مناط بناء العقلاء فی رجوع الجاهل إلی العالم ومقتضاه
إنّ رجوع الجاهل إلی العالم یمکن أن یکون لأجل حصول الاطمئنان من قولـه ، بحیث لا ینقدح فی ذهنـه احتمال الخلاف ولا یلتفت إلیـه ، وعلی تقدیر التوجّـه والالتفات لا یعتنی بـه .
ویمکن أن یکون لأجل انسداد باب العلم علیه واضطراره من الرجوع إلیـه .
ویمکن أن یکون لأجل التبعیّـة لأ ئمّتهم ورؤسائهم الجاعلین لهذا القانون فی الأزمنـة السابقـة لأغراض منظورة لهم ، من دون أن یکون أمراً ارتکازیّاً للناس ، بل صار ارتکازیّاً لهم بعد جعل رؤسائهم .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 446
فهذه احتمالات متصوّرة فی بادئ النظر ، لکن لا سبیل إلی الثانی ، لأنّ الانسداد لا ینتج الرجوع إلی العالم والتعبّد بقولـه ، بل یقتضی الاحتیاط ولو مبعّضاً کما لایخفی .
والثالث أیضاً فی غایـة البعد بل مستحیل عادةً فإنّا نری أنّ هذا الأمر ـ وهو رجوع الجاهل إلی العالم ـ أمر متّفق علیـه بین جمیع أهل الأمصار فی جمیع الأعصار والقرون .
فدعوی استناد ذلک إلی جعل الأئمّـة والرؤساء ترجع إلی تصادف اتّفاق جمیع الأئمّـة علی جعل هذا الأمر مع کثرة الفصل بین البلاد وعدم الارتباط بین ساکنیها فی تلک الأزمنـة أصلاً ، فإسناد ذلک إلی مجرّد التصادف مستبعد جدّاً ، بل محال عادة ، کما عرفت .
فلا محیص عن الالتـزام بأنّ الوجـه فی رجـوع الجاهـل إلی العالم هو کون قولـه طریقاً موجباً لحصول الاطمئنان بحیث لا یکاد ینقدح فی ذهنهم احتمال الخلاف کما هو الشأن فی مثل قاعدة الید من القواعد العقلیّـة المتداولـة بین الناس . نعم لا یبعد أن یکون للانسداد دخل فی أعمالهم فی جمیع الموارد أو فی بعضها .
لکن یرد علی هذا الوجـه : أنّـه کیف یمکن أن یدّعی بناء العقلاء علی إلغاء احتمال الخلاف والخطأ مع هذه الاختلافات الکثیرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقیـه واحد فی کتبـه العدیدة بل فی کتاب واحد . ولهذا لا یبعد أن یکون رجوع
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 447
العامّی إلی الفقیـه إمّا لتوهّم کون فنّ الفقـه ـ کسائر الفنون ـ یقلّ الخطأ فیـه وکان رجوع المقلّد لمقدّمـة باطلـة وتوهّم خطأ ، أو لأمر تعبّدی أخذه الخلف عن السلف ، لا لأمر عقلائی وهو أمر آخر غیر بناء العقلاء .
ودعوی قلّـة خطأ العلماء بالنسبـة إلی صوابهم بحیث یکون احتمالـه ملغی ـ وإن کثر ـ بعد ضمّ الموارد بعضها إلی بعض غیر وجیهـة ، مع ما نری من الاختلافات الکثیرة فی کلّ باب إلی ما شاء اللّٰه .
وقد یقال : إنّ المطلوب للعقلاء فی باب الاحتجاجات بین الموالی والعبید قیام الحجّـة وسقوط التکلیف والعقاب بأیّ وجـه اتّفق ، والرجوع إلی الفقهاء موجب لذلک ، لأنّ المجتهدین مع اختلافهم فی الرأی مشترکون فی عدم الخطأ والتقصیر فی الاجتهاد ، ولا ینافی ذلک الاختلاف فی الرأی ، لإمکان عثور أحدهما علی حجّـة فی غیر مظانّها ، أو أصل من الاُصول المعتمدة ولم یعثر علیهما الآخر مع فحصـه بالمقدار المتعارف ، فتمسّک بالأصل العملی أو عمل علی الأمارة التی عنده ، فلا یکون واحد منهما مخطئاً فی اجتهاده ، ورأی کلّ منهما حجّـة فی حقّـه وحقّ غیره ، فرجوع العقلاء إلیهما لأجل قیام الحجّـة والعذر ، وهما المطلوب لهم لا إصابـة الواقع الأوّلی .
