فیما استدلّ بها الشیخ الأعظم للتعدّی عن المرجّحات المنصوصة
وکیف کان فذکر الشیخ قدس سره فی الرسالـة أنّ ما یمکن استفادة هذا المطلب منـه فقرات من الروایات ، ونحن نتعرّض لتلک الفقرات مع تقریب الاستدلال بها علی ما أفاده قدس سره ونجیب عن جمیعها ، فنقول :
قال قدس سره : منها الترجیح بالأصدقیّـة فی المقبولـة ، وبالأوثقیّـة فی المرفوعـة ، فإنّ اعتبار هاتین الصفتین لیس إلاّ لترجیح الأقرب إلی مطابقـة الواقع فی نظر الناظر فی المتعارضین من حیث إنّـه أقرب ، من غیر مدخلیّـة خصوصیّـة سبب ، ولیستا کالأعدلیّـة والأفقهیّـة تحتملان لاعتبار الأقربیـة الحاصلـة من السبب الخاصِّ، وحینئذٍ فإذا کان أحد الراویـین أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحدیث بالمعنی ، أو شبـه ذلک فیکون أصدق وأوثق من الراوی الآخر ، ونتعدّی من صفات الراوی المرجّحـة إلی صفات الروایـة الموجبـة لأقربیّـة صدورها . . . إلی أن قال : ویؤیّد ما ذکرنا أنّ الراوی بعد سماع الترجیح بمجموع الصفات لم یسأل عن صورة وجود بعضها وتخالفها فی الروایتین ، وإنّما سأل عن حکم صورة تساوی الراویـین فی الصفات المذکورة وغیرها حتّی قال : « لا یفضل أحدهما علی صاحبـه » یعنی بمزیّـة من المزایا أصلاً ، فلولا فهمـه أنّ کلّ واحد من هذه الصفات وما یشبهها مزیّـة مستقلّـة لم یکن وقع للسؤال عن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 413
صورة عـدم المزیّـة فیهما رأساً ، بل ناسبـه السؤال عـن حکم عـدم اجتماع الصفات فافهم ، انتهی .
ویرد علیـه ـ مضافاً إلی عدم وضوح الفرق بین الأصدقیّـة والأوثقیّـة وبین الأعدلیّـة والأفقهیّـة وشبههما من حیث الأقربیـة إلی الواقع أصلاً ـ أنّ ظاهر الروایـة هو کون المرجّح المجموع من حیث المجموع من الصفات ، ولا دلیل علی رفع الید عن هذا الظهور ، وما ذکره تأیـیداً یؤیّد بل یدلّ علی ما ذکرنا ، فإنّ عدم سؤال الراوی عن صورة وجود بعضها إنّما هو لأجل فهمـه کون المرجّح هو المجموع ، ولا یترتّب علی بعضها أثر أصلاً ، ومعنی قولـه : لا یفضل أحدهما علی صاحبـه ، أنّ ما جعل مرجّحاً لا یکون فی خصوص أحدهما ، بل کانا متساویـین لأجل عدم اتّصاف واحد منهما بالمجموع الذی هو المرجّح ، کما لایخفی .
ومنها : تعلیلـه علیه السلام الأخذ بالمشهور بقولـه : « فإنّ المجمع علیـه لا ریب فیـه » . توضیح ذلک : أنّ معنی کون الروایـة مشهورة کونها معروفـة عند الکلِّ، کما یدلّ علیـه فرض السائل کلیهما مشهورین . والمراد بالشاذّ ما لا یعرفـه إلاّ القلیل . ولا ریب أنّ المشهور بهذا المعنی لیس قطعیّاً من جمیع الجهات قطعی المتن والدلالـة حتّی یصیر ممّا لا ریب فیـه ، وإلاّ لم یمکن فرضهما مشهورین ، ولا الرجوع إلی صفات الراوی قبل ملاحظـة الشهرة ، ولا الحکم بالرجوع مع شهرتهما إلی المرجّحات الاُخر ، فالمراد بنفی الریب نفیـه بالإضافـة إلی الشاذ ، ومعناه أنّ الریب المحتمل فی الشاذ غیر محتمل فیـه ، فیصیر حاصل التعلیل ترجیح المشهور علی الشاذّ بأنّ فی الشاذّ احتمالاً لا یوجد فی المشهور . ومقتضی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 414
التعدّی عن مورد النصّ فی العلّـة وجوب الترجیح بکلّ ما یوجب کون أحد الخبرین أقلّ احتمالاً لمخالفـة الواقع ، انتهی .
ویرد علیـه : أنّ الظاهر کون المراد بعدم الریب فی المجمع علیـه هو عدم الریب فیـه حقیقـة ، ومقابلـه حینئذٍ ممّا لا ریب فی بطلانـه ، فالمجمع علیـه داخل فی الأمر الذی بیّن رشده ، والشاذّ فی الأمر البیّن الغی .
