأجل کونـه من الظنون الخاصـة لا المطلقـة ، فمطابقـة قول غیر الأعلم للأعلم الغیر الصالح للحجّیـة غیر مفیدة .
فلا عبرة بقوّتـه ولا أصلـه کالظنّ من الأمارات الغیر المعتبرة ، والأقوائیّـة بمطابقـة قولـه لسائر المجتهدین الذین مثلـه فغیر مسلّم ، إذ المطابقـة لوحدة الملاک وتقارب الأنظار ، فالکلّ فی قوّة نظر واحد ، ولا یکشف توافق آرائهم عن قوّة مدرکهم ، وإلاّ لزم الخلف ، لفرض أقوائیّـة نظر الأعلم .
ومنـه یعلم فساد قیاسها بالخبرین المتعارضین المحکی أحدهما بطرق متعدّدة ، إذ لیست الحکایات المتعددة بمنزلـة حکایـة واحدة ، فلا محالـة یوجب کلّ حکایـة ظنّاً بصدور شخص هذا الکلام من غیر لزوم الخلف ، انتهی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 464
وفیـه ما لا یخفی ؛ إذ المنظور فی ردّ الصغری إنکار کلّیـة دعوی أقربیّـة قول الأعلم ، لا دعوی تقدّم قول غیر الأعلم فی مقام الاحتجاج ، فما ذکره أجنبی عن المقام ، بل المناقشـة فیـه منحصرة بإنکار الأقربیّـة ، وهو مسقط لأصل دعواه فی الصغری ، إذا إنکاره مساوق لإنکار أقربیّـة فتوی الأعلم .
وأ مّا إنکار الأقربیّـة فی المثال الأخیر فغیر وجیـه ، لأنّ أنظار المجتهدین کما کانت طریقاً إلی الواقعیّات والحجج فلا محالـة إذا اجتمع جلّ أهل الفنّ علی خطأ الأعلم لا یبقی وثوق بأقربیّـة قولـه لو لم نقل بالوثوق علی الخلاف . وإن شئت قلت : لا تجری أصالـة عدم الغفلـة والخطأ فی اجتهاده ، وتوهّم کون أنظارهم بمنزلـة نظر واحد کتوهّم لزوم الخلف فی غایـة السقوط .
وعن الکبری : بأنّ تعیّن الرجوع إلی الأقرب إن کان لأجل إدراک العقل تعیّنـه جزماً ـ بحیث لا یمکـن للشارع التعبّد بخلافـه ، ولـو ورد دلیل صریـح علی خلافـه لابدّ من طرحـه ـ فهو فاسـد ، لأنّ الشارع إذا رأی مفسدة فی تعیّن الرجـوع إلـی الأعلـم أو مصلحـة فـی التوسعـة علـی المکـلّف فلا محالـة یرخّـص ذلـک مـن غیر الشبهـة الموضوعیـة کتجـویز العمل بخبر الثقـة وتـرک الاحتیاط .
نعم لو علمنا وجداناً بأنّ الشارع لا یرضی بترک الواقعیات فلا یمکن معـه احتمال تجویز العمل بقول العالم ولا بقول الأعلم ، بل یحکم العقل بوجوب الاحتیاط ولو مع اختلال النظام فضلاً عن لزوم الجرح ، لکنّـه خلاف الواقع وخلاف المفروض فی المقام ، ولهذا لا أظنّ بأحد ردّ دلیل معتبر قام علی جواز الرجوع بغیر الأعلم ، فعلیـه کیف یمکن دعوی القطع بلزوم تعیّن الأقرب مع احتمال تعبّد فی المقام ولو ضعیفاً ؟ !
