الأخبار الدالّة علی ثبوت منصب الحکومة والقضاء للفقیه
وأمّا الدلیل التفصیلی فهی الروایات الواردة فی هذا الباب :
منها : ـ وهی العمدة ـ مقبولـة عمر بن حنظلـة المتقدّمـة ، وهی تدلّ علی أنّ التحاکم إلی مثل السلطان أو القاضی الموجودین فی زمانهم فی حقّ أو باطلٍ تحاکم إلی الطاغوت ، وأنّ ما یأخذه بحکمـه إنّما یکون سحتاً وإن کان حقّـه ثابتاً ، لأنّـه أخذ بحکم الطاغوت ، وإنّما أمر اللّٰه أن یکفر بـه ، وتدلّ علی أنّـه لابدّ من النظر فی ذلک إلی من کان منکم ، أی من الإمامیّـة الاثنی عشریّـة ممّن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا .
والظاهر أنّ المراد بروایـة الحدیث لیس مجرّد روایـة حدیث ولو کان حدیثاً واحداً ، بل المراد هو کونـه راویـة الحدیث ومن کان شأنـه النقل لـه ولو بصورة الفتوی ، کما هو المعمول فی هذه الأعصار ، وأنّ المراد من النظر فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 427
حلالهم وحرامهم ومعرفـة أحکامهم هو النظر والاجتهاد ومعرفـة الأحکام عن دلیل تفصیلی ، کما هو شأن الفقیـه ، فالمستفاد من الروایـة وجوب الرجوع فی المنازعات والمحاکمات إلی الفقیـه والمجتهد ، لأنّـه منصوب للحکومـة ومجعول لها من قبل الصادق علیه السلام بقولـه : « فإنّی قد جعلتـه علیکم حاکماً » .
نعم ، یقع الکلام فی أنّ المراد من الحکومـة هل هو مجرّد منصب القضاوة ، أو الأعمّ منـه ومن الحکومـة والسلطنـة ، بحیث کان للفقیـه السلطنـة التامّـة بالنسبـة إلی جمیع الاُمور وکان واجداً لمقامین : مقام القضاوة ، ومقام الولایـة والحکومـة ؟
والظاهر هو الوجـه الثانی بقرینیـة صدر الروایـة وسؤال السائل ، فإنّ قولـه : فی رجلین من الأصحاب کان بینهما منازعـة فی دین أو میراث فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة ، یدلّ علی أنّ مراد السائل أعمّ من المنازعات التی یرجع فیها إلی القاضی لأجل فصل الخصومـة وهی المنازعات المشتملـة علی المدّعی والمنکر وأمثالها ، ومن المنازعات التی یرجع فیها إلی الوالی والحاکم کالمنازعات الواقعـة بین الناس غیر ما یشتمل منها علی المدّعی والمنکر وشبهـه ، فإنّ رفع ید الغاصب مثلاً أمر لا یرجع فیـه إلاّ إلی الوالی ، ولا شأن للقاضی فی مثل هذه الاُمور أصلاً . فتعمیم السائل التحاکم وتصریحـه بالسلطان والقاضی معاً مع أنّ لکلّ منهما شأناً یغایر شأن الآخر دلیل علی أنّ المراد من المنازعـة مطلق المنازعات .
وحینئذٍ فقولـه بعد ذلک : «قلت : فکیف یصنعان ؟» مرجعـه إلی أنّـه بعد حرمـة التحاکم إلی السلطان والقاضی الجائرین ما وظیفـة أصحابنا فی مطلق المنازعات ؟ فحکم الإمام علیه السلام بالرجوع إلی الفقیـه . فقولـه علیه السلام : « فإنّی قد
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 428
جعلتـه علیکم حاکماً » بملاحظـة صدر الروایـة ظاهر فی أنّ المراد من الحکومـة أعمّ من القضاوة والسلطنـة .
فثبت أنّ الفقیـه ثابت لـه ما کان ثابتاً للإمام علیه السلام من التصدّی لأمر القضاء ونفوذ حکمـه علی الناس فی جمیع الاُمور .
ویدلّ علیـه أیضاً أنّـه علیه السلام جعل التحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل تحاکماً إلی الطاغوت الذی أمر اللّٰه أن یُکفر بـه ، مع أنّ انطباق عنوان الطاغوت علی سلطان الجور الذی یرجع إلیـه فی بعض المنازعات أولی من انطباقـه علی القاضی من قبلهم ، فهو وإن کان جائراً وطاغوتاً ، إلاّ أنّـه من شؤون الوالی والسلطان ، وهو الأصل فی الطغیان ورأس الضلال کما فسّر بـه الطاغوت فی اللغـة .