وقد عرفت أنّ الشهرة لیست من المرجّحات ، بل إنّما هی لتمیـیز الحجّـة عن اللاحجّـة لا لترجیح إحدی الحجّتین علی الاُخری ، والرجوع إلی صفات الحاکم قبل ملاحظـة الشهرة التی هـی دلیل قطعی یحتمل أن یکـون لعدم صلاحیّـة غیر الواجد لتلک الصفات الأربع مع وجود الواجد لها لمقام القضاوة والحکومـة أصلاً ولو کان قاضی التحکیم کما ذهب إلیـه بعض ، بل لعلّـه کان مشهوراً ، فالترجیح بتلک الصفات إنّما هو لأجل تمیـیز الصالح للحکومـة عن غیره ، وبعد فرض الراوی صلاحیتهما للحکومـة لأجل عدم کون واحد منهما لـه فضل علی الآخر أوجب الإمام علیه السلامالرجوع إلی المستند الذی کان مشهوراً لأجـل کونـه قطعیّاً ، کما لایخفی .
ومنها : تعلیلهم علیهم السلام لتقدیم الخبر المخالف للعامّـة بأنّ الحق والرشد فی خلافهم وأنّ ما وافقهم فیـه التقیـة ، فإنّ هذه کلّها قضایا غالبیّـة لا دائمیـة ، فیدلّ بحکم التعلیل علی وجوب ترجیح کلّ ما کان معـه امارة الحقّ والرشد ، وترک ما فیـه مظنّـة خلاف الحقّ والرشد ، بل الإنصاف أنّ مقتضی هذا التعلیل کسابقـه وجوب الترجیح بما هو أبعد عن الباطل عن الآخر وإن لم یکن علیـه أمارة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 415
المطابقـة ، کما یدلّ علیـه قولـه علیه السلام : « ما جاءکم عنّا من حدیثین مختلفین فقسهما علی کتاب اللّٰه وأحادیثنا ، فإن أشبههما فهو حقِّ، وإن لم یشبههما فهو باطل » ، فإنّـه لا توجیـه لهاتین القضیّتین إلاّ ما ذکرنا من إرادة الأبعدیّـة عن الباطل والأقربیّـة إلیـه ، انتهی .
ویرد علیـه ـ مضافاً إلی عدم ظهور الروایات الواردة فی الترجیح بمخالفـة العامّـة فی کون الأخـذ بـه معلّلاً بما ذکر ، فانظر إلی المقبولـة ، یقول علیه السلامفیها : « ما خالف العامّـة ففیـه الرشد » ، فإنّـه لیس بحسب العبارة تعلیلاً أصلاً ، وإلی عـدم وضوح الفرق بین الأقربیّـة إلی الواقـع والأبعدیّـة عـن الباطل أنّـه مع تسلیمه یستفاد منه ، أنّ مخالفة العامّـة تکون بمرتبة من الإصابـة ، حتّی یکون الحقّ والرشد فیها ، وهو لا یدلّ علی أنّ کلّ ما کان بنظرنا أقرب إلی الواقع ، یکون فیه الرشد ولو نوعاً وغالبیاً .
وبالجملـة ما لم یحرز کون مزیّـة بمرتبـة مخالفـة العامّـة فی الإ یصال إلی الحـق، لا یجوز الأخـذ بها ، وأنّی لنا بإثباتـه ؟
ومنها : قولـه علیه السلام : « دع ما یریبک إلی ما لا یریبک » دلّ علی أنّـه إذا دار
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 416
الأمر بین الأمرین فی أحدهما ریب لیس فی الآخر ذلک الریب یجب الأخذ بـه ، ولیس المراد نفی مطلق الریب ، کما لایخفی ، انتهی .
ویرد علیـه أنّ الظاهر عدم کون هذه الروایـة ناظرة إلی باب المتعارضین أصلاً ، بل الظاهر أنّها ناظرة إلی أنّ الأمر المشتبـه بالشبهـة الابتدائیّـة ینبغی ترکـه ، نظراً إلی ما لا یکون فیـه ریب من الثواب المترتّب علی ترکـه ، فهی أجنبیّـة عن المقام . فانقدح ممّا ذکرنا : أنّـه لم ینهض شیء ممّا تمسّک بـه الشیخ قدس سرهلإفادة جواز التعدّی عن المرجّحات المنصوصـة .
نعم یمکن التمسّک لإثبات ذلک إلی أنّ المستند لثبوت التخیـیر فی المتعارضین هو الإجماع ، ولم یعلم کون مستند المجمعین هو الروایات الواردة فی التخیـیر ، بل یمکن أن یقال بالعدم ، نظراً إلی أنّ روایـة التخیـیر ظاهرة فی جوازه وهم قائلون بوجوب الأخذ بأحدهما مخیّراً فتأ مّل .
وإلی أنّـه لو کان مستندهم فی ذلک هی الروایات الدالّـة علی التخیـیر یلزم أن تکون محمولـة علی الفرد النادر ، لما عرفت من ادّعاء بعضهم الإجماع علی وجوب العمل بالراجح من الدلیلین مطلقاً ، وهذا یؤیّد بل یدلّ علی عدم کون استنادهم فی الحکم بالتخیـیر إلی الروایات أصلاً ، وإلاّ یلزم ما ذکر من حملها علی المورد النادر ، فالمستند فی التخیـیر هو نفس الإجماع ، والقدر المتیقّن منـه إنّما هو صورة فقد المرجّح رأساً ، ومع وجود شیء من المرجّحات یدور الأمر بین التعیـین والتخیـیر ، وعند دوران الأمر بینهما لابدّ من الأخذ بالمعیّن کما تقدّم .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 417