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 465
وممّا ذکرنا یظهر النظر فی کلام بعض أهل النظر ، حیث قال ما ملخّصـه : إنّ القرب إلی الواقع إن لم یلحظ أصلاً فهو مناف للطریقیّـة وإن کان بعض الملاک ، وهناک خصوصیّـة اُخری تعبّدیّـة فهو غیر ضائر بالمقصود ، لأنّ فتوی الأعلم حینئذٍ مساوٍ لغیره فی جمیع الخصوصیّات ، ویزید علیـه بالقرب ، سواء کانت تلک الخصوصیّـة التعبّدیّـة جزء المقتضی أو شرط جعلـه أمارة ، فیکون فتوی الأعلم متعیّناً لترجیحـه علی غیره بالملاک الذی هو ملاک الحجّیـة ، ولهذا قیاسـه علی البصر والکتابـة مع الفارق ، لکونهما غیر دخیلین فی ذلک الملاک ، لأنّ معنی الأعلمیّـة لیس الأقوائیّـة بحسب المعرفـة بحیث لا تزول بتشکیک حتّی یقاس علیهما ، بل بمعنی أحسنیّـة الاستنباط وأجودیّتـه فی تحصیل الحکم من المدارک ، فیکون أکثر إحاطـة بالجهات الدخیلـة فیـه المغفولـة عن نظر غیره ، فمرجع التسویـة بینهما إلی التسویـة بین العالم والجاهل ، وهذا وجـه آخر لتعیّن الأعلم ولو لم نقل بأقربیـة رأیـه أو کون الأقربیّـة ملاک التقدیم ، لأنّ العقل یذعن بأنّ رأیـه أوفق بمقتضیات الحجج ، وهو المتعیّن فی مقام إبراء الذمّـة ، ویذعن بأنّ التسویـة بینهما کالتسویـة بین العالم والجاهل ، انتهی .
وفیـه مواقع للنظر :
منهـا : أنّ الـخصوصیّـة الـتعبّدیـة لا یلـزم أن تکون جـزء المقتضـی أو شـرط التأثیر ، بل یمکـن أن تکون مانعـة عـن تعیّن الأعلم کالخصوصیّـة المانعـة عن إلزام الاحتیاط الموجبـة لجعل الأمارات والاُصول من غیر لزوم الموضوعیّـة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 466
ومنها : أنّ أحسنیّـة الاستنباط وکون الأعلم أقوی نظراً فی تحصیل الحکم من المدارک عبارة اُخری عن أقربیّـة رأیـه إلی الواقع ، فلا یخلو کلامـه من التناقض والتنافی .
ومنها : أنّ إذعان العقل بما ذکره مستلزم لامتناع تجویز العمل علی طبق رأی غیر الأعلم ، لقبح التسویـة بین العالم والجاهل ، بل امتناعـه وهو کما تری ، ولا أظنّ التزام أحد بـه .
والتحقیق : أنّ تجویز العمل بقول غیره لیس لأجل التسویـة بینهما ، بل لمفسدة التضیـیق أو مصلحـة التوسعـة ونحوهما ممّا لا ینافی الطریقیـة کما قلنا فی محلّـه ، ولیعلم أنّ هذا الدلیل الأخیر غیر أصالـة التعیـین فی دوران الأمر بین التخیـیر والتعیـین وغیر بناء العقلاء علی تعیّن الأعلم فی مورد الاختلاف ، فلا تختلط بینـه وبینهما وتدبّر جیّداً .
فالإنصاف : أنّـه لا دلیل علی ترجیح قول الأعلم إلاّ الأصل بعد ثبوت کون الاحتیاط مرغوباً عنـه وثبوت حجّیـة قول الفقهاء فی الجملـة ، کما أنّ فی الأصل أیضاً إشکال ، لأنّ فتوی غیر الأعلم إذا طابق الأعلم من أعلم من الأموات أو فی المثالین المتقدّمین یصیر المقام من دوران الأمر بین التخیـیر والتعیـین ، لا تعیّن الأعلم ، والأصل فیـه التخیـیر .
إلاّ أن یقال : إنّ تعیّن غیر الأعلم حتّی فی مورد الأمثلـة مخالف لتسالم الأصحاب وإجماعهم ، فدار الأمـر بین التعیـین والتخیـیر فی مـورد الأمثلـة أیضاً ، وهو الوجـه فی بنائنا علی الأخذ بقول الأعلم احتیاطاً ، وأ مّا بناء العقلاء
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 467
فلم یحرز فی مورد الأمثلـة المتقدّمـة .
هذا فیما إذا علم اختلافهما تفصیلاً ، بل أو إجمالاً أیضاً بنحو ما مرِّ، وأ مّا مع احتمالـه فلا یبعد القول بجواز الأخذ من غیره أیضاً ، لإمکان استفادة ذلک من الأخبار ، بل لا یبعد دعوی السیرة علیـه ، هذا کلّـه فی المتفاضلین .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 468