الثانی : الأخبار التی استدلّ بها علی حجّیة قول المفضول
وأمّا الأخبار فمنها : ما عن تفسیر الإمام علیه السلام فی ذیل قولـه تعالی : « وَمِنهُم أُمِّیُّونَ لا یَعلَمُونَ الکِتَابَ إِلاّ أَمَانِیَّ وَإِن هُم إِلاّ یَظُنُّونَ » والحدیث طویل وفیـه : « وأمّا من کان من الفقهاء صائناً لنفسـه ، حافظاً لدینـه ، مخالفاً علی هواه ، مطیعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن یقلّدوه » .
دلّ بإطلاقـه علی جواز تقلید المفضول إذا وجد فیـه الشرائط ولو مع وجود الأفضل أو مخالفتـه لـه فی الرأی .
لکنّـه ـ مع ضعف سنده وإمکان أن یقال إنّـه فی مقام بیان حکم آخر ، فلا إطلاق لـه لحال وجود الأفضل فضلاً عن صورة العلم بمخالفـة رأیـه رأی الأفضل مخدوش من حیث الدلالـة ، لأنّ صدره فی بیان تقلید عوام الیهود من
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 457
علمائهم فی الاُصول ، حیث قال : « « وَإِن هُم إِلاّ یَظُنُّونَ » ما تقول رؤساؤهم من تکذیب محمّد صلی الله علیه و آله وسلم فی نبوّتـه وإمامـة علی سیّد عترتـه ، وهم یقلّدونهم مع أنّـه محرّم علیهم تقلیدهم » .
ثمّ بعدما سأل الرجل عن الفرق بین عوامنا وعوامهم حیث کانوا مقلّدین ؟ أجاب بما حاصلـه : إنّ عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم وکذبهم وأکلهم الحرام والرشا وتغیـیرهم أحکام اللّٰه یقلّدونهم ، مع أنّ عقلهم یمنعهم عنـه ، ولو کان عوامهم [عوامنا] کذلک لکانوا مثلهم ثمّ قال : « وأمّا من کان من الفقهاء . . . » إلی آخره .
فیظهر منـه أنّ الذمّ لم یکن متوجّهاً إلی تقلیدهم فی اُصول العقائد کالنبوّة والإمامـة ، بل متوجّـه إلی تقلید فسّاق العلماء ، وأنّ عوامنا لو قلّدوا علمائهم فیما قلَّد الیهود علمائهم لا بأس بـه إذا کانوا صائنین لأنفسهم حافظین لدینهم . . . إلی آخره . فإخراج الاُصول منـه إخراج للمورد وهو مستهجن .
فلابدّ من توجیـه الروایـة بوجـه أو ردّ علمها إلی أهلها . وأمّا حملها علی حصول العلم من قول العلماء للعوام لحسن ظنّهم بـه وعدم انقداح خلاف الواقع من قولهم ، بل یکون قول العلماء لدیهم صراح الواقع وعین الحقیقـة ، فبعید بل غیر ممکن ، لتصریحها بأنّهم لم یکونوا إلاّ ظانّین بقول رؤسائهم وأنّ عقلهم کان یحکم بعدم جواز تقلید الفاسق ، مع أنّـه لو حصل العلم من قولهم للیهود لم یتوجّـه إلیهم ذمّ بل لم یسمّ ذلک تقلیداً .
وبالجملـة : سوق الروایـة إنّما هو فی التقلید الظنّی الذی یمکن ردع قسم منـه والأمر بالعمل بقسم منـه ، والالتزام بجواز التقلید فی الاُصول أو فی بعضها کما تری ، فالروایـة مع ضعفها سنداً واغتشاشها متناً لا تصلح للحجّیـة ، ولکن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 458
یستفاد منها مع ضعف سندها أمر تاریخی یؤیّد ما نحن بصدده ، وهو أنّ التقلید بهذا المفهوم الذی فی زماننا کان شائعاً من زمن قدیم هو زمان الأئمّـة ، أو قریب منـه ؛ أی من زمان تدوین « تفسیر الإمام » أو من قبلـه بزمان طویل .
