الأوّل : بعض الآیات الشریفة
منها : قولـه تعالی فی سورة الأنبیاء : « وَمَا أَرسَلنَا قَبلَکَ إِلاّ رِجَالاً نُوحی إِلَیهِم فَسئَلُوا أَهلَ الذِّکرِ إِن کُنتُم لاَ تَعلَمُون » بدعوی أنّ إطلاقـه یقتضی جواز الرجوع إلی المفضول حتّی مع مخالفـة قولـه للأفضل ، سیّما مع ندرة التساوی بین العلماء وتوافقهم فی الآراء .
وفیـه ـ مضافاً إلی ظهور الآیـة فی أنّ أهل الذکر هم علماء الیهود والنصاری وإرجاع المشرکین إلیهم ، وإلی ورود روایات کثیرة فی أنّ أهل الذکر هم الأئمّـة بحیث یظهر منها أنّهم أهلـه لا غیر ـ أنّ الشبهـة کانت فی اُصول العقائد التی یجب فیها تحصیل العلم ، فیکون المراد : « اسألوا أهل الذکر حتّی یحصل لکم العلم إن کنتم لا تعلمون » ومعلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لا یوجب العلم ، ففی الآیـة إهمال من هذه الجهـة ، فیکون المراد أنّ طریق تحصیل العلم لکم هو الرجوع إلی أهل الذکر ، کما یقال للمریض : إنّ طریق استرجاع الصحّـة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 452
هو الرجوع إلی الطبیب وشرب الدواء ، فلیس لها إطلاق یقتضی الرجوع إلی الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما .
ولایبعد أن یقال : إنّ الآیـة بصدد إرجاعهم إلی أمر ارتکازی هو الرجوع إلی العالم ، ولا تکون بصدد تحمیل تعبّدی وإیجاب مولوی .
ومنها : آیـة النفر « وَمَا کَانَ المُؤمِنُون لِیَنفِرُوا کَافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن کُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَیهِم لَعَلَّهُم یَحذَرُونَ » .
والاستدلال بها للمطلوب یتوقّف علی اُمور :
منهـا : استفادة وجوب النفر منها .
ومنها : کون التفقّـه غایـة لـه .
ومنها : کون الإنذار من جنس ما یتفقّـه فیـه .
ومنها : انحصار التفقّـه بالفرعیّات .
ومنها : کون المنذر ـ بالکسر ـ کلّ واحد من النافرین .
ومنها : کون المنذَر ـ بالفتح ـ کلّ واحد من الطائفـة الباقیـة .
ومنها : کون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر .
ومنها : وجوب العمل بقولـه ، حصل العلم منـه أو لا ، خالف قول غیره أو لا .
فیصیر مفاد الآیـة بعد تسلیم المقدّمات : « یجب علی کلّ واحد من کلّ طائفـة من کلّ فرقـة النفر لتحصیل الفروع العملیّـة ، لیبیّنها لکلّ واحد من الباقین ، لیعمل المنذر بقولـه ، حصل العلم منـه أو لا ، وخالف قول غیره أو لا » .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 453
وأنت خبیر بعدم سلامـة جمیع المقدّمات لو سلم بعضها ، فلک أن تمنع کون التفقّـه غایـة النفر بأن یقال : إنّ قولـه : « وَمَا کَانَ المُؤمِنُون لِیَنفِرُوا کَافَّةً »یحتمل أن یکون إخباراً فی مقام الإنشاء ، أی لیس لهم النفر العمومی ، کما ورد أنّ القوم کانوا ینفرون کافّـة للجهاد وبقی رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم وحده ، فورد النهی عن النفر العمومی والأمر بنفر طائفـة للجهاد .
فحینئذٍ لا یکون التفقّـه غایـة للنفر إذا کان التفقـه لغیر النافرین ؛ أی الباقین . لکن الإنصاف أنّ ذلک خلاف ظاهرها ، بل ظاهرها أنّ المؤمنین بحسب اشتغالهم باُمور المعاش ونظم الدنیا ما کانوا لینفروا جمیعاً ، أی النفر العمومی لیس میسوراً لهم ، ولولا نفر من کلّ فرقـة طائفـة منهم للتفقّـه ؟ ولا إشکال فی أنّ الظاهر منـه مع قطع النظر عن قول المفسّرین هو کون التفقّـه غایـة لـه .
وأمّا کون الإنذار من سنخ ما یتفقّـه فیـه ؛ أی بیان الأحکام بنحو الإنذار فلیست الآیـة ظاهرة فیـه ، بل الظاهر منها أنّ غایـة النفر أمران :
أحدهما : التفقّـه فی الدین وفهم الأحکام الدینیّـة .
والآخر : إنذار القوم وموعظتهم . فیکون المراد : یجب علی الفقیـه إنذار القوم وإیجاد الخوف من بأس اللّٰه فی قلوبهم ، فإذا خافوا یحکم عقلهم بوجوب تحصیل المؤمِّن ، فلا محیص لهم إلاّ العلم بالأحکام مقدّمـة للعمل بها ، وأمّا وجوب العمل بقول المنذر فلا تدّل الآیـة علیـه .