ومن ذلک یظهر أنّ عمدة النظر فی إرجاع الناس إلی الفقیـه من الإمامیّـة إلی المنازعات التی کان یرجع فیها إلی السلطان .
نعم لا محیص عن الاعتراف بالدلالـة علی ثبوت منصب القضاوة لـه أیضاً ، إلاّ أنّـه لا تنحصر دلالـة المقبولـة بذلک ، وسؤال السائل بعد ذلک لا یدلّ علیـه بعد عدم کون فهمـه حجّـة ، مضافاً إلی احتمال کون السؤال عن بعض الفروع ، ألا تری أنّـه لا إشکال فی دلالـة المقبولـة علی جواز الرجوع إلی الفقیـه الواحد مع عدم کونـه مورداً لسؤال السائل أیضاً .
وکیف کان فلا إشکال فی أنّـه یستفاد من المقبولـة جواز دخالـة الفقیـه فی کلّ ما للقاضی والوالی من الشؤون .
ویدلّ علیـه أیضاً روایـة أبی خدیجـة قال : بعثنی أبو عبداللّٰه علیه السلام إلی أصحابنا فقال : « قل لهم : إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومـة أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بینکم رجلاً قد
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 429
عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّی قد جعلتـه علیکم قاضیاً ، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضاً إلی السلطان الجائر » . لأنّ المراد بالقاضی إنّما هو معناه اللغوی الذی ینطبق علی الحکومـة أیضاً ، مضافاً إلی أنّ ذکر السلطان الجائر فی الذیل مع أنّـه لم یکن الرجوع إلیـه إلاّ فی بعض المنازعات قرینـة علی عدم کون المراد بالقاضی خصوص المتصدّی لمنصب القضاوة ، کما لایخفی .
ویدلّ علیـه أیضاً غیرها من بعض الروایات الاُخر :
ومنها : روایـة أبی البختری عن أبی عبداللّٰه علیه السلام قال : « إنّ العلماء ورثـة الأنبیاء وذاک أنّ الأنبیاء لم یورّثوا درهماً ولا دیناراً ، وإنّما أورثوا أحادیث من أحادیثهم ، فمن أخذ بشیء منها فقد أخذ حظّاً وافراً . . . » ، الحدیث .
وتقریب الاستدلال بهـا أنّ قولـهعلیه السلام : « العلماء ورثـة الأنبیاء » إن کـان فی مقام الإنشاء وبصدد جعل الـوراثـة للعلماء فلا خفاء فی أنّ مقتضی إطلاق الوراثـة کونهم وارثین للأنبیاء فی جمیع شؤونهم ومناصبهم ما عدا منصب النبوّة . ومـن الواضـح ثبوت کلا المنصبین القضـاوة والحکومـة للأنبیاء . وإن کان فـی مقـام الإخبار ، کما یؤیّده بعض الأخبار ، حیث ذکـر هـذه الجملـة فـی سیـاق الجمل الخبریّـة ، فتدلّ أیضـاً علی الإطلاق لکـن لا بوضـوح الإنشـاء والجعـل ، کمـا لایخفی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 430
ومنهـا : مرسلـة الصـدوق قـال : قـال أمیـر المؤمنین علیه السلام : « قـال رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم : اللهمّ ارحم خلفائی ، قیل : یا رسول اللّٰه ومَن خلفاؤک ؟ قال : الذین یأتون من بعدی ویروون حدیثی وسنّتی » . ورواه فی المجالس بزیادة : « ثمّ یعلّمونها » فإنّ إطلاق الخلیفـة علی الفقهاء من دون تقیـیدها بجهـة خاصّـة یدلّ علی ثبوت منصبی القضاوة والحکومـة معاً لهم .
ومنها : روایـة الفقـه الرضوی علیه السلام أنّـه قال : « منزلـة الفقیـه فی هذا الوقت کمنزلـة الأنبیاء فی بنی إسرائیل » .
ومنهـا : روایـة إسماعیـل بـن جابر عـن أبـی عبداللّٰه علیه السلام أنّـه قـال : « العلماء اُمناء » .
ومنها : غیـر ذلک ممّـا یستفاد منـه توسعـة دائـرة ولایـة الفقیـه وثبوت جمیع المناصب لهم .
ومنها : غیر ذلک ممّا یمکن أن یستفاد منـه ذلک .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 431