ومنها : إطلاق صدر مقبولـة عمر بن حنظلـة وإطلاق مشهورة أبیخدیجـة . وتقریب الدلالـة أن یقال : إنّ الظاهر من صدرها وذیلها شمولها للشبهات الحکمیّـة ، فیؤخذ بإطلاقها فی غیر مورد واحد متعرّض لـه وهو صورة اختلاف الحَکَمین ، وکذا المشهورة تشملها بإطلاقها ، فإذا دلّتا علی نفوذ حکم الفقیـه فیها ، تدلاّن علی اعتبار فتواه فی باب فصل الخصومات ، وإلاّ فلا یعقل إنفاذه بدونـه ، ویفهم نفوذ فتواه وحجّیتـه فی غیره إمّا بإلغاء الخصوصیـة عرفاً ، أو بدعوی تنقیح المناط .
أو یقال : إنّ الظاهر من قولـه : « فإذا حکم بحکمنا » . إلغاء احتمال الخلاف من فتوی الفقیـه ، إذ لیس المراد منـه « أنّـه إذا علمتم أنّـه حکم بحکمنا » ، بل المراد « أنّـه إذا حکم بحکمنا بحسب نظره ورأیـه » فجعل نظره طریقاً إلی حکمهم ، هذا .
ولکن یرد علیـه : أنّ إلغاء الخصوصیّـة عرفاً ممنوع ، ضرورة تحقّق خصوصیّـة زائدة فی باب الحکومـة ربّما تکون بنظر العرف دخیلـة فیها وهی رفع
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 459
الخصومـة بین المتخاصمین ، وهو لا یمکن نوعاً إلاّ بحکم الحاکم النافذ ، وهذا أمر مرغوب فیـه لا یمکن فیـه الاحتیاط ولا یتّفق فیـه المصالحـة نوعاً ، وأمّا العمل بقول الفقیـه فربّما لا یکون مطلوباً ویکون المطلوب درک الواقع بالاحتیاط أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذّر الاحتیاط التامِّ.
فدعوی أنّ العرف یفهم من المقبولـة وأمثالها حجّیـة الفتوی لا تخلو من مجازفـة ، وأوضح فساداً من ذلک دعوی تنقیح المناط القطعی .
وأمّا قولـه : « إذا حکم بحکمنا » لو سلّم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف فإنّما هو فی باب الحکومـة ، فلابدّ للسرایـة إلی باب الفتوی من دلیل وهو مفقود ، فالإنصاف عدم جواز التمسّک بأمثال المقبولـة للتقلید رأساً ، وکما لا یجوز التمسّک بصدرها علی جواز تقلید المفضول لا یجوز ببعض فقرات ذیلها علی وجوب تقلید الأعلم لدی مخالفـة قولـه مع غیره .
ومنها ؛ إطلاق ما فی التوقیع : « وأمّا الحوادث الواقعـة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فانّهم حجّتی علیکم وأنا حجّـة اللّٰه » .
وتقریبـه : أنّ « الحوادث » أعمّ من الشبهات الحکمیّـة ، والرجوع إلی رواة الحدیث ظاهر فی أخذ فتواهم لا أخذ نفس الروایـة ، ورواة الحدیث کانوا من أهل الفتوی والرأی ، کما أنّ قولـه : « فإنّهم حجّتی علیکم » ، یدلّ علی أنّ فتوی رواة الحدیث حجّـة ، کما أنّ فتوی الإمام حجّـة ، فلا معنی لحجّیـة رواة الحدیث إلاّ حجیّـة فتاویهم وأقوالهم ، والحمل علی حجّیـة الأحادیث المنقولـة بتوسّطهم خلاف الظاهر .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 460
وفیـه : بعد ضعف التوقیع سنداً أنّ صدره غیر منقول إلینا ، ولعلّـه کان مکتنفاً بقرائن لا یفهم منها إلاّ حجّیـة حکمهم فی الشبهات الموضوعیّـة أو الأعمِّ، وکان الإرجاع فی القضاء لا فی الفتوی .