ودعوی أنّ الإنذار لابدّ وأن یکون من جنس ما یتفقّـه فیـه ، وإلاّ فأ یّـة مناسبـة للفقیـه معـه ، ممنوعـة ، لأنّ الإنذار مناسب للفقیـه ، لأنّـه یعلم حدوده وکیفیّتـه وشرائط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، مع أنّ لکلامـه تأثیراً فی القوم ما لا یکون لکلام غیره ، لعلوّ مقامـه وعظم شأنـه لدیهم ، وأمّا التفقّـه فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 454
الدین فهو أعمّ من الاُصول والفروع ، فلا وجـه لاختصاصـه بالثانی ، والأخبار الواردة فی تفسیرها تدلّ علی تعمیمـه . فحینئذٍ لا یمکن أن یقال بوجوب قبول قولـه تعبّداً ، لعدم جریانـه فی الاُصول .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ إطلاقها علی فرضـه یقتضی قبول قول الغیر فی الاُصول والفروع ویقیّد إطلاقها عقلاً فی الاُصول وتبقی الفروع .
وأمّا کون المنذر ـ بالکسر ـ کلّ واحد من الطائفـة فلا إشکال فی ظهور الآیـة فیـه ، لکنّ الظاهر منها أنّ کل واحد من المنذرین یجب علیـه إنذار القوم جمیعاً ، ومعـه لا تدلّ الآیـة علی وجوب القبول من کلّ واحد منهم ، فإنّـه بإنذار کلّ واحد منهم قومهم ربّما یحصل لهم العلم .
وأمّا کون التحذّر بمعنی التحذّر العملی أی قبول قول الغیر والعمل بـه فهو خلاف ظاهرها ، بل التحذّر إمّا بمعنی الخوف ، وإمّا بمعنی الاحتراز وهو الترک عن خوف ، والظاهر أنّـه بمعنی الخوف الحاصل عن إنذار المنذرین ، وهو أمر غیر اختیاری لا یمکن أن یتعلّق بعنوانـه الأمر ، نعم یمکن تحصیلـه بمقدّمات اختیاریّـة کالحبّ والبغض وأمثالهما ، هذا کلّـه مع أنّـه لا إطلاق للآیـة ، ضرورة أنّها بصدد بیان کیفیّـة النفر وأنّـه إذن لا یمکن للناس نفر عمومی ، فلِمَ لا ینفر طائفـة منهم ، فإنّـه میسور لهم ؟ !
وبالجملـة : لا یجوز للناس سدّ باب التفقّـه والتعلّم بعذر الاشتغال باُمور الدنیا ؛ فإنّ أمر الدین کسائر اُمورهم یمکن قیام طائفـة بـه ، فلابدّ من التفقّـه والإنذار ، وأمّا وجوب قبول السامع بمجرّد السماع فلا إطلاق للآیـة یدلّ علیـه ، فضلاً عن إطلاقها لحال التعارض .
والإنصاف : أنّ الآیـة أجنبیّـة عن حجّیـة قول المفتی ، کما أنّها أجنبیّـة عن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 455
حجّیـة قول المخبر ، بل مفادها ـ والعلم عند اللّٰه ـ أنّـه یجب علی طائفـة من کلّ فرقـة أن یتفقّهوا فی الدین ویرجعوا إلی قومهم وینذروهم بالمواعظ والإنذارات والبیانات الموجبـة لحصول الخوف فی قلوبهم لعلّهم یحذرون ، ویحصل فی قلوبهم الخوف قهراً ، فإذا حصل الخوف فی قلوبهم یدور رحی الدیانـة ویقوم الناس بأمرها قهراً لسوقهم عقلهم نحو القیام بالوظائف .
هذا حالها مع قطع النظر عن الروایات الواردة فی تفسیرها ، ومع النظر إلیها أیضاً لا تدلّ علی المطلوب .
لأنّ منها : ما تدلّ علی أنّ الإمام إذا مات لم یکن للناس عذر فی عدم معرفـة الإمام الذی بعده ، أمّا من فی البلد فلرفع حجّتـه ، وأمّا غیر الحاضر فعلیـه النفر إذا بلغـه .
ومنها : ما دلّ علی أنّ تکلیف الناس بعد الإمام الطلب وأنّ النافرین فی عذر ما داموا فی الطلب ، والمنتظرین فی عذر حتّی یرجع إلیهم أصحابهم . ومعلوم أنّ قول النافرین بمجرّده لیس بحجّـة فی باب الإمامـة .
ومنها : ما وردت فی علّـة الحجِّ، وفیها : « ولأجل ما فیـه من التفقّـه ونقل أخبار الأئمّـة إلی کلّ صقع وناحیـة » .
ومنها : ما دلّ علی أنّـه تعالی أمرهم أن ینفروا إلی رسول اللّٰهصلی الله علیه و آله وسلم
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 456
فیتعلّموا ، ثمّ یرجعوا إلیهم فیعلّموهم ، وهو معنی قولـه صلی الله علیه و آله وسلم : « اختلاف اُمّتی رحمـة » . وهذه الطائفـة أیضاً لا تدلّ علی وجوب القبول بمجرّد السماع فضلاً عن حال التعارض ، هذا حال الآیات الشریفـة والآیات الاُخری التی استدلّ بها أضعف دلالـة منها .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 457