وأوضح من ذلک ما لو قلنا بجعل المماثل فی مؤدّی الأمارة .
وفیـه أوّلاً : أنّ تسمیـة ذلک « عدم الخطأ » فی غیر محلّـه . نعم لا یکون ذلک تقصیراً وإن کان مخطئاً ، ومع اختلافهما لا محالـة یعلم بخطأ أحدهما ، ومعـه لا یکون البناء علی الرجوع إذا کان الاختلاف کثیراً ولو فی غیر مورد اختلافهما ، للاعتداد باحتمال الخطأ حینئذٍ .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 448
وثانیاً : أنّـه لو سلّم أنّ نظر العقلاء فی مثل المقام إلی تحصیل الحجّـة والعذر ، لکنّهما متوقّفان علی إلغاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبـة إلی التکالیف الواقعیـة الأولیـة ، وهو فی المقام ممنوع ، ومؤدّی الطرق لو فرض باطلاً کونـه حکماً ثانویاً لا یوجب معذوریتـه بالنسبـة إلی الواقعیات إلاّ للمعذور وهو المجتهد ، لا للمقلّد الذی یکون مبنی عملـه فتواه ، وهو لیس معذّراً إلاّ مع کونـه کسائر الأمارات العقلائیـة قلیل الخطأ لدی العقلاء ، والفرض أنّ کلّ مجتهد یحکم بخطأ أخیـه لا بتقصیره ، ومعـه کیف یمکن حجّیـة الفتوی .
نعم یمکن أن یقال : إنّ الأمر الثانی من الأمرین المتقدّمین یدفع الإشکال ، فإنّ عدم ردع هذا البناء الخارجی دلیل علی رضاء الشارع المقدس بالعمل علی فتاوی الفقهاء مع الاختلاف المشهور .
لکن فی صیرورة ذلک هو البناء العقلائی المعروف والبناء علی أماریّـة الفتوی کسائر الأمارات إشکالاً ، إلاّ أن یقال ؛ إنّ بناء المتشرّعـة علی أخـذ الفتوی طریقاً إلی الواقـع ، والعمل علی طبق الأماریّـة والسکوت عنـه دلیل علـی الارتضاء بذلک ، وهو ملازم لجعل الأماریّـة لـه ، والمسألـة تحتاج إلی مـزید تأمّل .
ثمّ إنّـه بناءً علی أنّ المناط فی رجوع الجاهل إلی العالم هو إلغاء احتمال الخلاف والخطأ بحیث یکون احتمالـه موهوماً لا یعتنی بـه العقلاء لا إشکال فی أنّ هذا المناط موجود عندهم فی تشخیصات أهل الخبرة وأصحاب الفنون ، کان الأفضل موجوداً أو لا ، ولهذا یعملون علی قولـه مع عدم وجود الأفضل ، وهذا دلیل قطعی علی تحقّق مناط العمل عندهم فی قول الفاضل ، وإلاّ فکیف یعقل العمل مع عدم المناط ، فیکون المناط موجوداً کان الأفضل موجوداً أولا ، اختلف
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 449
رأیهما أو لا . فلو فرض تقدیمهم قول الأفضل عند الاختلاف فإنّما هو من باب ترجیح إحدی الحجّتین علی الاُخری ، لا من باب عدم الملاک فی قول المفضول ، لعدم تعقّل تحقّق المناط مع عدم الفاضل وعدمـه مع وجوده ، فقول المفضول حجّـة وأمارة عقلائیّـة فی نفسـه ، لأجل موهومیّـة احتمال الخطأ ، کما أنّ مناط العمل بقول الأفضل ذلک بعینـه .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 450