ومنها : ما عن الکشی بسند ضعیف عن أحمد بن حاتم بن ماهویـه قال : کتبت إلیـه ـ یعنی أبا الحسن الثالث علیه السلام أسألـه : عمّن آخذ معالم دینی ، وکتب أخوه أیضاً بذلک ، فکتب إلیهما : « فهمت ما ذکرتما فاصمدا فی دینکما علی کلّ مسنّ فی حبّنا وکلّ کثیر القدم فی أمرنا ، فإنّهما کافوکما إن شاء اللّٰه تعالی » .
وفیـه : بعد ضعف السند أنّ الظاهر من سؤالـه أنّ الرجوع إلی العالم کان مرتکزاً فی ذهنـه ، وإنّما أراد تعیـین الإمام شخصـه ، فلا یستفاد منـه التعبّد ، کما أنّ الأمر کذلک فی کثیر من الروایات ، بل قاطبتها علی الظاهر .
ومنها : روایات کثیرة عن الکشی وغیره ، فیها الصحیح وغیره تدلّ علی إرجاع الأئمـة إلی أشخاص من فقهاء أصحابهم ، یظهر منها أنّ الرجوع إلیهم کان متعارفاً ، ومع وجود الأفقـه کانوا یرجعون إلی غیره ، کصحیحـة ابن أبی یعفور قال : قلت لأبی عبداللّٰه علیه السلام : إنّـه لیس کلّ ساعـة ألقاک ولا یمکن القدوم ، ویجیء الرجل من أصحابنا فیسألنی ولیس عندی کلّ ما یسألنی عنـه ، فقال : « ما یمنعک من محمّد بن مسلم الثقفی ، فإنّـه سمع من أبی وکان عنده وجیهاً » .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 461
وکروایـة علی بن المسیّب ، حیث أرجعـه الرضاعلیه السلام إلی زکریّا بن آدم ، إلی غیر ذلک .
ویستفاد منها أنّ أخذ معالم الدین الذی هو عبارة اُخری عن التقلید کان مرتکزاً فی ذهنهم ومتعارفاً فی عصرهم ، ویستفاد من صحیحـة ابن أبی یعفور تعارف رجوع الشیعـة إلی الفقهاء من أصحاب الأئمّـة مع وجود الأفقـه بینهم ، وجواز رجوع الفقیـه إلی الأفقـه إذا لم یکن لـه طریق إلی الواقع .
وهذا لیس منافیاً لما ذکرنا فی أوّل الرسالـة من أنّ موضوع عدم جواز الرجوع إلی الغیر نفس قوّة الاستنباط ، وذلک لأنّ ما ذکرنا هناک إنّما هو فیمن لـه طریق إلی الاستنباط مثل زماننا ، فإنّ الکتب الراجعـة إلیـه مدوّنـة مکتوبـة بین أیدینا ، بخلاف ما إذا لم یمکن کذلک ، کعصر محمّد بن مسلم ، حیث إنّ الأحادیث فیـه کانت مضبوطـة عنده وعند نظرائـه ، ولم یکن للجاهل طریق إلیها إلاّ بالرجوع إلیهم ، مع إمکان أن یقال : إنّ إرجاع مثل ابـن أبی یعفور إنّما هـو فی سماع الحدیث ثمّ استنباطـه منـه حسب اجتهاده ، ولا إشکال فی استفادة جواز الرجوع إلی الفقهاء ـ بل إلی الفقیـه مع الأفقـه ـ مـن تلک الروایات . لکـن استفادة ذلک مع العلم الإجمالی أو التفصیلی بمخالفـة آرائهما مشکلـة ، لعدم العلم بذلک فی تلک الأعصار ، خصوصاً من مثل اُولئک الفقهاء والمحدّثین الذین کانوا من بطانة الأئمّة فالاتّکال علی مثل تلک الأدلّـة فی جواز تقلید المفضول مشکل ، بل غیر ممکن .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 462